هل تفتح الثورة ملفات صراع الجزائر مع المغرب؟
اغتيال بوضياف وجنازة بن بلة بعيون مغربية
يونس جنوحي
«لقد أهان جنرالات الجزائر عائلة الرئيس السابق بن بلة الذي كان أحد كبار رموز الثورة الجزائرية التي ناضلت من أجل استقلال الجزائر عندما استغلوا جنازته لإحراج الوفد المغربي الرسمي من خلال اعتبار البوليساريو «دولة» صديقة، فيما لم تحظ إلى اليوم بأي اعتراف دولي رسمي ولا تزال دوليا منطقة متنازعا عليها.
كانت الرسالة واضحة إذن. الحكام الفعليون للجزائر كانوا لا يريدون أي مصالحة مفترضة مع المغرب حول نعش رئيس كانت الجزائر في أيامه أول حليف للمغرب ودولة على رأس الدول الصديقة للملك الحسن الثاني.
ربما كان الجنرالات في الجيش الجزائري يريدون الانتقام من بن بلة ميتا. فبعد أن كان الرجل أول رئيس يحكم الجزائر بعد حصولها على الاستقلال بداية الستينيات قبل أن ينقلب عليه الهواري بومدين في سبعينيات القرن الماضي، قال في حوار صحفي أجري معه لصالح مجلة فرنسية في الأشهر الأخيرة من حياته، في شتاء 2011، قال فيه ما معناه أنه رغم كونه أول رئيس للجزائر بعد الاستقلال إلا أن أصوله مغربية. وهي النقطة التي لم يغفرها له الراديكاليون في الجيش.
أما الرئيس بوضياف الذي اغتيل رميا بالرصاص على الهواء مباشرة، فقضية اغتياله لا تزال من أسرار النظام الجزائري.. فهل ينجح ابنه في ظل الحراك الشعبي الحالي في فتح ملف اغتيال الوالد؟»
أوراق منسية من زمن ما قبل «الثورة»
سُئل إدريس البصري مرة في باريس، من طرف صحافيين جزائريين ما إن كان يعرف معلومات تتعلق باغتيال الرئيس الجزائري السابق بوضياف. أجاب البصري وقتها، بعد سنة 1999، بأنه لم يعد رجل دولة، لكن رغم ذلك فإنه يسمح لنفسه بالتأكيد أن موقعه وزيرا للداخلية سمح له بالاطلاع عن قرب على المعلومات التي كان يملكها المغرب استخباراتيا عن الجزائر، لكنه لا يتوفر على ما يؤكد أن المغرب كان يعلم بمخطط الاغتيال.
كان البصري، أو ما تبقى من أنفته الشخصية، غير قادر على الاعتراف بأنه لم يكن يعرف أي شيء عن الموضوع. التقارير السرية للاستخبارات الفرنسية كانت تعرف بشأن ترتيبات للانقلاب في السلطة، وبدا واضحا أن قصر الإيليزيه كان في لا وعي كل الفاعلين الجزائريين عسكريين كانوا أم سياسيين.. الكل كان يفكر في الارتباط التاريخي بفرنسا. لذلك كان صعبا إقناع المعارضة الجزائرية أن فرنسا لم تكن تعرف بموضوع الترتيب لاغتيال الرئيس بوضياف.
كان الملك الحسن الثاني يتابع تلك الأحداث بكثير من الاهتمام ليس فقط لأن بوضياف كان صديقا للمغرب، ولكن أيضا لأن اغتياله كان يعني ببساطة انتصار التيار المعارض للصداقة مع المغرب، وبدء صفحة جديدة من الصراع.
كان الملك الحسن الثاني معروفا بصراحته الكبيرة، وكثيرا ما أخبر رؤساء دول عربية يكنون له العداء مثل القذافي والأسد، بالحقيقة التي كانوا يحاولون إخفاءها بالمجاملات الدبلوماسية. ومنها مرة أن الملك الحسن الثاني استضاف قمة عربية في الرباط ودعا الرئيس صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي إلى تناول الطعام معه على مائدة واحدة، علما أن كل واحد من الرؤساء أحضر معه طاقم مطبخه الخاص لاحترازات أمنية. فما كان من الملك الراحل الحسن الثاني إلا أن بدد كل المخاوف بمزحة كانت تظهر ذكاء كبيرا: «لا تخافوا. ليس هناك أي سم في الطعام». طأطأ الجميع رؤوسهم لأن صراحة الملك الحسن الثاني كشفت بشكل صريح عن نظرية المؤامرة التي آمن بها رؤساء دول عربية ساهموا في تغذية الصراع بين الرباط والجزائر وتأجيجه أيضا.
