هل بدأت الحرب الأهلية الأمريكية الثانية؟
داود عمر داود
في عام 1968 تعرض زعيم الحقوق المدنية الأمريكي مارتن لوثر كينغ، للاغتيال في مدينة ممفيس في ولاية تينيسي. وفي عام 2020 تعرض المواطن الأسود جورج فلويد، للقتل خنقا على يد رجل شرطة من البيض، في مدينة مينيابولس في ولاية مينسوتا. اثنان وخمسون عاما تفصل بين الحدثين، لكن تغير الظروف، السياسية والاجتماعية، جعلت من مقتل مواطن بسيط أشد وطأة على مواطنيه من مقتل زعيم بحجم وتأثير مارتن لوثر كينغ، الذي كرس حياته لإنهاء التمييز العنصري ضد السود.
انفجرت ليلة اغتيال كينغ، أعمال عنف في كبريات مدن البلاد، واشتعلت النيران في شيكاغو وبوسطن وواشنطن ونيويورك. واُستدعي ستون ألفا من الحرس الوطني إلى شيكاغو، وتسعة آلاف إلى واشنطن، وجرى اعتقال الآلاف، ونشوب مئات الحرائق. أما أعمال العنف التي بدأت بعد مقتل فلويد، فقد انتشرت في غالبية المدن، وفي جميع الولايات بلا استثناء. وتم فرض حظر التجول في 40 مدينة، وقامت 12 ولاية باستدعاء قوات الحرس الوطني، خشية انتشار الفوضى العارمة.
وقد قتل ما لا يقل عن خمسة أشخاص، واعتقل أكثر من 4000 آلاف متظاهر، وتحولت الاحتجاجات إلى أعمال نهب وسلب وتخريب وإشعال الحرائق.
ويظل احتمال استدعاء الجيش من قبل الرئيس ترامب قائما، في حال انهيار الأوضاع. فقد هدد مرارا باللجوء إلى الخيار العسكري لقمع المظاهرات، عبر إنزال قوات الجيش إلى المدن، ولأن عقيدة الجيش الأمريكي قائمة على قتال الأعداء، وليس قتال المواطنين، فقد خالفه الرأي وزير دفاعه مارك إسبر، الذي قال إن الحالة لا تستدعي تدخل الجيش، بموجب قانون التمرد، واصفا ذلك (بالملاذ الأخير)، حين يكون الوضع طارئا وعنيفا. كما اتهم وزير الدفاع السابق جيم ماتيس، ترامب بالسعي إلى تقسيم البلاد، ودافع عن المتظاهرين الذين وصفهم بأنهم يطالبون بحق المساواة.
هناك فرق شاسع بين أحداث عام 1968 وأحداث اليوم، فرغم أن أصابع الاتهام كانت تتجه إلى الأذرع الحكومية في اغتيال كينغ، إلا أن السياسيين آنذاك ساهموا في تهدئة الخواطر، وأبدوا تعاطفا، بمن فيهم الرئيس ليندون جونسون، الذي صدر قانون الحقوق المدنية في عهده. أما اليوم، فإن السياسيين صمتوا، واختفوا عن المشهد، وظل ترامب وحده الذي يتحدث، ويستعدي المتظاهرين يوميا، فزادت الأجواء احتقانا، يضاف إلى ذلك أن الأوضاع مهيأة أصلا للتصعيد، بسبب الانقسام السياسي الحاد، الذي تعاني منه البلاد منذ عشرين عاما. فالنخبة الحاكمة غير متصالحة مع نفسها، فيما الشرخ العرقي يتعمق يوما بعد يوم، وجاء تفشي فيروس كورونا ليزيد الطين بلة، حيث غالبية ضحاياه من السود، ثم جاءت حادثة قتل فلويد لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير، وأشعلت أحداثا يصعب التكهن إلى أين ستقود البلاد.
ألقى الرئيس ترامب اللوم على ناشطي حركة (أنتيفا) أنهم كانوا وراء أعمال العنف خلال الاحتجاجات، وهدد بتصنيفها منظمة إرهابية. و(أنتيفا) هي حركة يسارية عنيفة، مناهضة للفاشية يتصدى أعضاؤها لمعارضيهم من اليمين المتطرف، الذين يصفونهم بالعنصريين والفاشيين، من أنصار ترامب، أصحاب نزعة تفوق العرق الأبيض.
