هكذا ينتحر المغاربة في صمت بعد معاناة قاسية مع الأمراض النفسية
حسن الخضراوي
تتزايد سنة بعد أخرى نسبة الإقدام عل الانتحار، ووفق عدد من الأبحاث فإن الكثير ممن أضحوا يقدمون على الانتحار كان يبدو سلوكهم عاديا، وكانوا ناجحين في الحياة على الأقل بمقياس الأكثر تداولا في المجتمع لمفهوم النجاح. عدد منهم لم تكن تظهر عليهم أي علامات تفيد بأنهم يمكن أن يعمدوا إلى وضع حد لحياتهم، قبل أن يفاجئوا عائلاتهم وأقربائهم والأصدقاء بالانتحار في ظروف غامضة حاملين أسرارهم معهم إلى القبر.
“الأخبار” تحاول في هذا التحقيق سرد قصص لأشخاص راودتهم فكرة الانتحار وعدلوا عنها بعد زيارتهم للطبيب النفسي، كما تنقل تنفيذ حكم الإعدام في حق الذات من طرف آخرين في ظروف غامضة رغم توفر مقومات العيش الكريم، وعدم ظهور أي سلوك غير مقبول من طرف الشخص المنتحر.
لماذا الانتحار …؟!
تشير الدراسات إلى تطور مضاعفات الاكتئاب، الذي يعاني منه عدد كبير من المغاربة سواء بوعي أو بدونه، فضلا عن التحولات السريعة التي عرفها المجتمع المغربي، والضغوط اليومية المرتبطة بفشل السياسات العامة في الاهتمام بالصحة النفسية للمغاربة، لينضاف إليها الجهل الواسع بالكثير من الأمراض النفسية الخطيرة وضرورة علاجها قبل تطورها واستفحال مضاعفاتها. فالمجتمع المغربي في غالبيته ما زال ينظر إلى المرض النفسي كطابو، ويخال كل مريض نفسي هو أحمق بالضرورة، مع أن الحمق والجنون أو الانتحار، هو نهاية لرحلة تطور المرض النفسي بشكل خطير دون علاج.
هناك من الأمراض النفسية ما يدفع إلى الانتحار وأخطرها الاكتئاب الذي تعاني منه شرائح المجتمع المغربي بدون استثناء. المريض بالاكتئاب لا فرق بينه وبين المريض بالمعدة إلا في عنوان الطبيب المختص ووصفة الدواء، حسب المختصين.
نجوت من الانتحار
اختار “سعيد” (اسم مستعار) أن يحدثنا عن قصته ذات الفصول المثيرة مع فكرة الانتحار التي راودته كثيرا ونجا منها بعد لطف الله.
يقول “سعيد” الذي يبلغ من العمر 37 سنة وهو أب لطفلين، “كنت أعيش حياة هادئة جدا قبل أن ينغص علي الاكتئاب حياتي، لم أعرف لأول وهلة ما الذي حل بمزاجي ولا كيف أسيطر على بعض الأفكار التي كانت تحيط بي من كل جانب دون أن أعرف ما هي ولا كيفية التخلص منها”.
يحكي سعيد أنه كان يدخل للصلاة بالمسجد ويخاف السقوط بعد الإحساس بدوار شديد لا يكاد ينهي معه الصلاة إلا بشق الأنفس، مضيفا: “الغريب هو أنني لم أسقط يوما، ولم أبحث لأول وهلة عن الطبيب النفسي بل كنت أظن أنها مرحلة عابرة فقط. كنت أحس بألم نفسي حاد لا يمكن وصفه أبدا أو التعبير عنه، أتظاهر أمام العائلة والأصدقاء وأطفالي بأنني بخير ويتطلب مني ذلك جهدا وطاقة كبيرة لا يمكن وصفها”.
ويستطرد سعيد قائلا: “أسمع طنينا في أذني لا يتوقف أبدا وينتقل من الآذن اليمنى إلى اليسرى، والوقت الذي كنت أرتاح فيه هو النوم ليلة كاملة بدون كوابيس”، مضيفا “قبل أن أقدم على الذهاب عند طبيب نفسي راودتني فكرة الانتحار للتخلص من الألم النفسي الحاد الذي كنت أعيشه، كنت أفكر وحدي وأبكي في بعض الأحيان سائلا الله عز وجل أن لا يختم لي حياتي بالانتحار، لقد راودني وسواس أنني ربما أقدم على ذلك دون شعور في لحظة من اللحظات التي يمكن أن أضعف فيها أمام المرض. لا أخفي أنني تخلصت من حبل ممارسة الرياضة وألقيته في القمامة مخافة أن أقدم يوما على الانتحار به شنقا وهذه من وساوس الاكتئاب اللعين”.
