هل كان الطوفان المدمر سببا في قدح شرارة التقدم الإنساني؟ هذا ما كشفت عنه الأبحاث الأركيولوجية الحديثة؛ ومنه ما وصل إليه «روبرت بالارد ROBERT BALLARD»، من ولاية «كونيكتيكات CONNECTICUT»، فالرجل كان يطبق الآية ويسير في الأرض ليقرأ قصة الطوفان كاملة من قاع البحر الأسود. تأمل الآية (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، ثم الله ينشئ النشأة الآخرة). لقد حضر الرجل على ظهر سفينة الأبحاث «الأفق الشمالي NORTHERN HORIZON» إلى الشاطئ الجنوبي للبحر الأسود، قبالة مدينة «سينوب SINOP» التركية، للتأكد من علمية قصة الطوفان، وعلى ظهر السفينة طاقم يضم خمسين شخصا، منهم عالم الأركيولوجيا «فريدريك هيبرت FREDRIK HIEBERT». والأخير رجل ذو تاريخ حافل بـ150 اكتشافا مثيرا على الأقل في عالم البحار، سواء السفن التجارية الفينيقية، أو منار الإسكندرية أيام كليوباترا، أو سفينة «المهدية» المحملة بالكنوز الأثينية المنهوبة على يد الرومان، لتضربها العواصف فتغرق أمام سواحل تونس، أو المدمرة الألمانية «بيسمارك» من الحرب العالمية الثانية، والتي غرق فيها أكثر ممن غرق في التيتانيك المشهورة، وأعجب ما فيها أن الربان أغرقها كي لا تقع بين أيدي الإنجليز، بعد أن خسر المعركة، ولا ننسى آخر كشوفه عن «التيتانيك» عام 1985 م في الأطلسي على عمق 3740 مترا، لمعرفة السبب الفعلي خلف غرق هذه السفينة، التي أخذت اسم (الجبار) تيتانيك لتغرق في أول رحلة لها بين بريطانيا وأمريكا عام 1912 م، كما حصل مع «شالنجر» المتحدي الذي حمل القمرة الفضائية، لينفجر ويتبخر مليارا دولار مع سبع أرواح في الملكوت العلوي، في لحظة واحدة ما لها من فواق، أمام أعين الناس لعلهم يتقون.
قام بالارد بإنزال الغواصة «هرقل الصغير» إلى عمق 100 متر، مربوطة بحبل سري من كابل ينقل الصورة إلى شاشة ملونة، ليفاجأ الفريق العلمي منذ اللحظات الأولى بأنهم أمام بقايا طبيعة أرض زراعية اعتدى عليها البحر فقتلها، وأبقى منها ذكريات من أشجار تمد أيديها هياكل ميتة وشيئا قليلا من أصداف وبقايا رخويات وقواقع كانت تعس في مياه حلوة في ما سبق. فأما السيد «تيري غارسيا TERRY GARCIA»، رئيس نقابة الجيولوجيين الوطنية، فأسرع إلى ميناء سينوب ليصرح للصحافة أنهم أمام كشف تاريخي للطوفان القديم والأرض التي عاش عليها الناس. أما الصحافة التركية فخرجت في اليوم التالي في صحيفة «الحرية»، تقول إن نوحا كان تركيا. كما ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهوديا، ولم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولكن كان حنيفا مسلما. ونوح وجد في الوقت الذي كان أجداد أجداد الأتراك لم ينزحوا بعد من وسط آسيا، ولم يطؤوا بعد أرض الأناضول. ومن الضروري ربط الوقائع بين حدوث الطوفان والتاريخ الإنساني من زاوية أنثروبولوجية، لمعرفة (تمفصل) الحدث مع حركة التاريخ ومعنى وقوع الطوفان في فترة بعينها وأثره على التطور الإنساني.
