هل تنجح لجنة بنموسى في تقديم حلول لاختلالات حكومتي بنكيران والعثماني
أثبتت التجارب المقارنة أن إحداث لجنة استشارية، يعهد إليها بتقديم الاقتراحات وسيناريوهات الإصلاح المرتبطة بالنموذج التنموي، يعد مقاربة جيدة، بالنظر إلى أنها أثبتت فعاليتها ونجاعتها، خاصة في مراجعة الدستور وفي إعداد مشروع الجهوية المتقدمة، ومدونة الأسرة. كما أن الرؤية الملكية تضمنت تحديد المنطلقات الأساسية، المرتبطة بالتوجهات التي يتعين أن ينصب عليها الفعل العمومي، والمتعلقة أساسا بتجاوز محدودية النموذج التنموي، الذي سبق لجلالة الملك محمد السادس أن أعلن عنها في افتتاح البرلمان، كما جدد التذكير بها خلال خطاب العرش الأخير.
ويطرح النموذج الحالي، أنه لم يعد قادرا على حل مشاكل البطالة والصحة والتعليم والسكن، مما يستدعي تجديدا عميقا للنموذج التنموي الذي تعتمده المملكة، وهو ما يعتبره متابعون أنه رهان لا يمكن كسبه دون ثقة بين الفاعلين من أجل كسب المعركة ضد المعضلات التي تعوق التنمية، إذ إن المجهود العمومي الذي قامت به الحكومات المتعاقبة أظهر محدوديته، خاصة في ما يتعلق بآثاره، على الحياة اليومية للمواطن المغربي، كما أن اختيارات الحكومات في مجال السياسة العامة لابد أن تنعكس على المعيش اليومي للمواطنين المغاربة، وهو ما ظهر جليا في القرارات التي اتخذتها حكومتا عبد الإله بنكيران وسعد الدين العثماني، في مجالات مرتبطة بالمعيش اليومي للمواطنين مثل «إصلاح التقاعد» و«إصلاح المقاصة» و«التوظيف بالتعاقد»، وغيرها من القرارات الأخيرة التي جاءت في خضم الاختلالات الكبيرة التي شملت تلك القطاعات.
وبعد أزيد من خمس سنوات على تنزيل حكومة عبد الإله بنكيران لعدد من القرارات «الإصلاحية» في قطاعات اجتماعية، وتلتها حكومة سعد الدين العثماني تكملة لتلك القرارات، بدأت تظهر اختلالات واضحة في الآثار الاجتماعية والاقتصادية لتلك القرارات. وأشارت الخطب الملكية الأخيرة إلى هذا الجانب بشكل واضح، من خلال توجيه الملك محمد السادس في خطابات المسيرة والعرش وأمام البرلمان إلى الانتقادات التي توجه لقطاعات شملتها «إصلاحات» حكومتي العثماني وبنكيران، وتلا التقريع الملكي للحكومتين إعلانه عن إحداث لجنة للنموذج التنموي الجديد، ستكون مكلفة بتقديم مقترحات حلول المعضلات الاجتماعية التي تواجه المجتمع المغرب.
لجنة النموذج التنموي.. بعيدا عن السجال
حظيت لجنة النموذج التنموي الجديد بتشكيلتها الجديدة بترحيب مختلف الهيئات السياسية، بعد تعيين الملك للجنة التي ستناط بها مهمة إعداد نموذج تنموي جديد، والذي من شأنه مراجعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المعتمدة بالمغرب منذ عقود طويلة، وإن كان بعض السياسيين لم يستسيغوا عدم إدراج الفاعل الحزبي في تركيبة اللجنة التي يرأسها شكيب بنموسى.
ويرى التيار الذي يقود هذا السجال السياسي أن التنظيمات الحزبية «لها الكفاءة لوضع تصورات بعيدة الأمد تخص مستقبل البلاد»، مبررا موقفه بكون «أي نموذج تنموي يرتكز على المدخل الديمقراطي؛ أي البعد السياسي»، داعيا في الآن ذاته إلى إشراك الأحزاب في النقاش الوطني. وفي مقابل هذا التوجه، يوجد تيار ثان يطالب بإبعاد السجالات السياسية عن موضوع حساس سيرهن مستقبل المغاربة لعقود، مؤكدا أن «أحزاب الأغلبية الحكومية لم تستطع تقديم مذكرة موحدة حول الموضوع»، مشيرا إلى أن «نموذج التنمية ينبغي ألا يعكس أي إيديولوجية حزبية».
