هل انهارت معاهدة الحياد «غير المكتوبة» بين الرئيس أردوغان و«الدولة الإسلامية»؟
تفجيرات في القطيف.. تفجيرات في الكويت.. تفجيرات في غزة.. تفجيرات في سيناء.. مجزرة على شاطئ مدينة سوسة في تونس.. وتفجيرات منسية في العراق وسورية والجزائر وليبيا.. وأخيرا عملية انتحارية أو «انغماسية» تقتل 30 شخصا في مدينة سورش التركية القريبة من مدينة عين العرب (كوباني) السورية، فما الذي يجري في منطقتنا؟
القاسم المشترك في معظم هذه التفجيرات، أو أغلبيتها الساحقة، هو «الدولة الإسلامية» التي يتزعمها «الخليفة» إبراهيم عواد الحسني القرشي، أو أبو بكر البغدادي التي ترفع شعارا «باقية وتتمدد»، ويبدو أن هذا الشعار لا ينطبق على التمدد الجغرافي فقط، وإنما التمدد التفجيري أيضا، الذي يعلم الله وحده أين سيتوقف.
اللافت أن معظم هذه التفجيرات استهدف بلدانا مولت وسلحت الجماعات المسلحة في سورية وليبيا ولبنان واليمن والعراق ومصر، بطرق مباشرة أو غير مباشرة، عبر قنوات حكومية، أو أهلية، طوال السنوات الأربع الماضية من عمر «الثورات العربية»، فهل انقلب السحر على الساحر؟ وأين سيكون الانفجار أو الانفجارات القادمة؟ وكم عدد ضحاياها؟
السيد أحمد داوود أوغلو، رئيس وزراء تركيا، صاحب عقيدة «صفر مشاكل» مع الجيران التي تؤدي حتما إلى «صفر انفجارات»، يواجه حاليا مشاكل عديدة متفاقمة مع جميع جيران تركيا، ومشاكل داخلية أكبر تحول دون نجاحه في تشكيل حكومة ائتلافية، بعد 13 عاما من الأمن والاستقرار والنمو الاقتصادي القوي، السيد أوغلو أكد، الثلاثاء، وفي أول رد فعل على هذه التفجيرات الإرهابية الدموية، أن «الدولة الإسلامية» تقف خلفها، قاطعا الطريق على كل التأويلات والنظريات الأخرى.
السلطات التركية حرصت منذ صعود «نجم» «الدولة الإسلامية» وتوسعها جغرافيا، وتعزيز سيادتها على أراض تشكل نصف سورية، ونصف العراق، على اتباع سياسة «صفر مشاكل» مع هذه الدولة، واتباع «الحياد» معها، تجنبا لأخطارها أولا، ولاستخدامها كورقة مساومة مع الغرب والتحالف الستيني الذي أسسته الولايات المتحدة لتصفيتها واقتلاع جذورها ثانيا.
من يلعب بالنار ستحرق اصابعه حتما، إن آجلا أو عاجلا، وسياسة الحياد، ربما تنجح مع حكومات مركزية قوية في دول الجوار إذا قامت على المصالح والاحترام المتبادل، ولكن من الصعب نجاحها مع جماعات إسلامية متشددة ترفض العلمانية، ولا تقبل بديلا عن التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية، وتحتكم لقوانينها وتهتدي بهدى عقيدتها هي لا عقائد الآخرين وإيديولوجياهم.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيدخل التاريخ الحديث كأبرز زعيم إسلامي استطاع أن يقود بلاده، من الإفلاس إلى مصاف القوى الاقتصادية العظمى في العالم، والتأسيس لتزاوج شبه مستحيل، في نظر الغرب والشرق، بين الإسلام والديمقراطية على أرضية اقتصادية صلبة، ولكن لكل جواد كبوة، والنجاح يخلق الأعداء وغرور القوة يقود إلى الأخطاء، وسوء التقدير، والسقوط في مصيدة التحريض والنفاق، خاصة التي نصبها له بعض العرب للإيقاع به، ونسف تجربته من جذورها، بحسن أو سوء نية.
الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الرئيس أردوغان في نظرنا هو نسيانه، أو تناسيه، هشاشة التركيبة الطائفية والعرقية لبلاده، واعتقاده الراسخ بأن تركيا محصنة في مواجهة مخطط التفتيت، وإعادة رسم الحدود، والتحريض والتقسيم الطائفي، والعرقي، الذي يجتاح المنطقة، وتقف خلفه قوى عظمى توظف جهات عربية إقليمية كأدوات للتنفيذ، وتعادي المسلمين، ولا تريد امتلاكهم لأسباب القوة، وتهديد مخططات الهيمنة الغربية والتفوق الاسرائيلي بأشكاله كافة.
