شوف تشوف

الرئيسية

هكذا نجا فيكتور من مرض مميت سنة 1938 وقرر زيارة المغرب لاستعادة التوازن

فيكتور المالح..من أزقة «موكادور» إلى ناطحات السحاب بنيويورك (2014-1918)

لحسن حظ فيكتور المالح أنه عاش وسط «حميمية» غريبة في أحياء نيويورك للمهاجرين الجدد، فقد كان الحس الإنساني والخلفية الثقافية حاضرين بقوة داخل هذه الأوساط الاجتماعية. في «بوروغ بارك»، إذن، تنقلت الأسرة بين عدد من المنازل، التي كان فيكتور المالح يقول قيد حياته إنه لا يستطيع أبدا تذكرها جميعا من كثرة ما تنقلوا بينها. وفي كل مرة كانوا يجاورون فيها أسرة يهودية، أو مشرقية حتى، وهو ما أكسب فيكتور المالح خبرة كبيرة في التعامل مع الناس وفهم خصوصياتهم وخلفياتهم الثقافية والاثنية.

مستقبل تأرجح بين الجامعة وكرة اليد
يد فيكتور المالح كانت منذورة إما للكتابة ومتابعة الدروس أو تقاذف كرة اليد في ملعب الحي مع أبناء الجالية اليهودية في نيويورك. كان عليه أن يختار، وكان على والده أن يضغط عليه من المغرب بواسطة رسائل لا تنقطع من البريد لكي يتحكم في مستقبله ويوجهه نحو إدارة الأعمال والمشاريع التجارية، خصوصا في مجال الاستيراد والتصدير. «الحرفة» التي كان يتقنها يهود الصويرة جيدا ووصلوا بها إلى العالمية، بل وإلى عضوية شركات برساميل حكومية مثل ما وقع مع أسرة «مقنين» الصويرية التي تحول أبناؤها من تجار عاديين إلى أعضاء في اتفاقيات جمعت المغرب بالبرلمان البريطاني كانت عبارة عن صفقات سلاح ومواد أولية، كانوا هم فيها طرفا ثالثا بين الحكومتين.
لقد كان العامل التاريخي، ممثلا في خصوصية الصويرة، حاضرا بقوة لدى فيكتور المالح رغم أن نيويورك أثرت فيه بشكل كبير. ورغم كل هذا، فقد كانت خيبة أمل كبيرة للأسرة، لأن فيكتور ولج الجامعة فعلا، لكن ليس ليتخصص في الاقتصاد أو التجارة، وإنما في الموسيقى!

التجربة الجامعية
انتصر الشاب الذي قرر ولوج الحياة الجامعية على احتراف كرة اليد وحدها. وخلال المرحلة الجامعية سوف يفرغ حنينه إلى لعبته المفضلة من خلال المشاركة في الفريق الجامعي، حيث أبان فيكتور المالح عن مستقبل كبير في عالم الرياضة لو أنه احترف. وربما كان الأمريكيون ليعرفوا فيكتور المالح رياضيا فذا، لولا أنه أخّر تألقه إلى أن حقق ما هو أصعب: ريادة عالم المال والأعمال.
تحدث فيكتور المالح، خلال الأشهر الأخيرة من حياته سنة 2014، للأمريكيين، ووثق ذكريات حياته للنيويوركيين، لـ«قصص النيويوركيين القدامى»، بالقول: «بعد المرحلة الثانوية توجهت إلى جامعة بروكلين التي كانت مميزة للغاية، لأن بناياتها كانت منتشرة في المدينة في بنايات إدارية مختلفة. أتذكر أنه كان يتعين علينا المشي على الأقدام بين تلك البنايات في شوارع «ويلوغبي»، و«لاورنس»، ثم «شيرمرهورن» للتنقل بين الأقسام. لا أذكر تفاصيل أخرى عن تلك المرحلة، سوى أننا كنا نتردد على ملهى «مينسكي»، حيث تعرفت لأول مرة على عروض التعري للنساء».
حياة اللهو هذه هي التي جعلت فيكتور المالح يدخل في متاعب لا حصر لها مع جده المتدين، والذي كان يعاني من مضاعفات صحية كثيرة من بينها مشاكل في الدماغ. حتى أن الخبر وصل إلى والده الذي كان غاضبا جدا وغير راض عن التوجه الذي اختاره فيكتور المالح لنفسه وهو في العشرين. فقد كانت سنة 1938 في نيويورك توفر بيئة مثيرة للشباب في مثل سنه.
كان مرضه أيضا عاملا زاد من تعقيد حياته، فقد تعرض للإصابة بمرض لم ينفعه معه الدواء التقليدي، واضطرت الأسرة إلى اصطحابه إلى المستشفى.
قال فيكتور المالح إنه كان يتأرجح بين الحياة والموت. ولم يكن يبالغ، لأن حقنة البنسيلين أو «سولفا» لم تكونا متاحتين له في ذلك الوقت. كان يعاني مشاكل في الجهاز التنفسي، وشفي منها تدريجيا وبشكل جزئي فقط، وكانت آلامها مبرحة جدا. يواصل فيكتور استحضار هذه المرحلة العصيبة من حياته: «كان الألم لا يخفت إلا ليشتد. لقد كانت المرة الأولى التي أرى فيها جدي يهتم لأمري حقا. أخبرني صديقي لاري كوسوف أن جدي صلى كثيرا جدا وتضرع من أجلي. كان لاري يقطن بجوارنا في «بوروغ بارك». تعرفت عليه عندما كنت في سن الـ16 وأصبحنا صديقين مقربين جدا. أعتقد أنه كان يكبرني بسنة فقط. تسجل في جامعة كولومبيا لفترة قصيرة وغادر سريعا ليلتحق بعمه الذي كان يعمل في مجال النسيج. ولاحقا بعد سنوات تزوج أختي، واشتغلنا معا في مشاريع».