تعود العلاقات الجزائرية المغربية في الحقيقة إلى زمن ما قبل الثورة الجزائرية. وهناك من ذهب بعيدا واعتبر أن العلاقة تعود إلى فترة تأسيس الزوايا الصوفية التي لا يزال جزائريون إلى اليوم يعتبرون أنهم مرتبطون روحيا بطريقة صوفية مغربية رغم أن الحدود حالت بينهم وبين تبادل الزيارات مع مريدي نفس الطريقة.
والمثير أن الثورة الجزائرية التي كانت تُمول من المغرب، عرفت تلاعبات بعد استقلال الجزائر لطمس جزء مهم من تاريخها يتعلق بمساهمة المغاربة في الثورة ليس ماديا فقط أو من خلال تهريب السلاح عبر الحدود إلى الجزائريين، ولكن أيضا لاعتبار أن المغاربة شاركوا كمجندين داخل الثورة الجزائرية واستُشهدوا في الجزائر وهم يحاربون فرنسا، وتم إكرام ذكراهم خصوصا في السنوات الأولى لحصول الجزائر على الاستقلال أيام الرئيس أحمد بن بلة. لكن تلك المراسيم انتهت بمجرد وصول الهواري بومدين إلى السلطة بطريقة أسالت الكثير من المداد وأجبرت بن بلة على مغادرة الجزائر نحو فرنسا واتجاهات أخرى من بينها المغرب بعد أن ضاقت عليه أرض بلاده رغم رحابتها.
ملفات مختومة بـ «سري للغاية»
رغم أن الأوضاع في الجزائر تُنبئ بأن أمورا كثيرة على وشك أن تتغير، إلا أن التفاؤل بخصوص العلاقات المغربية الجزائرية لا يجب، على الأقل بالنسبة للجزائريين، أن يُخلط مع بقية المواضيع. سيكون هناك سيناريو مختلف لهذا الطرح فقط إذا استطاع الجزائريون تطهير جهاز الجيش تماما من بقايا الحاملين لفكر الرئيس السابق الهواري بومدين الذي فكّر في اغتيال الملك الحسن الثاني سنة 1978 وانكشف أمر المخطط عند الفرنسيين الذين أخطروا الملك الحسن الثاني بتفاصيله في وقت لاحق، خصوصا وأن المخطط جُمد في مرحلة مبكرة من التخطيط ولم يصل مرحلة التنفيذ.
قد تتحرك أياد كثيرة بعد هذه الثورة في الجزائر للنبش في بعض الملفات المتعلقة بحقوق الإنسان في الجزائر، والتي تتعلق بطريقة أو بأخرى بمغاربة مورس عليهم الشطط والتعذيب وأجبروا على مغادرة الجزائر تاركين خلفهم ممتلكات على عهد بومدين سنة 1975، بالإضافة إلى أن بعض الجزائريين تعرضوا للتعذيب والمضايقات وأجبروا على مغادرة الجزائر فقط لأن أصدقاءهم مغاربة أو لأنهم كانوا يزورون المغرب بانتظام على خلفية الروابط العائلية أو الاقتصادية التي تجمعهم بالمغرب، خصوصا في المناطق الحدودية.
من بين ملفات حقوق الإنسان في الجزائر، والتي قد تُثار بعد الثورة الجزائرية الحالية، تلك التي تتعلق بحقوق مواطنين جزائريين في زيارة عائلاتهم المقيمة في المغرب، بعد سنوات من المنع. وهؤلاء يعيشون وضعية لا تختلف كثيرا عن وضعية الألمان أثناء وجود جدار برلين.
بالإضافة إلى وضعية الجزائريين الذين غادروا البلاد سرا منذ بداية السبعينيات بسبب رفضهم للأوضاع السياسية في البلاد بعد أن اختار الرئيس بن بلة بنفسه مغادرة البلاد بعد انتهاء تجربته في الرئاسة بطريقة غير متوقعة. صداقة هؤلاء مع المغرب ومع مسؤولين مغاربة كبار، دبلوماسيين، سياسيين ورجال أعمال، ساهمت في التضييق عليهم داخل الجزائر ليختاروا فرنسا كمنفى اختاري بصيغة شبه «إجبارية»، ومنهم من لم يعد قادرا على زيارة الجزائر إلى اليوم، بسبب العداوات التي نشأت بينهم وبين أفراد من مؤسسة الجيش لا يزالون يحتلونها إلى اليوم.
جنازة رجل حلقت فوقها «روح» الانفصال
في أبريل ربيع سنة 2012، وحكومة عبد الإله بن كيران في أيامها الأولى، بالكاد أتمت المائة اليوم، ركب رئيس الحكومة الطائرة مترأسا الوفد المغربي لتقديم العزاء للرئيس الجزائري المستقيل أو المُقال، عبد العزيز بوتفليقة، في وفاة الرئيس الجزائري الأسبق بن بلة، الذي كان صديقا حميما للمغرب وقضى به عدة سنوات حتى بعد انتهاء فترة رئاسته للبلاد.
كان بوتفليقة خلال الجنازة رجلا مفعما بالحياة رغم تقدمه في السن والرئاسة معا. صافح رئيس الحكومة المغربية الذي جاء به الربيع، وربما لم يدر بخلده أن الربيع الذي ينتظره هو كان أشد اصفرارا.
جنرالات الجزائر أرادوا استغلال الجنازة لتمريغ رمزية الرئيس السابق الذي كان صديقا حميما للمغرب ومحط احترام الملك الراحل الحسن الثاني، في الوحل. وهكذا أصروا على حضور وفد من البوليساريو ترأسه عبد العزيز المراكشي شخصيا.
«جنازة رجل..». هكذا انبعثت الجملة عبر مكبرات الصوت الموزعة بشكل مدروس في المكان، ليجد رئيس الحكومة المغربي السابق أن الواقفين على البروتوكول قد خططوا بدقة لإحراج الوفد المغربي. لم يكن يفصل بين المغرب والبوليساريو، كتنظيم يحاول الحصول على الشرعية الدولية في تلك الجنازة، سوى الرئيس الجزائري نفسه، وأمامه الإمام الذي أدى صلاة الجنازة على روح الفقيد أحمد ابن بلة.
الصورة وحدها كانت معبرة عما كانت الجزائر، ولنكن أكثر دقة، ما كان جنرالاتها يريدون رسمه لمستقبل العلاقات مع المغرب. انسحب الوفد المغربي بسرعة من الجنازة، وغاب ابن كيران بين أكتاف الواقفين في الصفوف لتوديع الرئيس بن بلة إلى مثواه الأخير.
لقد أهان جنرالات الجزائر عائلة الرئيس السابق بن بلة الذي كان أحد كبار رموز الثورة الجزائرية التي ناضلت من أجل استقلال الجزائر عندما استغلوا جنازته لإحراج الوفد المغربي الرسمي من خلال اعتبار البوليساريو «دولة» صديقة، فيم لم تحظ إلى اليوم بأي اعتراف دولي رسمي ولا تزال دوليا منطقة متنازعا عليها.
كانت الرسالة واضحة إذن. الحكام الفعليون للجزائر كانوا لا يريدون أي مصالحة مفترضة مع المغرب حول نعش رئيس كانت الجزائر في أيامه أول حليف للمغرب ودولة على رأس الدول الصديقة للملك الحسن الثاني.
ربما كان الجنرالات في الجيش الجزائري يريدون الانتقام من بن بلة ميتا. فبعد أن كان الرجل أول رئيس يحكم الجزائر بعد حصولها على الاستقلال بداية الستينيات قبل أن ينقلب عليه الهواري بومدين في سبعينيات القرن الماضي، قال في حوار صحفي أجري معه لصالح مجلة فرنسية في الأشهر الأخيرة من حياته، في شتاء 2011، قال فيه ما معناه أنه رغم كونه أول رئيس للجزائر بعد الاستقلال إلا أن أصوله مغربية. وهي النقطة التي لم يغفرها له الراديكاليون في الجيش. فبعد أن أقيل من رئاسة الجزائر ورحل إلى منفاه في فرنسا كان يزور المغرب بانتظام ويلتقي مع الملك الراحل الحسن الثاني بالإضافة إلى قدماء المقاومة المغربية وجيش التحرير الذين ساهموا بشكل كبير في تغذية الثورة الجزائرية خلال الخمسينيات حتى بعد حصول المغرب على الاستقلال، وكان في مرات كثيرة يُرسل رسائل سياسية تُذكر بالدور المغربي في استقلال الجزائر، وهو ما كان يزعج قادة الجيش الذين صاغوا خطة الانقلاب عليه أساسا.