حاول الرئيس أردوغان أن يناور، ويستخدم كل أوراقه لإبعاد النيران عن ثوبه، والقذف بشعلتها في ملاعب الآخرين، اعتقادا منه أنها ستحرق بيتهم ولن تصل، أو ترتد إلى بيته، ولكن الآخرين، ومهما كانوا ضعفاء، في نظره وغيره، يملكون أوراق قوة، مثلما يحظون بدعم قوى إقليمية ودولية عظمى، لا يمكن، بل لا يجب تجاهلها، أو التقليل من فاعليتها.
الصدام بين السلطات التركية و«الدولة الإسلامية» كان حتميا، والمسألة كانت مسألة وقت وتوقيت، فنحن أمام مشروعين مختلفين ومتصادمين، فإذا كانت هذه الدولة، التي ولدت من رحم تنظيم «القاعدة»، وترعرعت في بيئة الإذلال والتهميش العراقية، أعلنت الحرب على شقيقاتها «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» وغيرهما، دون رحمة أو شفقة، فهل كان من المتوقع منها أن تهادن تركيا، وحزب العدالة والتنمية، الذي تعايش مع إرث كمال أتاتورك الذي ألغى الخلافة الإسلامية وسخر منها، واعتبرها دليل تخلف وأدار ظهره للعالم الإسلامي ونزع الحجاب، وصوب وجهه نحو الغرب وحضارته؟
الرئيس أردوغان رضخ لضغوط الولايات المتحدة، جزئيا أو كليا، وتجاوب مع الرسالة التي حملها له جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي ومساعده الجنرال ألن وطالبه فيها بالانضمام إلى الحرب الأمريكية ضد «الدولة الإسلامية» دون شروط، أو إبطاء وفتح قاعدة أنجيليك الجوية أمام الطائرات الأمريكية وإغلاق الأراضي التركية في وجه أي إمدادات عسكرية أو مالية لهذه «الدولة»، وبدأ ينفذ حملة اعتقالات شرسة ضد مقاتلي هذه الدولة، والمتعاطفين معها، بلغت حتى يوم الثلاثاء أكثر من ألف معتقل، وفي إطار صفقة ما زالت تفاصيلها غير معروفة، ولكنها محفوفة بالمخاطر.
دخول تركيا في الحرب الأمريكية ضد «الدولة الإسلامية» نقطة تحول رئيسية في هذه الحرب، لأنها تملك جيشا قويا، وخبرة ضخمة في حروب العصابات، فقد خاضت، وما زالت تخوض، حرب عصابات شرسة ضد حزب العمال الكردستاني المطالب بدولة للأكراد، ولكن دخول هذه الحرب، وأيا كانت ظروفه، لن يكون دون خسائر، وليس مضمون النجاح لأنها حرب قد تطول لسنوات أو عقود.
تفجير مدينة سورش ربما يكون رسالة تحذير دموية إلى الرئيس أردوغان وحزبه، وبغض النظر عن الجهة التي تقف خلفها، وفي الوقت الذي يواجه فيه، وحزبه، أوقاتا حرجة جدا، بعد خسارته الأغلبية البرلمانية، وتراجع نسبة النمو إلى أقل من النصف، ورفض الأحزاب السياسية الثلاثة الرئيسية الدخول معه في حكومة ائتلافية، لأن أول شروطها تغيير سياسته الخارجية، ووقف تدخلاته في دول الجوار، وسورية، على وجه الخصوص، وهي شروط تعجيزية بالنسبة اليه، ستدفعه حتما إلى مقامرة الدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة.
المؤلم بالنسبة إلى الرئيس أردوغان، وحزبه، وحلفائه، العرب منهم على وجه الخصوص، أن هذا التفجير يأتي بعد أقل من أسبوع من التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني الذي سيرفع الحصار عن إيران الحليف الأقوى الداعم للنظام السوري، ويضخ إلى خزائنها ما يقرب من 150 مليار دولار من أموالها المجمدة، ويفتح أبواب الغرب أمام صادراتها النفطية وغير النفطية.
هل سيستوعب الرئيس أردوغان وساعده الأيمن السيد أوغلو الرسالة التي يريد هذا التفجير إيصالها، والرسائل الأخرى الإقليمية والخارجية الموازية لها، ويجري مراجعة معمقة لسياساته التي أوصلته وبلاده إلى هذا المأزق الصعب؟
نأمل ذلك، وبأسرع وقت ممكن، لأننا نحب تركيا ومن المعجبين بتجربة أردوغان وإنجازاته، وإن اختلفنا مع بعض جوانبها، ونريدها أن تظل بمنأى عن «تسونامي» التقسيم والتفتيت الجغرافي والديمغرافي الذي يجتاح منطقتنا، وآن له أن يتوقف، وتركيا تستطيع أن تلعب دورا كبيرا في هذا الصدد إن أرادت.