نقاهة في المغرب
في سنة 1938 التي كانت بداية الحياة الجامعية بالنسبة لفيكتور المالح، والتي أصبح خلالها سنه عشرين سنة بالضبط، كان عليه أن يمر من أول امتحانات الحياة الحقيقية. فإصابته بالمرض جعلته يعيد النظر في عدد من الأمور في حياته. علاقته الجامدة بجده اعتراها بعض الدفء عندما كان الأخير يراه يتقلب على فراش المرض ويعتصر ألما ولم يكن يملك له إلا الدعاء. ثم محنة اختياراته في المرحلة الجامعية، إذ بعد أن تنفس والده الصعداء في المغرب لأن ابنه لم يختر ملاحقة كرة اليد واحترافها بعد إنهاء المرحلة الثانوية، فإذا به يجري وراء الفن ويتخصص في الموسيقى خلال الجامعة، ويهمل المسار الأكاديمي، على الأقل في نظر والده. لكنه عاد ليستدرك الأمر ويلتحق بتخصص الهندسة في الجامعة ويصبح مهندسا. لقد لعب «الحظ» دورا كبيرا في تغيير مساره في آخر لحظة. فبعد اجتياز أولى الحصص في الموسيقى، فوجئ بأن الجامعة لم تكن تتوفر على مسالك تفي بالغرض في الموضوع، واضطر إلى تغيير التخصص، ليصبح طالبا في الهندسة. وسوف يروي فيكتور المالح بطريقة لا تخلو من طرافة، كيف وقع هذا التحول في حياته. دعونا إذن لا نحرق المراحل. مباشرة بعد نجاته من موت محقق بسبب المرض الذي أخّر نسبيا التحاقه بالجامعة، قرر فيكتور المالح أن يقطع البحر والعودة إلى الصويرة لزيارة والديه. لكن المثير أنه لم يتحدث مطولا عن تلك التجربة أثناء استحضاره لذكرياته في حديثه لـ«قصص النيويوركيين القدامى». لكن سبق له في إحدى محاضراته أمام عدد من موظفي مجموعته في ريادة الأعمال باعتباره رجل أعمال ناجحا، أن تحدث عن أول زيارة له إلى المغرب بعد أن تشبع بروح «نيويورك».
عندما تماثل فيكتور المالح للشفاء من الحمى وصعوبات الجهار التنفسي، حصل بمساعدة من خاله على تذكرة باخرة إلى المغرب، وكانت الرحلة متعبة جدا له سنة 1938، لأنه كان لا يزال يعاني من مضاعفات المرض. كانت جدته سعيدة لأنه سيعود إلى زيارة الصويرة التي كانت تحمل لها حنينا كبيرا دون أن تقدر على العودة إليها بحكم أن زوجها، جد فيكتور، لم يكن مغربيا ولم يكن لديه ما يعود من أجله إلى الصويرة للزيارة. وأيضا بحكم أن أبناءها وبناتها كانوا يحتاجون إليها، ولم يكن الجد يملك ثمن التذاكر للجميع.
في المقابل، كان والد فيكتور المالح، رافييل المالح، سعيدا جدا بتلك الزيارة التي خصه بها فيكتور المالح. كانت أيضا مناسبة لكي يحاول التأثير عليه لكي يُحسن الاختيار بعد المرحلة الجامعية ويتخذ القرار المناسب بالتخصص في الـ«بيزنيس».
كان رافاييل المالح في ذلك الوقت شخصا يسعى وراء المشاريع التجارية، ويذهب إلى أمريكا كل سنة تقريبا للبحث عن فرص عقود للاستيراد والتصدير مع مكاتب كان يديرها في الثلاثينيات مهاجرون جدد في الولايات المتحدة الأمريكية. لم يكن يؤمن كثيرا بالهجرة، إذ كانت أعماله كلها مركزة في المغرب.
بعد تلك الرحلة التي قال عنها فيكتور المالح إنها ساهمت كثيرا في استعادة توازنه، قرر ألا يعود نهائيا إلى جامعة بروكلين الموزعة على البنايات. وقرر أن يبحث عن فرصة حقيقية بعيدا عن منزل جده حتى لو اضطر إلى الاغتراب. لقد رأى كيف أن إخوته الصغار في المغرب كانوا يتابعون دراستهم بجدية أكبر في المدارس المخصصة لليهود، والتي كانت متقدمة جدا في عدد من المدن المغربية ووفرت فرصا حقيقية لأبناء اليهود المغاربة لكي يدرسوا بطريقة عصرية وتقدمية جدا في ذلك الوقت.
حمل فيكتور المالح حقيبته إذن وعاد إلى أمريكا بعد انتهاء مرحلة العطلة. عاد ليبدأ مرحلة جديدة في الولايات المتحدة استهلها بتغيير مساره الأكاديمي. كيف إذن انتشل نفسه من الموسيقى ليصبح مهندسا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى