يونس جنوحي
«المؤرخ محمد بن الطيب القادري الذي عاش سنة 1716، سجل كيف أن هذه الظاهرة أصبحت حديث البلاد كلها. يقول في مرجع «نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني»:
«.. وأخبروا أيضا أنهم رأوا في الجو مخلوقا عظيما محمولا في الهواء، رأسه رأس ثعبان وذنبه ذنب سمك، وفي ظهره شيء كالصومعة، ويده كيد الإنسان، وفي إحدى يديه سيف، عرضه نحو ستين ميلا، وأما طوله فلا يعلم لأنه بقي يجوز نحو ثلاثة أيام، والله على كل شيء قدير!».
لم يكن هناك تفسير علمي وقتها للظاهرة، رغم أن المغاربة في ذلك التاريخ كانوا قد برعوا في علم الفلك، وألفوا فيه.
بعض التيارات السلفية داخل الدولة، خصوصا منهم الذين كانوا مقربين من سلاطين الدولة العلوية، لم يكونوا يعتمدون كتب هذا المؤرخ المغربي، ذي الأصول العربية، بحكم أنه كان صوفيا، بينما كان المقربون من المخزن، سيما العلماء والقضاة والوزراء الذين درسوا في القرويين، يهاجمون المتصوفين الذين كان محمد بن الطيب القادري أشهرهم».
ما هي حكاية رؤية الأجسام الغريبة في السماء؟
لا حديث هذه الأيام إلا عن الأجسام الغريبة التي تسبح في سماء مدينة طنجة، والتي وثق لها الناس بهواتفهم النقالة، قبل أن يأتي التفسير بأن الأمر يتعلق بأجسام مرت قرب الأرض، وكانت رؤيتها بالعين ممكنة، بحكم أنها مجسمات فضائية.
بينما في مرات أخرى، رصد الناس وسجلوا بهواتفهم لحظات سقوط نيازك فوق الأرض، واشتعالها في السماء وهي تحتك مع الغلاف الجوي. وجاء تفسير الظاهرة علميا ساعات فقط بعد وقوعها.
لكن قبل خمسين سنة من اليوم، لم يكن هذا الأمر متاحا. بل إن رصد ظاهرة من هذا النوع كانت ترافقه تفسيرات غريبة، ليس في المغرب فقط، وإنما في الدول المتقدمة. بل إن الولايات المتحدة الأمريكية خلال ذروة تفوقها في الأبحاث الفضائية، كانت تسجل إقبالا غير مألوف لمواطنيها على مجلات الخيال العلمي التي تنشر روايات عن رؤية مواطنين حول العالم لكائنات فضائية، ورَسَمت لهم صورا خيالية وروجت بقوة لظهور كائنات فضائية فوق الأرض.
سفارات الولايات المتحدة حول العالم كانت تنقل تقارير إلى واشطن، بخصوص كل الظواهر التي شهدتها سماء دول تتوفر على مقر للسفارة الأمريكية في الرباط. حيث سجلت أقواها فوق سماء المغرب، وراجت روايات عن رؤية الصحون الطائرة فوق سماء مدن الدار البيضاء، مكناس وطنجة، على امتداد مدة زمنية تفوق العشرين سنة. والمشترك بين هذه الظواهر أنها لم تقدم أي توثيق ولو بالصورة للواقعة، بحكم أن إمكانية التصوير لم تكن متاحة في ذلك التاريخ. وكان التوثيق لحدوثها يقتصر فقط على الرواية الشفهية التي لم تكن تخلو من مبالغات، وينقلها أعوان السلطة بكثير من الحماس لتصل إلى الرباط عن طريق قنوات وزارة الداخلية.