وأثار تهجم بعض الوجوه السياسية خاصة المحسوبة على تيار الإسلام السياسي، وعلى رأسهم بعض قياديي حزب العدالة والتنمية، على تشكيلة لجنة النموذج التنموي الجديد، غضبا من الفاعلين السياسيين المخالفين الذي اعتبروا ارتباط اللجنة بوجوه أو تلوينات حزبية قد يعيق عملها، خلافا للتشكيلة الحالية التي تشكلت منها اللجنة والتي امتازت في أغلبها بالوجوه الحرة والتكنوقراطية وعلى رأسها شكيب بنموسى، السفير الحالي للمغرب في باريس.
ويرى متابعون أن تشكيلة اللجنة الاستشارية للنموذج التنموي الجديد تمكنت من الاستجابة للحرص على إشراك الكفاءات الوطنية المؤهلة، وهو الأمر الذي ظل من أهم المرتكزات التي جاءت في الخطاب الملكي السامي ليوم 29 يوليوز 2019، بحيث ستكون قادرة على إقرار نظرة شمولية لخلق شروط إنجاز المشاريع اللازمة من أجل إنجاح النموذج التنموي، بتوفير عقليات جديدة قادرة على تجاوز الأخطاء ومواكبة التطور الاقتصادي العالمي الذي لا يتوقف عن النمو، وتوفير الوسائل الكفيلة بإيجاد آليات التنسيق بين مختلف القطاعات الوزارية، وإقرار مبادئ الحكامة التدبيرية، وعدم إغفال مساهمة المواطن المغربي في تنمية البلاد.
النموذج التنموي.. إرادة ملكية
أبانت الخطب الملكية الأخيرة عن أن النموذج التنموي توجه ملكي، وما فتئ الملك محمد السادس يؤكد على أن الحكومة مطالبة بوضع مخططات مضبوطة، تضمن التحضير الجيد، والتنفيذ الدقيق، والتتبع المستمر لمختلف القرارات والمشاريع، سواء على المستوى الوطني أو الجهوي أو المحلي، وهو ما كان قد عبر عنه الخطاب الملكي. وتميزت خطابات الملك محمد السادس الأخيرة بتكرار الدعوة إلى العمل الجاد من أجل الحد من الفوارق الاجتماعية، والعمل على الاستجابة لحاجات الجهات والفئات الاجتماعية المختلفة، عبر تغيير النموذج التنموي، وانخراط المؤسسات بما فيها الحكومة والبرلمان والقطاع الخاص في إعداد وتنفيذ مشاريع ذات مردودية في الواقع.
وكان الملك محمد السادس قد وجه في مناسبات عدة عمل الحكومة في المجالات الاجتماعية، على رأسها الصحة والتعليم والتشغيل، وقال إنه لا يمكن أن نطلب من شاب القيام بدوره وبواجبه دون تمكينه من الفرص والمؤهلات اللازمة لذلك، وإنه «علينا أن نقدم له أشياء ملموسة في التعليم والشغل والصحة وغير ذلك. ولكن قبل كل شيء، يجب أن نفتح أمامه باب الثقة والأمل في المستقبل»، وتابع: «فتمكين الشباب من الانخراط في الحياة الاجتماعية والمهنية ليس امتيازا، لأن من حق أي مواطن، كيفما كان الوسط الذي ينتمي إليه، أن يحظى بنفس الفرص والحظوظ من تعليم جيد وشغل كريم».
وقال الملك إن «ما يحز في نفسي أن نسبة البطالة في أوساط الشباب تبقى مرتفعة. فمن غير المعقول أن تمس البطالة شابا من بين أربعة، رغم مستوى النمو الاقتصادي الذي يحققه المغرب على العموم. والأرقام أكثر قساوة في المجال الحضري”. كما أضاف التشخيص الملكي للواقع الاجتماعي أنه «رغم المجهودات المبذولة، والأوراش الاقتصادية، والبرامج الاجتماعية المفتوحة، فإن النتائج المحققة تبقى دون طموحنا في هذا المجال. وهو ما يدفعنا في سياق نفس الروح والتوجه، الذي حددناه في خطاب العرش، إلى إثارة الانتباه مجددا، وبكل استعجال، إلى إشكالية تشغيل الشباب، لاسيما في علاقتها بمنظومة التربية والتكوين”.