ويضيف سعيد “أفكر طويلا في الأمر ويمر مسلسل ما بعد انتحاري بذهني وكأنه الواقع بكل تأثيره على جسدي من خفقان سريع للقلب وتعرق وتنميل للجسم، أفكر في أطفالي وأصدقائي وعائلاتي ماذا ستقول عني بعد الانتحار، وأنا الشاب الذي يميل إلى الفكاهة والنشاط والحيوية؟! وهذه بدورها وساوس الله وحده يعلم مدى الألم النفسي الذي تسببه”.
قرر سعيد ذات يوم زيارة الطبيب النفسي لكنه فعل ذلك سرا، ليكتشف أنه يعاني من الاكتئاب وأن عليه استعمال بعض الأدوية للتخفيف منه. “بعد استعمالي لتلك الأدوية داومت على زيارة الطبيب كل شهرين وبدأت حالتي تتحسن إذ فارقتني فكرة الانتحار والحمد لله، والآن بعد مرور ثلاث سنوات لازلت أستعمل الدواء كما لا زالت بعض الوساوس الخفيفة تراودني في انتظار الشفاء النهائي إن شاء الله”، يقول سعيد قبل أن يتوجه بكلامه إلى العديد من المرضى النفسيين: “أنصح كل مريض نفسي وخاصة من تراودهم فكرة الانتحار نتيجة الألم النفسي بزيارة الطبيب المختص في أسرع وقت ممكن. فالمرض بتطوره يصنع ألما نفسيا لا يرى المريض راحة منه سوى بإنهاء حياته”.
معاناة الأسرة
تقول إحدى السيدات من الرباط إن ابنها أصيب باكتئاب وهو لايزال طفلا بسبب فقدانه لأخ يكبره سنا عندما كان يزاول إحدى الرياضات الخاصة بالدراجات النارية، ومنذ ذاك الحين وهو يعالج عند طبيب نفسي مختص في الأطفال لينتقل الآن بعد وصوله سن الرشد إلى مختص نفسي آخر لمتابعة العلاج.
“يهدد ابني بالانتحار في كل حين ويقول إنه لا معنى للحياة بالنسبة إليه، وتراوده أفكار غريبة من مثل أن الله لو كان يحبه لوفر له كل ما يريد.! وعندما أسأله عن أحلامه يفاجئني بأنها أحلام غير واقعية تماما ولا تلائم قدراته وسنه، من مثل أن يصبح لاعبا مشهورا أو نجما من نجوم العالم يجذب الأنظار”تقول هذه السيدة مضيفة: “يحدثني أنه أصبح يكره كل شيء حتى نفسه، يفضل الوحدة ولا يربط علاقات صداقة، وإذا حدث ذلك ينهيها في وقت قياسي بسبب الوساوس الزائدة”.
والدة الطفل المكتئب تحكي أنها حدثت طبيبه مرارا حول تركيزه على أنه سينتحر يوما، فأخبرها بإن ذلك من الوساوس المصاحبة للاكتئاب. لكنه شدد على الانتباه إلى الأمر ومراقبة تناول الابن للأدوية بشكل منتظم حتى تخفض من الطاقة الداعمة للأفكار السلبية وفكرة الانتحار.
وتضيف: “أصبحت مريضة نفسيا أنا الآخرى احتاج إلى طبيب بسبب تصرفات ابني الغريبة، وخوفي المستمر من أن يقدم لا قدر الله على تنفيذ تهديده يوما.
أتابع في الصحف أخبارا مختلفة حول انتحار أطفال صغار بسبب تقليدهم لمشاهد بمسلسلات يعرضها الإعلام، أو مشاكل اجتماعية واقتصادية نتيجة الجهل والفقر أو حتى الخوف من عقاب الوالدين في بعض الأحيان، وكان يحز ذلك في نفسي كثيرا”.