وهم معارضون للنظام الرأسمالي، وغالبيتهم يحملون أفكارا شيوعية واشتراكية وفوضوية. ويرتدون ملابس سوداء اللون، ويخفون وجوههم، لذلك فإنها ليست منظمة، بقدر ما هي مظلة تضم تيارا عريضا من الناشطين اليساريين. ويقول مسؤولون في إدارة ترامب إنه من الصعب تعقب المنتمين لها. وقد وجهت اتهامات لحملة المرشح الرئاسي جو بايدن، بتقديم الكفالات المالية للإفراج عن هؤلاء المحتجزين، في مراكز الشرطة، خاصة في مهد الاحتجاجات، مدينة مينيابولس في ولاية مينيسوتا، التي أخذ كثير من مؤيدي الحزب الديمقراطي يتقاطرون إليها للإفراج عن الموقوفين، جراء الأحداث، ما يؤشر إلى وجود علاقة بين الحزب الديمقراطي وحركة (أنتيفا)، كما هي العلاقة بين ترامب وميليشيات البيض من اليمين المتطرف.
وكرد فعل مناهض للعنصرية ضد السود، خرجت مظاهرات في الكثير من العواصم العالمية، منها لندن، باريس، برلين وساو باولو وغيرها، تضامنا مع احتجاجات أمريكا. وكانت بريطانيا من أوائل الدول التي علقت على الأحداث، حيث أعرب وزير خارجيتها عن أمله (أن تتوحد الولايات المتحدة وأن تعود معا، ولا تمزق نفسها). وأضاف: (لا نريد أن نرى تصعيدا لكل تلك التوترات، ونريد للأمريكيين أن يظلوا موحدين). ولما طلب الصحافيون تعليق جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا، صمت لمدة 20 ثانية قبل أن يجيب قائلا: (ننظر بخوف وانزعاج لما يحصل في الولايات المتحدة).
وأضاف، في انتقاد مبطن للرئيس ترامب: (إنها لحظة جمع الناس، ولحظة إصغاء، ومعرفة أشكال الإجحاف، التي تتواصل منذ سنوات، وحتى عقود، رغم إحراز تقدم). أما الصين فقد عبرت عن شماتتها، فنشرت الناطقة باسم الخارجية الصينية الجملة الأخيرة التي قالها القتيل جورج فلويد (لا أستطيع التنفس)، وأرفقتها بتصريحات للناطقة باسم الخارجية الأمريكية، انتقدت فيها تعامل بكين مع المحتجين في هونغ كونغ. فيما كتبت صحيفة صينية ناطقة بالإنجليزية تقول، إن رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي، وصفت يوما ما الاحتجاجات العنيفة في هونغ كونغ أنها «مشهد جميل يجب أن ننظر إليه»، وعلقت الصحيفة الصينية بالقول: (يمكن الآن للسياسيين الأمريكيين الاستمتاع بهذا المشهد من نوافذهم الخاصة).
الحرب الأهلية الباردة:
يتعرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لسيل متواصل من الانتقادات من الصحافة ووسائل الإعلام، إلا أن ما لفت النظر هو تعليق الصحافي المخضرم كارل برنستاين، الذي اشتهر بالكشف عن فضيحة ووترغيت، أوائل السبعينيات، التي أدت إلى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون من منصبه، فقد اتهم برنستاين ترامب بـ(إشعال الحرب الأهلية الباردة) في أمريكا. وقال إن البلاد في أزمة رئاسية أسوأ بكثير من فضيحة ووترغيت، (لأن الرئيس اختار وضع مصلحته الذاتية فوق المصلحة العامة، في كل منعطف، بما في ذلك احتمالات إعادة انتخابه، بدلا من الاهتمام برفاه شعبه، ومعاملته بأسلوب حضاري، والمحافظة على العقد الاجتماعي، وممارسة دوره القيادي كرئيس للبلاد).