بنكيران يهاجم لجنة النموذج التنموي
عبر عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق والأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، عن عدم رضاه عن تشكيلة اللجنة المكلفة بصياغة النموذج التنموي الجديد، التي نصب الملك محمد السادس أعضاءها، الخميس 12 دجنبر الجاري، وعزا الأمر إلى أن هذه اللجنة تضم متخصصين في التشكيك في الدين، قبل أن يميل إلى العزف على وتر العودة إلى المعارضة، في رسالة مشفرة تتجاوز نطاق الإخبار، وتنحو منحى التهديد والوعيد.
لطالما حارب بنكيران خصومه السياسيين بسيف الملكية، حينما كان رئيسا للحكومة، وكثيرا ما كان يضعهم وجها لوجه أمام المؤسسة الملكية، حينما كانوا يعترضون على قرار من قرارات الحكومة، ويعمد إلى توريطهم والزج بهم في دائرة معاكسة الإرادة الملكية، بذريعة أن القرار المُعْترَض عليه قرار الملك، وأنه مجرد منفذ. استخدم بنكيران التستر وراء الملك في قضية استفادته من ريع سبعة ملايين سنتيم شهريا باسم التقاعد، متشبثا بأن قرار معاشه أَشَّرَ عليه الملك، وأنهم يعبرون باعتراضهم على استفادته من هذا المعاش، عن عدم احترام الملك، وخاطبهم قائلا: “إلى ما احْشْمْتُوشْ مني احْشْمُوا من جلالة الملك”.
وهاجم بنكيران، تشكيلة اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، والتي عين أعضاءها الـ35 الملك محمد السادس، معبرا عن معارضته للفريق الذي اختاره شكيب بنموسى، رئيس لجنة النموذج التنموي، وقال: «هاذ اللجنة اللي اقترحها بنموسى معجبتنيش»، وأوضح بنكيران أن لجنة النموذج التنموي تضم أشخاصا من تيار واحد، ولا يوجد فيها توازن، مضيفا أنها «تضم أشخاصا متخصصين في التشكيك في الدين الإسلامي»؛ وذلك خلال حديثه عن معارضته للمدافعين عن الحريات الفردية بالمغرب. وأورد بنكيران وهو يتحدث عن لجنة بنموسى: «ماشي معنى ذلك أننا غنستسلمو أو نمشيو لديورنا، خصنا نبقاو في الساحة، ولا اقتضى الأمر نمشيو للمعارضة ونأديو الثمن بحال اللي كيأدوه الناس اللي كيدافعو على المبادئ والقيم فنحن مستعدون».
ومن خلال حديث بنكيران يظهر أن حزب العدالة والتنمية، الذي يقود الحكومة، غاضب من تشكيلة لجنة النموذج التنموي، بعد ضمها حساسيات سياسية مختلفة من اليسار واليمين والتيار الليبرالي، لكنها ابتعدت عن المنتمين سياسيا أو المحسوبين على تيارات إسلامية بالخصوص، وقد استغل بنكيران مشجب الدين من أجل مهاجمة أعضاء اللجنة الاستشارية لإعداد النموذج التنموي، وقال إن أعضاء اللجنة مشككون في الدين، بعدما كان بلاغ الديوان الملكي بالمغرب، قد أكد أن لجنة إعداد النموذج التنموي تتكون بالإضافة إلى الرئيس، من 35 عضوا، يتوفرون على مسارات أكاديمية ومهنية متعددة، وعلى دراية واسعة بالمجتمع المغربي، وبالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، ستنكب هذه اللجنة على بحث ودراسة الوضع الراهن، بصراحة وجرأة وموضوعية، بالنظر إلى المنجزات التي حققتها المملكة، والإصلاحات التي تم اعتمادها، وسترفع اللجنة إلى القصر الملكي بحلول الصيف المقبل، التعديلات الكبرى والمبادرات الكفيلة بتجديد النموذج التنموي المغربي.
هكذا ستشتغل لجنة إعداد النموذج التنموي
قدم شكيب بنموسى، ورئيس لجنة إعداد النموذج التنموي الجديد، تصوره لطريقة عمل اللجنة التي عين الملك محمد السادس يوم الخميس 12 دجنبر الجاري أعضاءها. نعيد نشر أهم ما جاء في لقائه بوسائل الإعلام المغربية، بعد التعيين الملكي، تعميما للفائدة، قال شكيب بنموسى، إن اللجنة سيتقدم تقريرها في مدى زمني لا يتجاوز 7 أشهر، وأضاف أن أعضاء اللجنة، بمن فيهم الرئيس، سيعملون بشكل تطوعي، ولن تكون لديهم لا أجور ولا تعويضات ولا «تراكم للتعويضات».