بعد تسريبات موقع «ويكيليكس» الشهير، ظهرت تقارير من أرشيف الخارجية الأمريكية كلها مخصصة لهذا النوع من الظواهر، وكان المغرب من بين الدول التي اهتمت بهذا النوع من الأحداث، وطلبت من السفارة الأمريكية في الرباط تفسيرا له، بحكم أن الأمريكيين وقتها كانوا سباقين في الوصول إلى الفضاء ونشر الأقمار الاصطناعية.
المواصفات التي نقلتها الروايات الشفهية في المغرب للواقعة نفسها، في أماكن مختلفة وفي التوقيت ذاته، كانت لا تدع أي مجال للشك، إذ إنها كانت متطابقة وتتحدث عن أجسام ضوئية غريبة تتحرك بخفة.
الرافضون لتصديق الإشاعات كانوا يتحدثون عن اختراعات أمريكية في مجال البحث الفضائي والمسح بالأقمار الاصطناعية، لكن الإدارة الأمريكية ظلت تنفي وقتها أن تكون مسؤولة عن ظهور تلك الأضواء في السماء. قبل أن يتم تفسير بعضها فقط في وقت لاحق، بأنها نيازك وأجسام مذنبات اخترقت الغلاف الجوي أو مرت قرب الأرض، وكانت رؤيتها بالعين المجردة ممكنة.
صحون طائرة فوق مكناس ورعاة رأوا «فضائيين» سنة 1968
اليوم، هناك أكثر من أربعة تقارير في أرشيف الخارجية الأمريكية، تتعلق بسفارتها في الرباط. الخيط الذي يجمع هذه التقارير هو «المخلوقات الفضائية».
نعم، هذه الظاهرة تكررت في المغرب أكثر من أربع مرات، خلال فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني.
وأقوى واقعة تتعلق بالموضوع، تلك التي احتضنتها سماء مدينة طنجة، إذ إن الإسبان بدورهم دخلوا على الخط.
هل يعقل أن يكون الأمر مرتبطا بكائنات فضائية؟
حساسية المنطقة في مضيق جبل طارق وعموم شمال المغرب، نتحدث هنا عن خمسينيات وستينيات القرن الماضي خلال الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفياتي، جعلتها محط أنظار السفارات الأجنبية، خصوصا الأمريكية والإسبانية. بل إن الولايات المتحدة أبقت على رادارات متطورة في جنوب إسبانيا لمراقبة حركة الملاحة الجوية والبحرية، ورصد حركة الصواريخ، تحسبا لأي هجوم غير متوقع من الاتحاد السوفياتي على الولايات المتحدة.
واقع أن أمريكا أرادت مراقبة المحيط الأطلسي من بدايته وصولا إلى حدودها البحرية، جعلها تراكم عددا كبيرا من التقارير بخصوص الملاحة الجوية والظواهر الكونية.
ما وقع مرة سنة 1968، أن السلطات العمومية رصدت ظاهرة غريبة في سماء القرى المجاورة لمدينة مكناس، حيث أبرقت إلى الرباط بمراسلات مفادها أن مزارعين ورعاة في القرى، أفادوا بأن أجساما غريبة ظهرت في السماء، بعد منتصف الليل. مصالح الداخلية سجلت في تقاريرها أن هؤلاء المزارعين يدعون أنهم لم يسبق لهم مشاهدة ظاهرة مماثلة، وقدموا مواصفات لشكل الأجسام الغريبة التي رأوها.
وهو ما جعل السلطات المغربية تتواصل رأسا مع السفارة الأمريكية في الرباط، لتقديم تلك المعلومات.
السفير الأمريكي راسل بدوره الخارجية الأمريكية، واتضح أن الولايات المتحدة لم تطلق ولم ترصد أي صواريخ أو أقمار اصطناعية، وبقي لغز تلك الأجسام محيرا، إلى أن تكررت الظاهرة في أماكن أخرى من العالم، ليتضح في الأخير أن الأمر قد يتعلق بنيازك سقطت في مناطق متفرقة فوق الكوكب، خلال تلك الأيام.