وهكذا كانت جنازة الرجل «فرصة» لإهانة صداقته مع المغرب وأصوله المغربية أيضا ميتا، بعد أن عجز الجيش عن احتوائه وهو في كامل حيويته.
أصدقاء بوضياف منسيون اضطروا إلى الهرب بعد اغتياله
في آخر يوم من أيام شهر يونيو 1992، وبالكاد كان الجزائريون يستلطفون الجو في العاصمة الجزائر، حتى انتبهوا إلى الحركة غير العادية في الشوارع. بينما الذين كانوا في منازلهم يتابعون واحدة من أكثر عمليات الاغتيال السياسي غرابة في التاريخ. اغتيال على الهواء لرئيس الدولة، وهو يُلقي كلمته في مؤتمر يناقش أوضاع الجزائر وصلاحياته رئيسا للدولة خلفا للمُستقيل الشاذلي بن جديد.
قبل أن يصبح رئيسا للجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي، كان بوضياف يعيش في المغرب رفقة زوجته برعاية خاصة من الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان يرى فيه آخر عقلاء الجزائر الذين رفضوا مواقف الرئيس الجزائري الهواري بومدين الذي صنع العداوة الكبيرة مع المغرب قبل وفاته نهاية السبعينيات متأثرا بالمرض. ومن وقتها وبوضياف يعيش في المغرب حالما بجزائر أخرى غير تلك التي كان يتابع أوضاعها في التلفزيون والراديو. بالكاد كان يجد العزاء في ما كان يعيشه صديقه الآخر الذي كان أول رئيس للجزائر بعد الاستقلال، يتعلق الأمر بالرئيس أحمد بن بلة، من مشاكل مع النظام الجزائري.
يوما واحدا بعد اغتياله، اضطر العاملون ورجال ثقة بوضياف إلى مغادرة الجزائر. بقي بعضهم يترقبون لكن قلة فقط غادروا، مثل مستشاره الشخصي الذي كان أبناؤه يتابعون دراستهم في فرنسا، فاضطر الجيش إلى السماح له اضطرارا لكي يغادر إلى فرنسا وهم يعلمون أنه لن يعود. وتلقى الأخير تهديدات جادة بالمس بسلامته الجسدية في حالة ما إذا فتح فمه في فرنسا أو في أي مكان آخر في العالم لانتقاد السلطة في الجزائر أو اتهام أحد بالوقوف وراء اغتيال الرئيس بوضياف.
صمت الكثيرون بطبيعة الحال، خصوصا وأن التهديدات التي تلقوها كانت أكبر من مجرد تهديدات لأنهم كانوا يعرفون أن الأجهزة السرية الجزائرية التي طورها الهواري بومدين قبل وفاته، كانت تتوفر على معلومات «ثمينة» عن الجميع.
وها هو ابن بوضياف يخرج اليوم عن صمته ويتهم أربعة جنرالات بارزين في الجيش الجزائري، بالكاد يعرف الرأي العام الجزائري معلومات عن حياتهم ومسارهم وماضيهم، بالتخطيط لاغتيال والده على الهواء وعلى مرأى ومسمع من الشعب الجزائري.
تهمة بهذا الحجم لم يكن ابن الرئيس المغتال ليوجهها لأحد لولا توفره على ما يُثبت فعلا أن تلك الأسماء متورطة من قريب أو من بعيد في عملية التخطيط. يتعلق الأمر هنا بعملية قام بها نافذون في الجيش كانوا لا يتفقون مع سياسات الرئيس، وبدل إبعاده على طريقة أحمد بن بلة اختاروا أن يضعوا حدا لحياته.
هل سوف نرى في الأيام المقبلة، أو حتى في السنوات المقبلة، تحقيقا جادا لتحديد الجناة الفعليين الذين اغتالوا بومدين وحركوا «المتطوعين» الذين بادروا إلى إطلاق الرصاص؟ حسب معارضين جزائريين، فإن الطريقة الوحيدة لإنصاف ذكرى الرئيس الشهيد بوضياف، هي تحديد الرؤوس الكبيرة التي أعطت الأمر بتنفيذ الاغتيال، أما «العضلات» التي ضغطت على الزناد فلم تكن إلا لجلادين اغتالوا بالتأكيد أسماء أخرى قبل بوضياف.
لماذا صمت بوضياف الابن من 1992 إلى اليوم؟
رغم أن أشهرا مديدة مرت على أول شرارة للحراك الجزائري، إلا أننا لم نسمع بعدُ عن أي مبادرة حزبية لعودة كافة المعارضين الجزائريين المنفيين اضطرارا إلى الخارج، خصوصا فرنسا، بسبب مواقفهم المعارضة لقادة الجيش الجزائري وجنرالاته الذين يطالب الشارع اليوم في وهران وبقية المدن الجزائرية الغاضبة بمحاكمتهم جماهيريا على خلفية قضايا فساد تعود لأزيد من أربعين سنة ولا تزال بعض ملفاتها مفتوحة إلى اليوم.
من يجرؤ اليوم على فتح ملف المعارضين الذين يعيشون في المنفى أو وضعية عائلات المتوفين في الخارج بسبب مواقفهم من النظام؟
هذا الملف الشائك الذي اختلطت فيه تقارير المخابرات والأجهزة السرية الجزائرية بالوشايات والمضايقات والاتهامات التي تقود إلى حبل المشنقة، عددا من السياسيين والمسؤولين الجزائريين الذين كان ذنبهم هو مواقفهم المعارضة للرؤساء الراديكاليين أبرزهم الهواري بومدين. مئات الجزائريين في عهده، من مختلف الإدارات والتخصصات القريبة جدا من قصر الرئاسة ومؤسسات الدولة الحساسة، اضطروا إلى المغادرة سرا حتى لا يتم اغتيالهم، وآخرون كانت صداقاتهم مع المغرب وأصولهم المغربية وماضيهم مع جبهة التحرير الوطنية التي كانت تنسق مع جيش التحرير المغربي لاستقلال الجزائر أواسط خمسينيات القرن الماضي، كلهم وجدوا أنفسهم في السبعينيات مضطرين إلى الهرب بجلودهم من الهواري بومدين الذي يعتبر اليوم أكثر الرؤساء الجزائريين تطرفا في تاريخ الجزائر المستقلة.
كانت الصداقة مع المغرب في عهده خيانة عظمى. وكان يذكر الجزائريين في الراديو بحرب الرمال وتبعاتها والغصة التي تركتها الهزيمة في نفوس عدد من قادة الجيش الجزائري سنة 1963 والبلاد حديثة عهد بالاستقلال، بينما في الحقيقة كان الأمر يتعلق بخطأ جزائري حاول من خلاله بعض المتنطعين المحسوبين على تيار بومدين الذي لم يصبح رئيسا بعدُ استفزاز السيادة الترابية للمغرب عبر اقتحام نقطة حدودية في واضحة النهار.
وهكذا كانت هذه الذريعة فرصة لكي يصفي بومدين حساباته مع الذين كانوا يرون أن الصالح العام في الجزائر يقتضي فتح العلاقات مع المغرب بدل إغلاق الحدود. تطرف بومدين وصل حد طرد المغاربة المقيمين في الجزائر رغم الروابط الأسرية والعائلية التي تجمع عائلات من البلدين، خصوصا في المناطق القريبة من الحدود مع وجدة. تحولت الأمور في عهده إلى مشكلة شخصية.
ولهذا السبب كان موضوع التساهل مع المعارضين الجزائريين لسياساته غير مطروح نهائيا حتى بعد وفاته. إذ ترك على رأس الأجهزة الأمنية مُعجبين كبار بسياساته منهم من كانوا شهودا على خطته السرية لاغتيال الملك الراحل الحسن الثاني في المغرب، إلا أن وفاته غير المتوقعة، جعلت أصدقاءه يزيلون الفكرة من رؤوسهم، مع الاحتفاظ ببقية الأفكار المتطرفة.
كان مرافقوه في الصور القديمة قيد حياته هم الذين حملوا نعشه بحزن واضح إلى مثواه الأخير. كان يريد أن يخلق لنفسه «بورتريه» خاص عن الرئيس الثائر ضد الجميع لكن مشروعه لم يكتمل. وترك بدله خلفاء أمنيين وعسكريين كانوا يمارسون العنف على السياسيين، وتحولت البلاد إلى حلبة من الصراعات المتشجنة، والتقارير الأمنية المخفية. كل «الجلادين» الذين صنعوا سنوات الجزائر السوداء كانوا من تلاميذ الهواري بومدين، والذين اغتالوا بوضياف سنة 1992، كانوا من تلامذة بومدين، واستمروا في السلطة والمناصب العسكرية البارزة إلى آخر أيام حكم بوتفليقة، وها هو ابن بوضياف يحاول نفض الغبار عن ملف والده، وهو يعلم جيدا أكثر من غيره أن الذين دبروا الخطة لا يزالون يحكمون الجزائر، ووحدها موجة الدعوة إلى محاكمة الفاسدين، قادرة على خلق المفاجأة، إن وُجدت.