تنفيذ دون تهديد
هناك من يهدد بالانتحار ويعمل على تنفيذ ما هدد به بعد مدة من الزمان تطول أو تقصر حسب الظروف المحيطة، وهناك من يتراجع عن الفكرة بشكل تام بعد تلقيه العلاج ويفتح صفحة آخرى مع الحياة وكيفية التعامل مع صعابها وتحدياتها. لكن النوع الثالث هو الأخطر بحيث يعاني الشخص في صمت وتتراكم المشاكل والصدمات لتنتج أمراضا نفسية قد يعيها المعني، لكنه يهاب فكرة العلاج النفسي باعتبارها (طابو)، أو لا يعي كيفية التعامل معها لتتطور إلى الأسوأ ويفاجىء الجميع بقرار وضع حد لحياته من دون سابق انذار.
يقول صديق لشخص بالفنيدق نفذ حكم الإعدام في نفسه وانتحر شنقا في ظروف غامضة، إن صديقه الذي أقدم على الانتحار بسطح المنزل لم تكن هناك أي علامات تدل على أنه يعاني من اضطرابات نفسية، أو أي مشاكل اجتماعية تذكر.
كان يعيش حياة مستقرة وله زوجة وأطفال ويعمل بسبتة المحتلة ويملك منزلا خاصا به. فضلا عن أنه كان ملتزما وباحثا في أمور الدين بمصاحبته لمجموعة من خطباء المساجد ومناقشتهم. وهو الشيء الذي جعل خطيبا يلقي كلمة مؤثرة خلال جنازته يحذر فيها من ظن السوء بصديقه المنتحر وأنه ربما كانت هناك معاناة نفسية أو صرع أو مس أو شيء من هذا القبيل هي من دفعت المعني للانتحار رغما عنه ودون إرادته الكاملة. مثنيا على الأخلاق التي كان يتمتع بها صديقه المنتحر ومواظبته على الحضور الدائم إلى المسجد لأداء الصلاة وفعل الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا. يقول المختصون إن من يقبل على الانتحار فجأة إما أنه يكتم معاناة نفسية وتستفحل حالته دون علاج، لأن المريض النفسي يحتاج إلى العلاج المبكر واستعمال الأدوية للتخفيف من حدة مضاعفات المرض، أو أن حياته تنقلب رأسا على عقب بسبب بعض المشاكل والصدمات القوية التي يختلف تحملها من شخص لآخر فيقرر المعني وضع حد لحياته ظنا منه أنه سينهي الألم القوي الذي يعتريه بسبب الأزمة. وهناك نوع ثالث لا يعرف شيئا حول المرض النفسي وطبيعته، فيعاني في صمت أو يسلك الطريق الخطأ في العلاج باعتماده على الشعوذة، وما إلى ذلك، وهو ما يعطي نتائج عكسية تؤدي مباشرة إلى الانتحار لا قدر الله.
انتحار الطلبة
العديد من الشباب يعمدون إلى كتابة كلمات مؤثرة على الموقع الاجتماعي “فيسبوك” تتعلق بالوداع الأخير، قبل تنفيذ حكم الإعدام في حق الذات. خلال الشهور الماضية أقدم شاب يبلغ من العمر 22 سنة على الانتحار شنقا بغابة وسط جماعة بوعرك إقليم تاوريرت. وكان الشاب يتابع دراسته كطالب في السنة الثانية شعبة التاريخ بجامعة وجدة، ليترك رسالة مؤثرة لأهله وأصدقائه على “الفيسبوك” قبل إقدامه على الانتحار وقال فيها “وداعا.. لقد قررت الرحيل إلى الأبد”. مرفقا التدوينة بصورة لشخص على وشك الانتحار.
تأثر أصدقاء الطالب بشكل كبير بسبب اختيار صديقهم مغادرة سفينة الحياة مبكرا وإقدامه على الانتحار، مرجعين الأسباب إلى الإحباط والاكتئاب الذي كان يعانيه الطالب في صمت، والظروف القاسية والصعبة التي كان يمر بها، وتترجمها العديد من تدويناته على “الفيسبوك”، إذ كان يسأل بشكل ملح لماذا ينتصر الشر على الخير؟! في حين اعتبر أصدقاء آخرون أن تدوينات الطالب لم تكن لتدل على أنه شخص غير متزن نفسيا، أو يمكن في يوم من الأيام أن يقدم على الانتحار الذي شكل صدمة كبرى لمعارفه وعائلته.