ولم تكن تلك المرة الوحيدة، بل جاءت مناسبات أخرى، تدخل الملك الراحل الحسن الثاني في إحداها شخصيا وطلب تفسيرا منطقيا من الأمريكيين، بحكم أنهم كانوا متقدمين جدا في مجال الفضاء.
هذه الظاهرة، أي رؤية الأجسام الغريبة في السماء، لم تكن جديدة في ذلك العصر الذي سيطرت عليه أبحاث الفضاء والصعود إلى القمر، بل تعود إلى أزمنة خلت، أرخ لها مؤرخون مغاربة عاشوا في المغرب قبل مئات السنين، وتحدثوا عن مشاهدات غريبة وربطوها بقوى خارقة شيطانية وغيبية، بل ووصل الأمر حد ادعاء رؤية مخلوقات أخرى. علما أن أجدادنا المغاربة برعوا في علم الفلك ورصدوا حركة النيازك والأجسام الفضائية وحركة الكواكب والحساب الفلكي الدقيق الذي يتابع حركة القمر وظهوره بدقة، ورغم ذلك كله فإن أصوات هؤلاء العلماء لم تكن تُسمع وسط ضجيج الادعاءات والخرافات والأساطير التي تجد جمهورا لها، قبل مئات السنين، يستهلكها بكثير من الحماس، ويروج لها بحماس أكبر.
اتصال الحسن الثاني بالسفير الأمريكي ليلا بخصوص أجسام غريبة في السماء
في ليلة يومي 18 و19 شتنبر سنة 1976، رن هاتف مكتب السفير الأمريكي في الرباط، ولم يكن المتصل سوى الديوان الملكي، حيث طُلب من السفير أن يبقى على الخط لأن الملك الراحل الحسن الثاني يريد الحديث إليه في أمر ما.
وحسب أرشيف المراسلات التي أفرج عنها أرشيف الخارجية الأمريكية، والتي سربها موقع «ويكيليكس» الشهير خلال حملة التسريبات سنة 2013، فإن الملك الحسن الثاني استفسر السفير الأمريكي عن سر ظاهرة غريبة في السماء، حيث تردد في الأوساط الشعبية أن الأمر يتعلق بصحون طائرة.
وكان وقتها معروفا أن الصحافة الأمريكية كانت تولي اهتماما كبيرا لأبحاث الفضاء، وانتشرت بكثرة القصص المثيرة، والمُبالغ فيها أحيانا، عن الكائنات الفضائية والصحون الطائرة، حول العالم، بل وخُصصت لها المجلات العلمية وحتى مطبوعات الخيال العلمي الموجهة إلى الأطفال.
يقول السفير الأمريكي إن الملك الراحل الحسن الثاني بعد تلك المكالمة، أرسل له مسؤولا أمنيا رفيعا إلى مكتبه لكي يطلعه على ما يروج في المدن التي شهدت تلك الظاهرة الكونية الفريدة في السماء، حيث اتصلت مصالح وزارة الداخلية في بعض الأقاليم وقتها بالإدارة المركزية في الرباط، تنقل إليها ما عاشه الناس في تلك الليلة، حيث ظهرت أجسام غريبة في السماء، كان شكلها البيضاوي يشبه الصحون الطائرة، وبقيت في السماء لدقائق قبل أن تختفي نهائيا.
ودائما حسب مراسلة السفير الأمريكي في الرباط وقتها، فإن الأمر كان يتعلق بمدن الدار البيضاء وأكادير والقنيطرة ومراكش، بينما استمرت هذه الظاهرة ما بين الواحدة والثالثة صباحا.
عندما توصل الملك الراحل الحسن الثاني بتلك التفاصيل، أراد أن يعرف من خلال السفير الأمريكي في الرباط ما إن كانت هناك تجارب تُجرى لإرسال أقمار إلى الفضاء، أو أن الأمر يتعلق بظاهرة فلكية غامضة يتابعها الأمريكيون، بحكم أن الولايات المتحدة في ذلك التاريخ كانت تهيمن على أبحاث الفضاء.