وقال بنموسى إن دفتر التحملات بخصوص لجنة إعداد النموذج التنموي المغربي الجديد حدده الملك محمد السادس في خطبه الرسمية عندما قال إن هذا النموذج ينبغي أن يكون مغربيا- مغربيا، وذلك يعني أنه ينبغي أن يستفيد من المكتسبات المحققة، ويحدد نقاط الضعف الموجودة، من أجل بناء نموذج مغربي، لكن ذلك لا يمنعه من الاستفادة من التجارب الأجنبية، وهذا يتطلب، برأي بنموسى، تشخيصا «صريحا» و«موضوعيا» للواقع، من خلال رصد المنجزات، وهي كثيرة برأيه، لكن أيضا الوقوف عند النقائص، التي تجعل هناك بونا شاسعا بين واقع المغاربة وانتظاراتهم.
مضيفا أنه لاشك، أن هناك تقارير عديدة تشخص الواقع اليوم، لكن عمل اللجنة، التي ستقف عند هذه التقارير، هو تحديد التدخلات التي ستسمح لهذا النموذج بأن يجيب عن الانتظارات وهذا يعني، من جهة، العمل من أجل تزكية وتعضيد الإصلاحات التي أطلقت من قبل، مع العمل على تسريع وتيرة الإنجاز، ومحاولة ربح رهان الفعالية. من جهة ثانية، على هذه اللجنة أن تملك الشجاعة لتقديم اقتراحات جديدة ومبتكرة من أجل تجاوز حالات الانسداد، في مختلف المجالات، والتي يمكن أن تعرقل تقدمنا.
وقال بنموسى إن نموذجا تنمويا جديدا، يقصد به نموذج شامل، يعنى بكل مجالات التنمية، فهو نموذج اقتصادي، ينظر في إنتاج الثروة، وإنتاج الشغل، وإنتاج القيمة المضافة، عن طريق المبادرة والمغامرة والإبداع، وهو نموذج اجتماعي تجسده العناية بالرأسمال اللامادي، من خدمات اجتماعية، وتوزيع للثروة، وتربية، وصحة، وتشغيل، ونقل، مع بحث آليات توزيع الثروة، لتحقيق عدالة اجتماعية، وهو نموذج يبحث عن اللحمة الاجتماعية التي قوامها رأسمال الثقة، التي بإمكانها أن تحرر الطاقات، لكي تعمل من أجل تحقيق أهداف التنمية، وهو نموذج مستدام يفكر في التغيير المناخي، وقلة الماء، والطاقة، وصحة المواطنين، وتلوث الهواء، وجودة التغذية، ويسائل الحكامة على المستوى الوطني والدولي، لكي نصل إلى نوع من التعاقد الاجتماعي، الذي يسمح بالعمل على المستقبل.
ويرى بنموسى أن عمل اللجنة سيكون تشاركيا، يطلب مساهمة القوى الحية في البلاد، من مؤسسات وأحزاب وجمعيات ونقابات وشخصيات من القطاع العام والقطاع الخاص، لكن العمل التشاركي لا يعني البحث عن صيغة لتمثيل الجميع، لكنه يسمح عند إنجازه لأكبر عدد من المغاربة بالانخراط فيه، لذلك لن يكون عملا شبيها بعمل مكاتب الدراسات، وأضاف عن إسهامات أعضائها، تملك مقاربة الذهاب للقاء الطاقات التي يمكن أن تساهم في البحث عن حلول، وإن كانت قد ابتعدت عن قضايا الشأن العام.
النموذج التنموي وآفاق تنزيله على الواقع
إن تفعيل الحكومة للدستور الجديد مرتبط بالعديد من الجوانب القانونية والمؤسساتية، حيث لابد أن يتم اعتماد نمط تدبيري بالإدارات مبني على النتائج وتعزيز فعاليتها كإدارات مستقلة للمساطر والإجراءات المتعلقة بالمخططات كيفما كانت، واستكمال تفعيل الجهوية المتقدمة كورش تنظيمي للسياسات العمومية، أيضا تعزيز العمل التشريعي من خلال تحيين بعض المراسيم والقوانين، بالإضافة إلى تحفيز الديمقراطية التشاركية بغية الدفع بالمواطنين في اقتراح وتتبع المشاريع زيادة على دور البرلمان بغرفتيه كآلية رقابية لتتبع المشروع وتقييم حصيلته وجعل البرلمان يقوم بوظيفته الديبلوماسية خدمة للمشروع، بالإضافة إلى دوره في تقييم السياسات العمومية.
