هل التنويريون ملحدون حقا
وحيد عبد المجيد
كان التشكيك في مفهوم التنوير، ومحاولة شيطنته، أحد أهم مداخل الطعن في قيم ساهمت في تحقيق التقدم في عالمنا. قوبلت جهود التحديث الثقافي والفكري في العالم العربي بمقاومة ضارية، أدت إلى إبطاء عجلة التقدم. وما زالت هذه المقاومة مستمرة، خاصة من جانب محترفي الاتجار بالدين واستغلاله، سعيا لتحقيق أغراض سياسية، والمتجمدين الذين عجزت عقولهم عن مغادرة مراحل سابقة تخندقوا عندها.
شحذ هؤلاء وأولئك أسلحتهم كلها سعيا إلى وقف عجلة التقدم، وما زالوا. ومن الطبيعي أن يكون الطعن في مفهوم التنوير ورسم صورة سلبية عنه أحد أهم هذه الأسلحة، بل ربما أكثرها أهمية، بسبب موقعه المركزي في تاريخ التقدم منذ القرن الثامن عشر. وما العقلانية، والعلمية، والإبداع العقلي، والتسامح وقبول الآخر واحترام الاختلاف الديني والمذهبي والعرقي.. إلا جزء من منظومة مفهوم التنوير الذي كان الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أفضل من عرفه في مهده، حين كان التنويريون الأوروبيون يسعون إلى تنوير عقول جُمدت على مدى قرون طويلة. فقد سُئل كانط عما يكون ذلك التنوير؟ فنشر في عام 1874 رسالة ملهمة عنوانها «رد على سؤال ما هو التنوير؟». والتنوير، وفق شرحه، هو تحرير الإنسان من حالة ذهنية متخلفة وضع فيها، أو خضع لها بشكل طوعي، فتصور أنه عاجز عن استخدام عقله وقدرته على التفكير. وفسر هذا العجز بالانقياد إلى أوصياء يعرفون كيف يمارسون وصايتهم على الناس. وأدى ذلك تاريخيا إلى توارث تقاليد الخضوع للوصاية وإعادة إنتاجها.
وعندما نتأمل كلمات كانط اليوم، لابد أن نسأل: أليس هذا ما يحاول المتاجرون بالدين، وفي مقدمتهم جماعات الإسلام السياسي، أن يفعلوه وفق أشكال متعددة؟ ويحمل هذا السؤال في طياته جوابا بالإيجاب، مثلما يعيدنا سؤال مرتبط به عن كيفية مواجهة وصاية المتاجرين بالدين إلى ما كتبه كانط في رسالته: «التنوير هو الطريق إلى تحرر العقول من الوصاية».
ولأن الظلاميين يخشون ذلك التحرر، ويعملون من أجل تجنبه، فقد وجهوا قسطا معتبرا من جهودهم لتشويه مفهوم التنوير عبر الزعم بأنه يناقض الدين، محاولين شيطنة رواده الأوائل الذين أنارت أفكارهم الدنيا عن طريق ادعاء أنهم كانوا ملحدين.
والحق أن التنوير ينسجم وأصول الأديان كما أنزلها الله على أنبيائه تمام الانسجام، وهو يعيد للإنسان قيمته التي أكدتها هذه الأديان، ويحرره من وصاية المتاجرين بها، لكي لا يعكر شيء صفو فهمه مراميها السامية.
وعندما نتأمل اليوم كيفية تعامل رواد التنوير مع الأديان، يمكننا التمييز بين ثلاثة اتجاهات. في الاتجاه الأول تنويريون تشربوا روح المسيحية الحقة بعد تحريرها من سطوة الكنيسة والتعصب الديني، ووجدوا فيها قيما إنسانية منها العدل والتسامح والإخاء، مثل الفيلسوف الإنجليزي جون لوك الذي حاول استخلاص ما رأى أنها مبادئ صافية تظهر عندما تتحرر العقيدة من أوصياء يسيئون استغلالها.
ويضم الاتجاه الثاني روادا عبروا عن احترام الإيمان الديني، ووجدوا صلة تربطه بالعقل الذي رأوا أنه أساس معرفة الإنسان بالله، مثل الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي رأى أن الأديان كلها توجه الناس إلى ما فيه خير المجتمع، وأن الإيمان الديني يخلق وحدة إنسانية حين يكون متحررا من سيطرة الأوصياء.
أما الاتجاه الثالث فيضم روادا التزموا الصمت بشأن مسألة الدين، من دون أن يرفضوه.
وتضم هذه الاتجاهات الثلاثة أغلبية كبيرة من رواد التنوير، فيما كان عدد من عبروا عن عدم إيمان بالأديان قليلا، ولم يدع أي منهم للإلحاد، بل انشغلوا بكشف أساليب رجال الدين في السيطرة على العقول.
التنوير، إذن، ليس ضد الأديان في تاريخه كما في حاضره، بل على العكس يساهم في حسن فهمها ويربط الإيمان بالعقل.
التنوير ينسجم وأصول الأديان كما أنزلها الله على أنبيائه تمام الانسجام، وهو يعيد للإنسان قيمته التي أكدتها هذه الأديان، ويحرره من وصاية المتاجرين بها