يدون السفير الأمريكي في تقريره أنه لم يكن يملك الاختيار، وأنه كان مضطرا إلى مراسلة الخارجية الأمريكية، لكي يقدم تفسيرا رسميا وعلميا للملك الراحل الحسن الثاني بهذا الخصوص. إذ رغم أن الملك الراحل في تلك المكالمة الهاتفية حكى للسفير ما وصل إليه في تقارير وزارة الداخلية من المدن التي شهدت الظاهرة، إلا أنه أراد تفسيرا مضبوطا لما وقع.
لكي يظهر في الأخير أن الأمر كان يتعلق بمرور شهب فوق سماء المنطقة، ما بين القنيطرة وأكادير.
وبعد سنة على تلك الواقعة، سُجلت ظاهرة مشابهة فوق سماء طنجة، لكن هذه المرة كانت المصالح الإسبانية سباقة إلى التساؤل عن سر تلك الظاهرة العجيبة، وانتشرت الإشاعات في أوساط الرعايا الإسبان في المدينة، أن هناك كائنات فضائية مرت فوق سماء عاصمة البوغاز، وأنها تنوي الهبوط.
في السياق نفسه، كانت هذه الروايات منتشرة عبر العالم، حتى أن الولايات المتحدة في النصف الأخير من سبعينيات القرن الماضي، عرفت ظهور نوع جديد من المجلات التي صنفت وقتها «علمية»، وكان مجال تخصصها رصد هذه الظواهر الفضائية، حيث كانت دائما تختار عناوين مثيرة من قبيل: «هل يوجد سكان آخرون في الفضاء»؟ وكانت هذه المجلات تعرف إقبالا كبيرا وحققت مبيعات خيالية. والسبب، اهتمام الناس بكل ما يتعلق بالفضاء. وهكذا كانت الظاهرة التي تناولها سفير واشنطن لدى الرباط، تصب في هذا السياق.
الصوفي ابن الطيب القادري سجّل «ظهور مخلوق فضائي» سنة 1716
هذا العالم الصوفي عاصر ظاهرة كونية، قلما دونها المؤرخون المغاربة.
إذ إن المغرب عرف ظاهرة فضائية في ذلك التاريخ، وانتبه إليها المؤرخ محمد بن الطيب القادري، وسجلها في يومياته التي تناول فيها حيزا مهما من تاريخ المغرب، ويعتبرها الباحثون اليوم إحدى أقوى الوثائق التي تؤرخ للتصوف المغربي.
إذ إن هذا المؤرخ سجل كيف أن هذه الظاهرة أصبحت حديث البلاد كلها. يقول في مرجع «نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني»:
«.. وأخبروا أيضا أنهم رأوا في الجو مخلوقا عظيما محمولا في الهواء، رأسه رأس ثعبان وذنبه ذنب سمك، وفي ظهره شيء كالصومعة، ويده كيد الإنسان، وفي إحدى يديه سيف، عرضه نحو ستين ميلا، وأما طوله فلا يعلم لأنه بقي يجوز نحو ثلاثة أيام، والله على كل شيء قدير!».
لم يكن هناك تفسير علمي وقتها للظاهرة، رغم أن المغاربة في ذلك التاريخ كانوا قد برعوا في علم الفلك، وألفوا فيه.
بعض التيارات السلفية داخل الدولة، خصوصا منهم الذين كانوا مقربين من سلاطين الدولة العلوية، لم يكونوا يعتمدون كتب هذا المؤرخ المغربي، ذي الأصول العربية، بحكم أنه كان صوفيا، بينما كان المقربون من المخزن، سيما العلماء والقضاة والوزراء الذين درسوا في القرويين، يهاجمون المتصوفين الذين كان محمد بن الطيب القادري أشهرهم.