وسلك طالب آخر بمرتيل سيناريو الانتحار نفسه باختياره تدوين رسالة مطولة على “الفيسبوك” ودع فيها الجميع قبل أن يضع حدا لحياته ما كان له أثر كبير على معارفه الذين طرحوا أكثر من علامة استفهام..؟!
فعاليات جمعوية تدق ناقوس خطر الانتحار
دقت مجموعة من الفعاليات الجمعوية بالشمال ناقوس خطر ارتفاع نسبة الانتحار خاصة في أوساط الشباب، مطالبة جميع المتدخلين بدراسة ميدانية شاملة لأسباب ودوافع الانتحار داخل المجتمع من أجل العمل على الحد منها ومعالجتها.
نسبة الانتحار أصبحت في تزايد مستمر، والكثير من الناس يربطون المرض النفسي بضعف الإيمان وغضب الله، وهو ما قد يزيد من مضاعفات المرض ويصنع عقدة لدى المريض تجاه الاعتراف بمرضه والذهاب إلى الطبيب قصد العلاج.
شاب في الثلاثينات من عمره فاعل جمعوي مهتم بمجال التنمية البشرية تحدث إلى “الأخبار” قائلا إن نسبة الانتحار أصبحت في تزايد وأنه من الخطأ أن نربطها مباشرة بالوازع الديني وضعف الإيمان، يجب دراسة التحولات المتسارعة التي عرفها المجتمع المغربي يضيف المتحدث، والعمل على إحياء قيم التضامن والتآزر وترسيخها لمواجهة كل صعاب الحياة وتحدياتها بشكل جماعي بعيدا عن النرجسية المفرطة التي تضعف الروابط الاجتماعية.
لا زالت غالبية المجتمع بسبب التفكير التقليدي والمفاهيم المغلوطة لا تفرق بين المرض العقلي والنفسي، لذلك حتى من يعي أنه مريض نفسيا يجد صعوبة بالغة في زيارة الطبيب أو الحديث عن مرضه مع عائلته أو معارفه، أما من لا يعي معنى المرض النفسي أصلا فحدث ولا حرج.
ويرى عدد من المهتمين أنه يتم صنع أمام المريض النفسي جبالا من التحدي عوض تذليل العقبات ومساعدته في العلاج والوصول إلى مرحلة الشفاء. فمثلا المفهوم الذي يتحدث عن أن كل مريض نفسي هو بالضرورة ضعيف الإيمان، يجعل المريض يخفي مرضه عن المحيط ويصارعه في صمت خوفا من نعته بضعيف الإيمان والشخصية ليتطور المرض إلى حالات خطيرة جدا قد تصل إلى الانتحار. والصواب هو أن الإيمان واللجوء إلى الله في حالة المرض، وطلب الشفاء هو الحل، بمعنى آخر أن الإيمان في الأصل هو جوهر الشفاء مع الأخذ بالأسباب الضرورية من زيارة للطبيب واستعمال الدواء.
وتقول فاعلة جمعوية أخرى إن أسباب الانتحار وإن كانت تختلف من شخص لآخر حسب المحيط الذي يعيش فيه الفرد ودرجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها، إلا أن أغلب حالات الانتحار تكون بسبب المعاناة النفسية في صمت ولزمن طويل دون علاج.
لا أخفيك تضيف المتحدثة، أن نسبة كبيرة من المغاربة تعاني الاكتئاب بدرجات متفاوتة، هناك فئة تسارع إلى العلاج بوعي، وفئة تخفي مرضها وتصارعه في مبارزة خطيرة لا يمكن توقع الفائز فيها، بينما هناك فئة ثالثة لا تعلم عن المرض النفسي شيئا، فتبحث عن علاج غير مناسب في مجال الخرافات والشعوذة، أو تظل تعاني في صمت دون علاج فيتطور المرض ليصل إلى حدود الألم النفسي الذي يقهر المريض ويدفعه إلى الانتحار في نهاية مأساوية. وختمت المتحدثة كلامها برسالة وجهتها إلى الجميع بأن يتم كسر طابو المرض النفسي والحديث عنه بشكل عادي والاهتمام بالصحة النفسية للمغاربة من طرف المسؤولين مع وضعها من أولى الأولويات، منبهة إلى أن الأمراض النفسية من أكثر مسببات الانتحار والاكتئاب الذي تعاني منه شريحة مهمة من المغاربة بوعي أوبدونه يعتبر المتهم الأول.