هل ثمة سرطان اجتماعي؟
بقلم: خالص جلبي
هل يمكن للمجتمع أن يتسرطن فيقضي نحبه، كما يقضي سرطان المعدة أو الكولون على المريض؟ هل يمكن للخلايا الاجتماعية أن تصاب بـ(الخبث) في تصرفاتها، كما تفعل الخلايا السرطانية المدمرة في الجسم؟ هل هناك مظاهر أو تصرفات اجتماعية توحي بمثل هذا التحول المدمر؟ وهل هناك أدوات وأجهزة للتشخيص المبكر في هذه التحولات الخبيثة؟ بل هل تطورت الأبحاث الاجتماعية بما فيه الكفاية مثل الأبحاث البيولوجية، فطورت المعالجة الاجتماعية (الكيمياوية والشعاعية بل والجينية) كما في معالجة سرطانات البدن، من أجل التطهير الاجتماعي والقضاء على الخلايا المسرطنة القاتلة، ونجاة البدن من موت محقق؟ وهل يموت المجتمع بهذا الداء العضال، كما يموت الأفراد بالسرطانات المختلفة؟ بل هل هناك بالأصل (موت اجتماعي) فتموت الأمة كما يموت أي فرد؟ وإذا وجد فكيف تتجلى صورته؟
دخل علي الزميل (أبو حسن) وقد استشاط غضبا؛ فارتفع صوته وتهدجت نبراته، على واقعة اقتصادية مدمرة تحدث بين الحين والآخر وفي أكثر من بلد، عن رجل خدع الناس فجمع أموالهم وغرر بهم، تحت سراب الربح الوفير، فيأتيهم رزقهم رغدا بالعشي والإبكار!
وهكذا قام (الساحر) الاقتصادي الجديد بالمعجزة الألمانية الاقتصادية الثانية! وأراح العباد من هم المستقبل واستثمار الأموال، فهرع الناس إليه زرافات ووحدانا، يضعون بين يدي الساحر تعب العمر وشقاء الليالي، وتراكمت الأموال والآمال، حتى انقشع السراب الخادع كالعادة فانهارت المؤسسة المالية الجبارة الموهومة، وأفلس صاحبها (المظلوم)! وطارت الأموال إلى الأرصدة الخارجية، وتبخرت أموال الناس بين يدي (الدجال) الاقتصادي، وأصابهم ما أصاب أهل البستان (فأصبحت كالصريم) وأخذوا يقلبون أيديهم في ظل الكارثة، وهم يتأملون سمك القرش الاجتماعي الجديد، بين اقتصاد مدمر، وثقة تخلخلت، وأسعار للعقارات ارتفعت، وجمود في حركة المبايعات. فالعقارات أصبحت معلقة في الهواء بعد انتفاخ الأسعار الوهمي، في انتظار مسيلمة كذاب جديد، ولا غرابة لما حدث لأن الحمق ليس له علاج، وقديما سأل الجاحظ غلاما فقال له: «يا غلام: أيرضيك أن يكون لك مائة ألف دينار وتكون أحمق»، قال: «لا والله يا عماه»، قال له الجاحظ: «ويلك يا غلام ولم؟»، قال: «يا عماه: أُضيع الدنانير وأبقى أحمق».
هذا المرض الاجتماعي ليس اليتيم الذي يحدث، بمحاولة الفرد (الانتهازي) أن يتضخم فـ(يتورم) و(يتسرطن) على حساب الجماعة التي منحته الوجود الاجتماعي بعد البيولوجي، فيتحول إلى (مجموعة القوارض الاجتماعية) التي تقضم الشبكة الاجتماعية! أو الخلايا السرطانية الاجتماعية التي تفترس الأنسجة الحية.
يا ترى كيف يمكن تصنيف هذا المرض ضمن قائمة (أمراض اجتماعية) لا تحصى؟ فكما يصاب الفرد بالمرض، سواء العضوي أو النفسي، فإن الجماعات لها أمراضها (النوعية) الخاصة بها، فكل مرض يشكل وحدة عضوية خاصة به ذات شخصية متكاملة، سواء الزكام أو السل أو انتهاء بالسرطان، كذلك الحال في الأمراض الاجتماعية، فالجعبة مليئة، وليس المثل السابق إلا واحد من الكثير من أمثال (عدم احترام القانون وتجاوز إشارات المرور)، و(كراهية النظام والانضباط)، و(السطحية في معالجة الأمور)، و(عدم رؤية المشاكل قبل وقوعها، بل الاصطدام بها بعد ذلك مثل العميان)، و(نمو الفردية إلى درجة الانتفاخ)، و(النطق بلا مسؤولية)، و(عدم احترام الآخرين)، و(التسيب الوظيفي) و(واللافعالية) و( البيروقرطية غير المنتجة)، و(عدم تقدير الوقت)، و(ضعف الذوق الجمالي)، و(غياب الروح العملية)، و(انطفاء روح المبادرة)، و(عدم الشعور بالحرج من سرقة المال العام). وتبقى مجموعة خطيرة للغاية تساهم في تقويض البنيان الاجتماعي، يأتي في قمتها (الرشوة) و(المحسوبية) و(والوساطة) واختصرها القرآن بالثلاثي: الشفاعة التي تقابل الوساطة (ولا يقبل منها شفاعة)، والعدل مقابل الرشوة (ولا يؤخذ منها عدل) والمحسوبية مقابل (لا تجزي نفس عن نفس شيئا). ويمكن القول باختصار: تتم معرفة قوة مجتمع من ضعفه، بمدى سيطرة العلاقات الشخصية أو قوة نفاذ القانون، فحين يتضخم الأفراد ينكمش القانون، لأن الوجودين متزاحمان في الوعاء الاجتماعي، والنمو الورمي للأفراد هو في العادة مؤشر على بداية مرض الجماعات والمجتمعات. ويظن أولئك (المغامرون) أنهم يحسنون صنعا، وأنهم (شطار) و(أذكياء) ويعرفون كيف (تؤكل الكتف)، ولكن السرطان حينما ينمو، فأول ما يفعله هو أن يقضي على الجسم الذي أمده بأسباب الحياة، فيكون مثله كمثل القرد سيئ الذكر في قصة كليلة ودمنة، حين نشر غصن الشجرة الذي يجلس فوقه! وبذلك يدمر الورم نفسه من حيث لا يشعر، حين يدمر مصادر وجوده، فيهوي والبدن إلى فراش الموت والعدم.