كريم أمزيان
ظلت الحصانة البرلمانية، التي يمنحها الدستور للبرلماني، كنوع من الحماية السياسية والقانونية، حتى يستطيع أن يؤدي وظيفته الدستورية كاملة (كسلطة تشريعية)، بعيداً عن تأثير السلطتين التنفيذية والقضائية عليه، محفزاً لعدد من النواب والمستشارين البرلمانيين، للاستثمار وإنجاز مشاريع، تتطلب ربط علاقات مهمة بالمسؤولين في مختلف المؤسسات والإدارات العمومية، وهو الأمر نفسه الذي حدث مع المستشار البرلماني، (م.ح)، الذي كان فضلاً عن صفته البرلمانية، رئيس بلدية في ضواحي القنيطرة، يترأسها حاليا كريم الميس المنتمي إلى حزب العدالة والتنمية.
كان (م.ح)، يعتقد أن تمتيعه بكافة الضمانات القانونية التي تخول له القيام بالمهام الموكولة إليه، المتمثلة في مهام التشريع والسلطة الرقابية على الحكومة، والتي تتجلى أساساً في عدم إمكانية متابعة أي عضو من أعضاء البرلمان، والبحث عنه ولا إلقاء القبض عليه ولا اعتقاله ولا محاكمته، سيجعل السلطة القضائية تغض الطرف عن أي شكاية يتم تحريرها ضده، ناسياً أن ذلك يتعلق فقط بإبداء الرأي أو التصويت خلال مزاولة المهام، ما يعني أنها امتيازات دستورية مقررة لأعضاء البرلمان بناء على صفاتهم، تتيح لهم أثناء قيامهم بواجباتهم البرلمانية حرية الرأي والتعبير، دون أية مسؤولية جنائية، ولا علاقة لها بأمر آخر غيره، ما جعل تهمة المشاركة في اختلاس وتبديد أموال عمومية تلاحقه، ويعتقل إثر اتهامه بها، وتكلفه حكماً قضائياً، بعدما لم يكن قط يتصور ذلك.
اعتقال بالصدفة
قد يكون اعتقال المستشار البرلماني، (م.ح)، ومتابعته أمام غرفة الجنايات الابتدائية بقسم جرائم الأموال بمحكمة الاستئناف بالرباط، صدفة، إذ إن مذكرة بحث كانت قد صدرت في حقه، تخص قضية اتهام بجريمة مالية، لم تتمكن المصالح الأمنية من إيقافه، بناء على أوامر النيابة العامة وتعليماتها التي أصدرتها ضده، قبل أن يصبح في متناولها، بعد إيقافه متلبساً بتسلم مبلغ مالي عبارة عن رشوة في اليوم الثاني من شهر يناير من سنة 2013، قيمتها 20 مليون سنتيم، من أحد المقاولين، الذي كان سبباً مباشراً في اعتقاله، بعدما عملت شركته على تنفيذ وإنجاز صفقة للإنارة العمومية، لفائدة الجماعة التي كان يرأسها، لكنه وجد صعوبة في أن يحصل على مقابل خدماته، بسبب مماطلة الرئيس (المستشار البرلماني)، الذي طالبه بإتاوة، من أجل تسريع صرف أمواله، فما كان عليه سوى أن نصب له كميناً بعد إشعاره رجال الأمن، فألقي عليه القبض متلبساً بتسلم الرشوة.
بعد اعتقال (م.ح)، الذي كان يشتغل تاجراً، وتنقيط اسمه على الآلة الناظمة، المتوفرة لدى كل المصالح الأمنية، تبين لرجال الشرطة أن الجالس أمامهم، مستشار برلماني، متهم بالمشاركة في اختلاس وتبديد أموال عمومية، وأن الشرطة ظلت تلاحقه، دون أن تتوصل إليه، أو تعتقله، إلى أن قادته الصدفة إليها، فأصبح متابعاً من أجل تهمتين متفرقتين، كلاهما تعتبرها النيابة العامة تهماً ثقيلة.