كل هذه الآليات لابد أن تتأقلم مع التوجه الذي سطره الملك في خطاب العرش، بغية الخروج بمشروع تنموي فعال وواقعي يستهدف بالأساس الطبقات الاجتماعية الفقيرة التي تعيش العزلة والفقر. لذلك يجب تجاوز منظور الاقتصاد التضامني المحلي وتقديم آلية قانونية مستدامة تخدم المواطن والجيل الذي يليه، بمعنى تفادي النماذج التي تركز على تقديم الدعم التنموي دون تقييم للأهداف والمنجزات، حيث إنه يتبين حجم المجهودات والموارد التي ضاعت دون تحقيق نقلة تنموية، لاسيما بالمناطق التي تشهد هشاشة تنموية والتي تخلق فوارق اجتماعية تتناقض مع ما وصل إليه المغرب من تور كبير في مختلف المجالات الدستورية والقانونية والحقوقية والأمنية والترابية وغيرها.
بناء على ما تقدم يمكن القول بأن التنمية الاجتماعية بالمغرب عملية جد معقدة نظرا لما تشكله من نسق فضفاض غير محدود الإطار تتداخل فيه مجموعة من المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ومختلف القطاعات عام وخاص كما يعرف تعددا في المتدخلين والفاعلين، من أجل ذلك واجهت المخططات التنموية خلال السنوات الأخيرة فشلا متباينا نتيجة أزمات مختلفة وجدت أسبابها في ضعف مردودية المؤسسات سواء على المستوى التقني التدبيري أو على المستوى الإداري والمالي، وأيضا عدم تأقلم ومسايرة السياسات الاجتماعية المتبعة من لدن البرلمان مع التحولات التي يعرفها الاقتصاد الوطني سواء الداخلي أو الخارجي .
هنا لابد من الإشارة إلى أن أي اختيار لنموذج للتنمية يفترض نهج إيديولوجية محددة كما هو الحال بالنسبة للعديد من الدول النامية التي بعد استقلالها اتجهت نحو خلق ثورة التصنيع كآلية لتحقيق التنمية، أما المغرب فقد تأثر بتوجيهات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهو ما جعل الدولة تتبنى النظام الرأسمالي بغية تحفيز الاستثمارات الخارجية وضخ سيولات مالية ضرورية للحفاظ على التوازن الخارجي المضطرب.
ونجاح النموذج التنموي رهين بمدى وعي وإرادة الحكومة في تحقيق نجاح هذا الورش المستدام ولن يتحقق ذلك سوى من خلال وضع آليات للرقابة على تنزيل النموذج التنموي في صيغته الجديدة، وتتبع وتقييم مخرجاته بجميع الآليات التي وضعها الدستور سواء عبر البرلمان بغرفتيه أو من خلال اللجان الوزارية أو المجالس والهيئات الدستورية.
رهان الكفاءة يرجح كفة اللجنة الخاصة بإعداد النموذج التنموي
اللجنة الاستشارية ستمكن من وضع تصور دقيق للمشروع، وفق منظور نقدي للواقع بعيد كل البعد عن النظرة الأحادية للتصور الحكومي. ومنه يستلزم أن تعمل هذه اللجنة بشكل تشاركي وبتنسيق دقيق من خلال إحداث لجان متفرعة من اللجنة العامة، تختص كل لجنة في مجال دقيق (المجال المؤسساتي والقانوني/ المجال التدبيري والمالي/ الشراكة بين القطاعين العام والخاص/ لجنة التقييم والافتحاص.. وغيرها)، وكل هاته اللجان الخاصة تعمل تحت لواء اللجنة العامة، كخليات مترابطة في ما بينها هدفها تنسيق الجهود والتركيز على فحص شامل للأعطال التي واجهت المخططات التنموية وعدم تكرارها.
كما أن اللجنة الاستشارية للنموذج التنموي ستعمل على لم شمل الكفاءات في مختلف الميادين، سيما أن الحكومة وبعض الأحزاب السياسية فشلت فشلا ذريعا في ضمها وإعطائها فرصة الاقتراح والتفكير، وبالتالي ستكون دعامة لتحقيق الابتكار وترسيخ المواطنة، هاته الأخيرة ستكون حاضنة للكفاءات، بحيث إن الحس الوطني سيعزز من تجويد مخرجاتها التي ستساهم في التنمية البشرية المستدامة ومعالجة الفوارق الاجتماعية .