وهكذا فإن المخزن لم يتعامل بشكل جدي مع تلك الظاهرة، واعتبرها بعض علماء القرويين أنها ليست إلا «هرطقات» المشرفين على الزوايا، خصوصا منهم الذين لم يكونوا مهتمين إلا بحشد الأتباع والأنصار. ظاهرة فضائية، مثل التي تحدث عنها القادري، كافية لكي تحشد الآلاف ليتبعوا شيخ الطريقة ويناصروه، خصوصا في أزمنة عدم الاستقرار السياسي. ولهذا السبب كان انتشار مثل هذه الإشاعات غير بريء في عدد من المناسبات.
إلا أن ما يشفع للقادري، أنه اشتغل باعتباره مؤرخا على وثائق وشهادات كثيرة، ويُنسب له اليوم فضل ترجمة سيرة قرابة 500 عالم مغربي من مختلف العصور، ولولا مجهودات القادري لما وصلت إلينا سير بعض العلماء المغاربة الكبار.
وقد قضى هذا المؤرخ جل حياته في مدينة فاس التي دفن فيها ما بين سنتي 1773 و1774، تاركا خلفه أبحاثا تاريخية مهمة جدا، حيث حاول التوثيق للأحداث والوقائع التي عرفها المغرب خلال أزيد من قرنين، معتمدا على الرواية الشفهية ومخطوطات العلماء المغاربة التي حقق أغلبها بنفسه ورتبها حسب تسلسلها الزمني، وهو ما يعتبر إلى اليوم مجهودا جبارا في التأريخ.
إشاعات عن القوى الخارقة سببها السياسة
في بداية القرن العشرين، وبالضبط سنة 1905، سجلت ظاهرة غريبة انتشرت إشاعات كثيرة بشأنها.
إذ إن سكان مدينة طنجة استيقظوا على حدث غريب، احترق حقل بالكامل دون أن تصل النيران إلى الحقل المجاور له. وكان الحريق قد شمل كامل مساحة الحقل، الذي تعود ملكيته إلى أحد أثرياء طنجة، الذي نافس حاكمها على منصب الخليفة السلطاني. بينما كان الحقل الثاني في ملكية المنافس الثاني له للفوز بالمنصب.
انتشرت الإشاعة سريعا، واختلف الناس في تفسيرها، ودخل حتى الفقهاء والعلماء على الخط.
بين من يقول إن الواقعة إشارة قوية من الله تعالى لكي لا يتبع الناس منافس الخليفة السلطاني، وما الحادث سوى تأكيد رباني على عدم أهليته وفساده. بينما طائفة أخرى ذهبت إلى ربط الواقعة بالغيب، وتحدثت عن ظهور كائنات غريبة هي التي أضرمت النار في حقل منافس الخليفة وأتت عليه كاملا، ولم تمس بشرارة حقل الخليفة السلطاني.
يقول القنصل الأمريكي إدمون هولت، والذي اشتغل في مقر المفوضية الأمريكية إلى حدود 1909 في مدينة طنجة التي كانت وقتها منطقة دولية، في مذكراته «حياة في أرض الغروب»، إن الظاهرة أرقت سكان طنجة وتحدث عنها الناس كثيرا. ولم ينتبه أحد إلى التفسير المنطقي الذي لم يُعرف إلا لاحقا. إذ إن الخليفة السلطاني أراد سحق خصمه، فأرسل رجاله ليلا لكي يضرموا النار، ملثمين، في أرض منافسه التي كانت مجاورة لأرضه وملاصقة لها. وقاموا باستغلال هبوب الرياح الشرقية في تلك الليلة، لكي تنتشر النيران سريعا في اتجاه مساحة أرض منافسه، إلى أن احترق محصولها بالكامل، وأوقفوا تقدم النيران بتطويقها قبل أن تصل إلى أرض مدبر الحادث. وفي الصباح انتشرت الإشاعات وروجها أتباع الخليفة السلطاني بقوة، حيث تحدثوا عن هبوب ريح مسخرة لإحراق حقل منافس الخليفة، بينما آخرون أكدوا أنهم رأوا أجسام غريبة تنزل من السماء لحرق أرض منافس الخليفة، الذي انتهت كل حظوظه للفوز بالمنصب.