أسرار دُفنت مع الموتى عن أزمات الجزائر والرباط
في المرات الكثيرة التي حرص خلالها الملك الراحل الحسن الثاني على أن يُبرز غضبه ليراه الجزائريون، خصوصا أيام حكم الهواري بومدين وخليفته، كان الملك في الحقيقة يبعث رسائل مشفرة إلى الجزائريين مفادها أن المغرب أقوى أمنيا وعسكريا، خصوصا خلال سنوات نهاية الستينيات وبداية السبعينيات التي كانت الجزائر خلالها تعرف أزمات كبيرة قبل استثمارات الغاز والنفط.
ففي الوقت الذي كان فيه المتحمسون لسياسات الهواري بومدين يتحركون بحرية في أوربا محاولين دعم الانفصاليين سواء قبل المسيرة الخضراء سنة 1975 أو بعدها، كانت الأجهزة السرية المغربية تعرف معلومات مفصلة عن تحركاتهم في العواصم الأوربية وأجنداتهم، بل كان الملك الراحل الحسن الثاني يتوصل في تلك التقارير بمعلومات دقيقة عن القادة الجزائريين وأعضاء مجلس الرئاسة ومستشاري الهواري بومدين وأرقام الحسابات البنكية التي يمولون من خلالها دعاة الانفصال عن المغرب والذين خططوا لأحداث مفتعلة على الحدود، وكثيرا ما بعث الملك الراحل الحسن الثاني إلى الهواري بومدين رسائل ودية يخبره فيها بمعرفته بتفاصيل دقيقة عما كان الجزائريون يخططون له.
كان المغرب أقوى عسكريا واستخباراتيا من جزائر بومدين الذي فقد صبره وصوابه معا، وفكّر في اغتيال الملك الحسن الثاني وسط المغرب واستعان بمرتزقة كانوا يتقنون حرب العصابات على طريقة أمريكا اللاتينية التي كان بومدين معجبا كبيرا بتجربتها.
طائرات خاصة كثيرة حلقت بين الرباط والجزائر ذهابا وإيابا، كلها نقل ركابها رسائل خاصة بين بومدين على وجه الخصوص والملك الحسن الثاني. أما الرئيس أحمد بن بلة الذي كان أول رئيس للجزائر بعد الاستقلال بداية الستينيات، فقد كان يأتي بنفسه إلى الملك الحسن الثاني ويلتقي به طلبا للمشورة. وعند بداية سوء الفهم بين البلدين وتراكم المشاكل وحتى المؤامرات فقد أصبح المستشارون والسعاة، هم حلقة التواصل بين الملك والهواري بومدين. وأحيانا كان السفير أحمد السنوسي (كان سفيرا مغربيا في الجزائر في عز الازمة بين الملك الحسن الثاني والهواري بومدين وتزامن وجوده سفيرا مع المسيرة الخضراء وأزمة طرد كل المواطنين المغاربة من الجزائر شهرا واحدا بعد المسيرة) يُستدعى إلى الرباط في بداية السبعينيات لساعات قليلة، حتى يحمل رسائل شفهية من الملك الحسن الثاني إلى الهواري بومدين الذي تلكأ كثيرا في استقباله في عدد من المرات.
كان أصدقاء السفير المغربي في الجزائر يقلون تباعا. كان بعض السياسيين البارزين في البلاد يخافون من المشاكل التي قد يجرون أنفسهم إليها في حالة تطور صداقتهم مع السفير المغربي في بلادهم.
من الذين حملوا الرسائل من الملك الحسن الثاني إلى الهواري بومدين نجد المستشار رضا اكديرة الذي كان وزيرا للداخلية في بداية الستينيات (عندما كان أحمد بن بلة رئيسا للجمهورية)، وزار الجزائر بصفته مستشارا للملك الحسن الثاني، بالإضافة إلى الوزير الأول باحنيني الذي حاول رأب الصدع بين الرجلين وعاد مرة منكسرا إلى الملك الحسن الثاني وأخبره باللغة الجافة التي استقبله بها الهواري بومدين، ليُدرك الجميع وقتها أن الجزائر قد أصبحت تسير بمزاج رجل أحب الجيش وحلم بتجربة «كوبية» في شمال إفريقيا، وطلّق السياسة بالثلاث.