على الرغم من فشل محاولاتها في البداية في وضع يدها عليه، ظلت الفرقة المالية والاقتصادية بالمصلحة الولائية للشرطة القضائية بولاية أمن القنيطرة، تواصل بحثها لإيقاف المتهم (م.ح)، للاشتباه في ضلوعه في قضية اختلاس وتبديد أموال عمومية، والمشاركة في النصب، التي عرفتها وكالة بنكية في «الساكنية» بالمدينة ذاتها، إذ لم تتخلف أو تتوانى عن تنفيذ تعليمات الوكيل العام للملك، بمحكمة الاستئناف بالقنيطرة، فكثفت أبحاثها من أجل إيقاف باقي المتورطين في هذه القضية، ومن بينهم مسير شركة، لم يكن سوى رئيس البلدية والمستشار البرلماني المذكور، الذي تم إيقافه على ذمة قضية أخرى، كان البحث جارياً بشأنها في المصلحة ذاتها، فيما تقدم أخوه (ع.س.ح)، الذي يصغره بأربع سنوات، من تلقاء نفسه أمام عناصر الأمن، لإشعارها بتوصله إلى تسوية مع المؤسسة البنكية، بعدما تبين له أنه كان هو الآخر موضوع مذكرة بحث، على خلفية القضية نفسها.
تدليس وخروقات
الوقائع التي تورط المستشار البرلماني، (م.ح)، تعود إلى ما وقفت عليه لجنة من المراقبة العامة، من المؤسسة البنكية ذاتها، التي أجرت بحثا طيلة ثمانية أيام متواصلة، في الوكالة المذكورة، الواقعة بمدينة القنيطرة، في الفترة الممتدة ما بين 01 و09 شتنبر 2010، تبين لها من خلال التحريات التي قامت بها على مستوى وضعية الحسابات البنكية الداخلية للبنك المذكور، وجود خروقات عدة، حيث وقفت على اختلالات في تسيير حساب داخلي أوردت رقمه، خاص بكمبيالات مقدمة للتحصيل، تأكد لها في ما بعد أن المسؤولية الكاملة في ذلك، تقع على عاتق مدير الوكالة آنذاك، التي كان يوجد على رأسها، (م.س).
لجنة المراقبة العامة، توقفت بشكل مفاجئ، وفق المعطيات التي توصلت إليها «الأخبار»، عند معطيات خطيرة، إذ تأكد لها أن مبلغ الكمبيالات العالقة على مستوى الحساب المشار إليه، بناءً على رقمه، يصل إلى حوالي 720 مليون سنتيم، ولخصت نتائجها في نقطتين.
الأولى وفق ما حصلت عليه الجريدة من وثائق، تتعلق بخروقات تم الوقوف عندها، والثانية متعلقة بدور مدير الوكالة في تلك الخروقات المتمثلة في تسجيل كمبيالات بدائنية 77 حسابا بنكيا، مفتوحا باسم 74 زبونا، لمبالغ مالية مضمنة
بـ227 كمبيالة، تم تقديمها للتحصيل من قبل الزبناء، وذلك قبل معالجة تلك الكمبيالات إلى الحافظة المذكورة، من أجل المقاصة، بين المكتب المركزي للمؤسسة البنكية والأبناك المسحوبة عليها تلك الكمبيالات. وبعد ذلك التصرف، على ضوء النتيجة المتوصل إليها، عمد مدير الوكالة إلى تسجيل قيمتها بدائنية الزبناء المعنيين، ومن بينهم المتهم (ع.س.ج)، أخ المتهم البرلماني، (م.ح)، باعتباره الممثل القانوني للشركة المسماة باسمه، وذلك دون ترخيص سابق من الإدارة ودون وجه حق. كما لم يقم مدير الوكالة
بتقديم السند المادي لـ160 كمبيالة عالقة على مستوى الحساب 4113100، وهي الكمبيالات التي لم يتم العثور عليها، على الرغم من كون الكتابات الحسابية، للوكالة البنكية، تثبت وجودها، وإدخال معطياتها من قبل مدير الوكالة نفسه.
تورط البرلماني
التفاصيل التي ورطت المستشار البرلماني، هي تلك النتائج التي توصلت إليها لجنة التفتيش، التي تأكد لها أيضاً أن مدير الوكالة، عندما كان يتوصل بالكمبيالات من قبل الزبناء، بغرض التحصيل، كان يعمل على تسجيلها، بصفة عادية، بدائنية الحساب العام الداخلي الممسوك بدفاتر الوكالة البنكية، تحت رقم تم تحديده، والمسمى «حساب استحقاق التحصيل» لـ«زبناء المغرب»، وكذا بمدينية الحساب العام الداخلي، رقم 4113100 المتعلق بالكمبيالات المقدمة للتحصيل.