المثير أن هذا القنصل الأمريكي، إدمون هولت، كتب في مذكراته ما يفيد بأن هؤلاء المخزنيين الذين كانوا يبنون مجدهم السياسي على نشر الإشاعات، كان جلهم يرغبون في الحصول على جنسيات أجنبية لكي يصبحوا محميين، وهو ما يؤكد أنهم كانوا فعلا لا يصدقون الإشاعات والخرافات التي تُنشر عنهم، أحيانا بدون علمهم، بل باجتهاد فقط من أتباعهم. يقول:
«عندما بدأت الحكومة الأمريكية في تقوية قوانين وشروط منح الجنسية الأمريكية للأجانب، خصوصا البند المتعلق بمنع الحاصلين على الجنسية من الإقامة في بلدانهم الأصلية لأكثر من عامين دون زيارة أمريكا، أو أي بلد آخر لأكثر من خمس سنوات، فإن الأمور بدأت تتعقد. بالإضافة إلى أن هذه القوانين ينتج عن خرقها سحب للجنسية الأمريكية نهائيا».
لكن هولت يؤكد هنا أن المغرب كان استثناء، إذ إن الحكومة الأمريكية استثنت من هذا القانون، مواطنيها الأمريكيين المقيمين في المغرب، ربما لبُعد المسافة، وقررت أن يبرر الأمريكيون إقامتهم في المغرب، إذا تجاوزت السنتين، إما بسبب نشاط تجاري، أو لسبب يتعلق بالعمل، أو للضرورة الصحية، إذا ثبت أن الأمريكي يعيش حالة تحسن صحي في البلد الذي يقيم فيه.
ينتقل هولت، مع اقتراب نهاية مذكراته إلى الحديث عن الجهات الأخرى من المغرب، والأخبار التي كانت شائعة في الفترة التي كتب فيها مذكراته، والتي تتعلق بوجود ثروة معدنية في المغرب تتربص بها كبريات الشركات الدولية، التي تنقب عن المعادن وتسيطر على سوق المناجم في العالم.
يقول هولت: «يمكن للأجنبي أن يسافر بين مدينة الصويرة ومراكش بكل حرية، لكن شريطة أن يسافر متخفيا.
مراكش، هي العاصمة الجنوبية للمغرب، والسلطان يتوفر على نائب له هناك ليمثله في جنوب البلاد. لكن في الحقيقة كان هناك أشخاص آخرون مؤثرون في الحكم بالجنوب، بالإضافة إلى نائب السلطان. كان هناك الكلاوي، عيسى بن عمر، والجيلالي.
هؤلاء الثلاثة كانوا يستطيعون تنحية السلطان إذا أرادوا ذلك. يتحكمون في عدد هائل من الرجال، ولديهم ثروات مالية أكبر، ويتحكمون في جزء كبير من التراب المغربي.
سوس إذن يتحكم فيها الكلاوي وعيسى بن عمر، لكن طريقتهم هذه في الحكم تتمثل في دفع ضرائب سخية للقياد والباشوات الذين يبقى عددهم كبيرا في الجنوب.
عندما يقرر واحد من هؤلاء زيارة السلطان، فإنه يأخذ معه عددا من القياد، وهؤلاء يجمعون قدرا مهما من الضرائب، وهكذا يجمعون رجالا كثر، بحسب القبائل وزعمائها، ويخبرون السلطان أنهم تحت تصرفه في حالة الحرب، كان الأمر يشبه تجمعا فيوداليا.
