تبدأ القصة من جامعة «ويسكونسن Wisconsin» من «ماديسونMadison »، من مركز الأبحاث الوطني للحيوانات البدائية في أمريكا Wisconsin National»
«Primate Research Center، حيث انطلقت التجربة على القرود، بعد تحققها على كائنات بدائية مختلفة، وقامت التجربة على وضع 30 قردا، بعمر عشر سنوات، من نوع الريسوس (Rhesus Monkeys) في مجموعتين من الأقفاص، ضم كل قفص 15 قردا؛ فأما المجموعة الأولى التي ينتسب إليها القرد «أوين Owen»، فقد سمح لها أن تأكل كما تشاء بدون تحديد في الكالوري، فأكلت كما جاء في الحديث: (الكافر يأكل بسبعة أمعاء والمؤمن يأكل بمعي واحد).
وأما المجموعة الثانية التي ينتسب إليها القرد «كانتوCanto »، فقد حرمت من الطعام، وجُوِّعت وقُتِّر عليها، وحدد الكالوري بكمية أقل بـ30 في المائة مما تحتاج، وهكذا صامت صوما مديدا لمدة سبع عشرة سنة.
مع هذا تمت مراعاة إطعام الفريقين من حاجتهما اليومية من المعادن والماء والفيتامينات.
ولكن الطعام كان مباحا بدون حدود لمجموعة القرد «أوين»، ومحرم ناقص بمقدار الثلث لمجموعة القرد «كانتو». وكان الباحث «ريشارد وايندرش Richard Weindruch» يراقب العملية بصبر ودقة وإحصاء، حتى بلغ كلا الفريقين من القرود في المجموعتين العمر الافتراضي 26 عاما، بحيث يمكن مقارنة شيخوخة كل فريق مع الآخر. وهنا بدأت الفروق جلية كما قال الباحث، فأما مجموعة «أوين» فقد ظهر فيها التجعد على الوجوه، مع تكوم الكروش، وتشحم الكبد، والضعف العام، والهمة الفاترة، وتساقط الشعر، والانكماش في المكان، والكسل في الحركة، وتهدل الجلد، مع عيون غائرة انطفأ فيها لمعان الحياة، وإذا قدمت لها موزة رفعت ذراعها بصعوبة وتثاقل، ومدت يدا ترتجف. أما «كانتو» من المجموعة الصائمة فكان رشيقا نشيطا، بدون كرش، بجلد مشدود، يقفز بفرح، ويسلم على الزوار بمرح، ويتناول طعامه برشاقة، ويقشر الموزة بخفة، ويلتهم محتواها بشغف، جلده مرن مطاطي، ووجهه عامر طافح، وتلمع عيونه بالحياة.. وكان جل طعامه من الفاكهة…
هذه التجربة الرائدة كان القصد منها الوصول إلى السؤال الأزلي الذي طرحه جنكيز خان على الحكيم الصيني: هل من طريق للأبدية؟ كان جواب الحكيم الصيني للطاغية المغولي: يا سيدي ليس عندي من إكسير للحياة الأبدية، ولكن أن أنصحك كيف تعيش حياة مديدة بصحة طيبة.. ولم يُعَمِّر الطاغية أكثر من ستين عاما، ولكنه أخذ معه إلى المقابر ستة ملايين من القتلى.
كانت النتيجة حاسمة في مستويين؛ فأما مجموعة «أوين» فقد مات أكثر من نصفها، وأصيبت بنخر في الكبد، وتهدل في القلب، واكتنز أكثر من 70 في المائة من جسمها بالشحم، وعاش من تبقى من عناصرها بصحة متردية، ومات من أصل 15 قردا ثمانية! وأما مجموعة «كانتو» النشيطة (الصائمة) فقد مات منها الثلث (خمسة)، وعاش بقية الثلثين بفرح وصحة.. ويقول الباحث «وايندرش» الذي قاد التجربة: ليس هذا فقط، بل بدأنا نستوعب أهمية فائض الحياة الذي يحققه الصيام.
نحن نقرأ في القرآن: (وأن تصوموا خير لكم)، ولم يجرب المسيح من الشيطان إلا بعد صوم ثلاثين يوما، فلما جاع أخيرا جاءه الشيطان يجربه في ثلاث تجارب؛ أن يرمي نفسه من شاهق فتتلقفه الملائكة فلا يصاب بأذى.. وأن يطلب ثروات العالم.. أو أن يعيش من الطعام دون الكلام.. فكان جوابه لا تمتحن الرب إلهك، وملكوت السماوات أفضل من غرور العالم، ولا يحيا الإنسان بالخبز وحده، بل بكل كلمة طيبة تخرج من الفم. أما موسى فقد دخل التجربة نفسها، فواعده الرب ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر ليال فتم ميقات ربه أربعين ليلة، ثم ذهب للقاء الله يتلقى الألواح.
وعند الحيوانات ثبت أن الصيام يمد عمرها، ثبت هذا عند خلايا الفطور والعناكب والذباب والسمك والفئران والجرذان، ويسمون هذا قانون (تحديد الكالوري)، ووضعوا له قاعدة عامة تقول: من يأكل 30 إلى 50 في المائة أقل يعش أكثر بـ30 إلى 50 في المائة من نسبة العمر أكثر.. بل وأهم من ذلك: من يصوم يبقى في نجاة من العديد من الأمراض، فالصوم لا يطيل العمر فقط، بل يطيله وبصحة وافرة، فيخلص من السكري الثانوي والسرطان وجلطات الدماغ والعته الشيخوخي والخرف، وإن حصلت هذه الأمراض فتأتي متأخرة وليس من النوع الشديد.
ويبدو أن نظام تحديد الكالوري ينشط ويحرض آليات البقاء القديمة، فهو يمنح الهدوء للأعضاء المعنية، بحيث تنخفض درجة الحرارة نصف درجة، وهو ما يتيح لآليات ترميم الخلايا بالعمل أفضل.
وبالنسبة إلى التجارب التي بين أيدينا على القرود، ما زالت تنقصنا البينات على أثر الجوع في بني البشر كما هو الحال عند قردة الريسوس، وهناك من الدراسات التي قامت بها «جامعة ولاية لويزيانا Louisiana State University» على بني البشر، فقد طبقت نظام الحمية على 24 من المتطوعين لإنقاص وزنهم، فسمحت لهم بتناول 75 إلى 88 في المائة من حاجتهم من الكالوري، وبعد ستة أشهر قامت بدراسة الوظائف الحيوية عندهم؛ فتبين وجود دلالات واضحة على سكر أفضل في الدم وجينات بوضع أصح، بكلمة أدق: أذية أقل في تركيب الكود الوراثي، لكن المشكلة في هذا الموضوع جدل متناقض يذكر بقصة أهل روما، الذين كانوا يلتهمون الأطعمة، ثم يلجؤون إلى (مقايئ) خاصة فيها يتقيؤون الطعام، ليرجعوا من جديد، فيتذوقوا طعاما آخر أطيب. أو ما نلاحظه عند بعض النساء من عقل الفم بالأسلاك، أو لف المعدة بالبالون، كله من أجل الجمع بين أمرين: متعة الطعام مع طول العمر والصحة والرشاقة.. وهي أمور لا تجتمع، فليس من سبيل للصحة إلا بالصوم ومعه الحرمان من متعة الطعام (وأن تصوموا خير لكم)، ولكن الإنسان كائن محير.
خالص جلبي