فقد عرف المغرب مند سنوات طويلة صراع التسابق على المسؤولية، سباق قد يكون في شقه القانوني مشروعا، لكن أنتج بشكل غير مباشر وخفي بروز بعض الفئات التي أغلقت الباب عن الأفكار والإبداع الحداثي بالدولة، وبالتالي ساهمت في ركود المشاريع التنموية. في حين أن نخبا كثيرة نجدها تنتظر فرص العمل الجاد والعمل بشكل تشاركي” بعيد عن النرجسية السياسوية، التي تطفو على العمل الحكومي. عمل يحتضنه الحس الوطني العالي في تتبع دقيق للرؤية الملكية المتبصرة، والتي نستشف تطورها بشكل كبير وضعت منزلتها في مكانة الملكية المواطنة خدمة لهذا الوطن.
إن تبني نموذج تنموي جديد الذي جاء في خطاب الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش ودعوته الحكومة، لاقتراح كفاءات عالية تساير مرحلة الإصلاح الشامل للدولة، سيما وحثه على إحداث لجنة استشارية تضم كفاءات في مجالات مختلفة بغية تفعيل وصياغة تصور جديد للنهوض بالمجال الاجتماعي، وأن يكون هذا التصور فعالا وقابلا للتحقيق على أرض الواقع، هدفه سد الفوارق الاجتماعية والطبقية داخل بنيات المجتمع. وبالتالي يتبين أن الدولة مقبلة على مرحلة جديدة من الإصلاح الشامل، الذي سيعجل بإقرار مشاريع تنموية مختلفة ومتطورة.
وبالتالي الحكومة مطالبة بتقديم كفاءات عالية تساير هذا التوجه، ولتيسير هذا التوجه يستلزم الانفتاح على نخب الجامعات المغربية، فهي حبلى بالموارد البشرية عالية الخبرة، وتجاوز الاقتراحات من داخل الأحزاب السياسية، سيما تكرار نفس الوجوه التي عاصرت حقبة ما قبل دستور 2011. وأن يتم اعتماد كفاءات شابة جديدة مليئة بالحماس والحس الوطني العالي خدمة للوطن، سواء داخل الأحزاب أو خارجها، فلا يمكن للعقل أن يتقبل اقتراح بعض المسؤولين اشتعلت رؤوسهم بالشيب لا لشيء سوى أنهم متحكمون في القرارات الداخلية لأحزابهم، وبالتالي فاعتماد كوطة من النخب المثقفة، التي لم تجد موطئ قدم داخل هياكل الأحزاب، والتي حرصت على المساهمة في تقديم التوصيات العلمية للمؤسسات، وكذلك نخب الجالية المقيمة بالخارج والأطر العليا في مختلف المواقع، من شأنه أن يلقح اللجان الاستشارية في مختلف المجالات.
لقد حان الوقت من أجل إعطاء فرص أكبر للنخب الجديدة وحملها مشعل الإصلاح، بل أكثر من ذلك خلق قطيعة مع جيل أفرزته سياقات سياسية، فكان عبئا على تدبير المشاريع التنموية التي تطرق إليها خطاب العرش، والتي أشار فيه جلالته إلى أن بعض المسؤولين يعثرون قطار التنمية، ذلك راجع لعدم قدرتهم على مسايرة المرحلة الجديدة من الإصلاح والتأقلم مع المتغيرات الحالية التي تعرفها الدولة، هنا لابد أن نشير إلى أن المغرب أصبح يعيش تناقضات كبيرة على مستوى النص والتطبيق، وبذلك نجد بعض القطاعات تسير بسرعتين متناقضتين، سرعة متقدمة على مستوى التخطيط والمناظرات والنصوص القانونية، في حين تقابلها سرعة بطيئة على مستوى التفعيل على أرض الواقع. هذا الإشكال لن يستقيم إلا بتطعيم الحكومة واللجان الاستشارية بنخب شابة، تساهم بشكل بقدر كبير من الفعالية والنجاعة والاقتصاد في أجرأة المشاريع على أرض الواقع والتسريع في تنمية جميع مناطق جهات المملكة، وبالتالي ردع ومحاربة الفوارق الاجتماعية.