في سنة 1910، كان القائدان أنفلوس والجيلالي قد أخذا الصراع إلى مشارف الصويرة، التي كانت تجمعا تجاريا كبيرا. كان هناك حضور كبير لرجال الدولة والعلاقات المؤثرة التي تسيطر على المال، لذلك تحالف القائدان لجني آلاف الدولارات، وهو الأمر الذي جعل عددا من التجار الأجانب يتصلون بالقنصليات التي تمثلهم».
خرافات انتشرت مع ظهور السيارات والهاتف وأسلاك الكهرباء..
لم يطو أجدادنا صفحة القرن التاسع عشر بسرعة، وحتى مرورهم إلى القرن العشرين كان فعلا مثيرا وشهد مخاضا كبيرا.
ما وقع في فاس، التي كانت عاصمة للمغرب ما بين سنتي 1900 و1910، يستحق فعلا التأمل.
إذ حسب ما يتوفر في أرشيف الصحافة البريطانية والفرنسية التي كانت تعتمد وقتها مراسلين كثر من المغرب، سيما من فاس وطنجة، فإن سكان فاس تابعوا بقلق وصول التيار الكهربائي إلى المدينة، وانتشرت إشاعات كثيرة بخصوص هذا الاختراع، إلى درجة أن علماء القرويين حرموا الجلوس بقرب المصابيح الكهربائية. حتى أن موافقة المولى عبد العزيز على السماح لمهندسين ألمان بوصل القصر الملكي لفاس بالتيار الكهربائي، جرت عليه غضبا في أوساط العلماء الذين أجمعوا على أن السلطان الشاب يمضي في طريق قد يجر عليه لعنة ما في المستقبل، وأنه لا يمكن السماح للسلطان بالتمادي في تلك التصرفات.
بينما كان وصول أول سيارة إلى فاس قادمة من طنجة، في الفترة نفسها، حدثا آخر جر عليه غضب ما تبقى من العلماء وكبار أعيان فاس، الذين رأوا السلطان مولاي عبد العزيز يركب إلى جوار سائق سيارة، قالوا: «إنها تسير بدون خيول». وانتشرت إشاعات أثارت فتنة كبيرة في فاس، ومنها في بقية مناطق المغرب، إذ لم يكن مقبولا أن يركب السلطان عربة تسير بدون خيول، وتدفعها قوى غامضة تفرق الناس بين نسبها إلى الجن أو الشياطين.
أما خطوط الهاتف فقد كانت بدورها حدثا انتشرت بخصوصه إشاعات كثيرة، مفادها أن أرواح شريرة تسكن تلك الأسلاك، لأنها تنقل أصوات البشر بين المناطق البعيدة، وأنه لا يعقل أن يصل الصوت من طنجة إلى فاس، خصوصا وأن المسافة بين المدينتين بلغت في تلك الأيام خمسة أيام من السفر المتواصل. لذلك ربطها الناس مباشرة بالقوى الغامضة والشريرة.
هذه الإشاعات، انتشرت بسرعة كبيرة قبل أن يعتاد المغاربة تدريجيا على انتشار الاختراعات الغربية، وسرعان ما أصبح المغاربة متصالحين معها، واتضح أن أغلب العلماء وقتها أخطؤوا في تقديرهم لتلك الاختراعات، وربطوها بالغيبيات والقوى الخارقة، قبل أن يصبحوا من مستهلكيها الأوائل. إذ سرعان ما أصبح القضاة في فاس والرباط من أوائل من اقتنوا السيارات، حيث إن مكانتهم الاجتماعية سمحت لهم باقتناء سيارات أوروبية وتوظيف من يقودها لصالحهم، وربطوا منازلهم باشتراك في الهاتف، وسرعان ما اتضح للعامة أن الأمر كان يتعلق بإشاعات انتشرت بسرعة، وروجت لها شخصيات كانت تحظى بمصداقية كبيرة لدى المغاربة.