أولا، يجب تحرير نقطة كشف عنها علم الأنثروبولوجيا، وهي علاقة الثورة الزراعية بالاستقرار في الأرض، فالأبحاث السابقة كانت ترى مرور الإنسان أولا بمرحلة (الصيد وجمع الثمار)، قبل الانتقال إلى الثورة الزراعية. أي أن الاستقرار في مساكن محددة، شكل ضربة لازب مع الثورة الزراعية. ولكن الأبحاث الأنثروبولوجية الجديدة كشفت في منطقة الشرق الأوسط ما يفك هذا الارتباط بين الأمرين؛ فلقد استقر الإنسان في جماعات وبنى بيوتا قبل مرحلة الثورة الزراعية، وبقي لفترة يعتمد الصيد الجماعي مع الاستقرار وكان هذا قبل 11 ألف سنة، وتم كشف منطقتين تشيران إلى هذا الانتقال المتدرج في كل من «أبي هريرة» في شمال سوريا، و«كوبكللي تبه GOEBEKLI TEPPE» في جنوب تركيا. كانت مجموعات إنسانية تعتمد دفع قطعان الغزلان إلى مكامن خاصة تشكل سورين على شكل حرف 7، أمامها خنادق تسقط فيها الحيوانات المذعورة وكانت الحصيلة أطنانا من لحوم الفرائس. وحتى لا تقع ضحية عدوان الوحوش أو هجوم الجيران من المجموعات الإنسانية المجاورة، فقد تم الاحتفاظ بها في صوامع خاصة هي أماكن العبادة، وبذلك فإن مراكز التقديس اختلطت بالرزق الوفير. وكان الحدث الثاني الأشد إثارة، هو ما كشف عنه الأنثروبولوجيون في منطقة «جطل هاياك CATAL HUYUK»، في وسط تركيا، حيث عثر على بقايا بيوت عجيبة لهذه الجماعات الإنسانية البدائية، فقد سكنت في بيوت متجاورة متلاصقة بدون شوارع جانبية، أو أزقة تفصلها، أو أفنية للتهوية. كان البشر يصعدون على سلالم إلى كوات تنفذ إلى غرف ضيقة معتمة قليلة التهوية، أشبه بزرائب أو مدافن. كانت حوالي 2000 عائلة تضم آلاف الناس يعيشون في حياة جماعية بئيسة، تفتقد لأدنى الشروط الصحية للحياة الإنسانية، وبين أقدامهم اختلطت بقايا الطعام مع مخلفاتهم الإنسانية. لم تكن هناك آبار أو مدافن. لم يستخدموا الأواني كما لم يعرفوا أكل الخبز، ولم يزرعوا مع أنه كان ينمو قريبا منهم في الحقول. أما الميت فكان يلقى في العراء تفترسه طيور السماء، والهياكل تدفن تحت الأقدام. ثم مشى التطور الأنثروبولوجي مرحلة مرحلة، وعند زمن 8000 قبل الميلاد شوى الإنسان الفخار، وفي 7600 قبل الميلاد بدأت الزراعة، وفي 7000 قبل الميلاد تم استئناس الحيوان. أما الهندسة فكانت قبل ذلك خيوطا عوجاء أو مدورة. وقبل 9000 سنة من الآن ظهرت الخطوط المستقيمة في قفزة عند الإنسان العاقل «الهومو سابينيسHOMO SAPINES». وكما يقول الحجة الأنثروبولوجي «غولدن شيلد GOLDEN CHILD»، من أستراليا و«كلاوس شميدت KLAUS SCHMIDT»، من جامعة «هايدلبرغ HEIDELBERG» من ألمانيا، فإن بدايات انتقال الإنسان إلى التحضر لم تكن في جنوب العراق، كما ذكر ذلك المؤرخ البريطاني توينبي في كتابه «الإنسانية من أين وإلى أين؟»، بل بدأ في منطقة الاناضول من تركيا. وكما يبدو على كافة الأقوال، فإن مهد الحضارة كان في الشرق الأوسط، قبل أن يعم العالم جميعا.
خالص جلبي