المعطيات تشير إلى أنه يوماً واحداً بعد ذلك، أو أياما قليلة، كان مدير الوكالة يعمل على اعتبار هذه الكمبيالات في حكم المؤداة، وذلك عبر تفعيل زر وخانة الأداء بالمنظومة المعلوماتية، الخاصة بالوكالة، دون القيام أصلاً بأي إجراء متعلق بمعالجة الكمبيالات المقدمة للتحصيل، عبر إرسالها إلى الحافظة المركزية، وانتظار الرد من الأبناك المسحوبة عليها تلك الكمبيالات، وذلك حتى يتمكن من تطعيم حسابات الزبناء المعنيين بقيمتها، إذ تبين للجنة التقصي أنه عند حلول تاريخ استحقاق الكمبيالات، لم تكن تتم دراستها ولا إرسالها إلى المحافظة المركزية، قصد التحصيل، ولم يكن المدير يستخرج الإشعارات بالمدينية المرتبطة بهذه الكمبيالات من النظام المعلوماتي الخاص بالوكالة، مادام أنها معتبرة في حكم المؤداة، نتيجة تسجيلها تجاوزاً من طرفه، والنتيجة وفق الوثائق المتوفرة لدى «الأخبار»، أن اللجنة خلصت إلى أن تلك الكمبيالات ظلت عالقة بالحساب العام الداخلي، المفتوح باسم المتهم الرئيسي، ما أدى إلى اكتشافه في أول عملية تفتيش.
مدير الوكالة البنكية، (م.س)، توبع من قبل قاضي التحقيق المكلف بالجرائم المالية، من أجل تهمة اختلاس وتبديد أموال عمومية، وحكمت عليه غرفة الجنايات الابتدائية بقسم جرائم الأموال بمحكمة الاستئناف بالرباط بعقوبة سجنية تصل إلى ست سنوات، في حين تمت متابعة البرلماني في ما بعد، عقب إلقاء القبض عليه، ومتابعته في حالة سراح، باعتباره صاحب شركة تتوفر مقاولته على حساب بنكي في الوكالة ذاتها التي يرأسها مديرها المتهم، الذي اعترف أنه طعمه بدون موجب حق بقيمة ثلاث كمبيالات لم يتم العثور عليها بما مجموعه 100 مليون سنتيم، بناء على ثلاث كمبيالات، تنضاف إليها كمبيالة رابعة بمبلغ 50 مليون سنتيم، بتاريخ 10 يوليوز 2009، ليصبح إجمالي قيمة الكمبيالات التي استفاد منها المستشار البرلماني 173 مليون سنتيم، إذ إن الكمبيالة الأخيرة، تم العثور عليها في البنك وجرى تقديمها للاستخلاص عن طريق المقاصة، قبل أن يتم حذفها من المبالغ المسطرة، بذمة الشركة، لتبقى الكمبيالات التي استفادت منها، بشكل غير قانوني، هي الثلاث الأولى.
الممثل القانوني للمؤسسة البنكية التي انتصبت طرفاً مطالباً بالحق المدني، أشار أيضاً خلال الاستماع إليه، في كل مراحل التحقيق في الملف، من قبل عناصر الشرطة القضائية والنيابة العامة وقاضي التحقيق، إلى أن حساب المستشار البرلماني الذي يعد متهما في الملف، تم تمكينه أيضاً من مدينية غير مرخص لها، تم تحديد قيمتها بالإضافة إلى الكمبيالات الثلاث الأولى، بموجب اتفاق تم عقده معه، بتاريخ 13 يناير 2011، على أساس أن يؤدي قيمة الدين الإجمالي البالغ قدره 132 مليون سنتيم، ضمن مدة ممتدة على 12 شهراً كحد أقصى، ابتداءً من شهر يناير 2011، غير أنه لم يعمل على احترام هذه البنود، خصوصاً المتعلقة بالمدة الزمنية المتفق حولها، ما ترتب عنه تفاقم الرصيد المدين المسجل بحساب شركته البنكي، وهو الرصيد الذي بلغ إلى حدود 31 دجنبر 2012، مدينية قدرها 30 مليون سنتيم، على الرغم من إيداع أحد أقاربه المسمى، (ج.ح)، مبلغاً نقديا بلغ 132 مليون سنتيم، وهو المحدد في الاتفاقية، في 13 يناير 2011، وهو المبلغ الذي غطى فقط على الرصيد المدين، بالإضافة إلى ثمانية أقساط مرتبطة بالاتفاق الموقع بين البرلماني المتهم والمؤسسة البنكية، فيما بقي بذمته، في إطار الاتفاق مبلغ 51 مليون سنتيم، موقوفة بتاريخ 21 يناير 2013، الموازي لأربعة أقساط غير مؤداة من الاتفاقية، بالإضافة إلى فوائد التأخير.
حكم بالسجن والغرامة والتعويض
المعطيات التي أدلت بها المؤسسة البنكية بالوثائق والأرقام جعلت قاضي التحقيق في محكمة الاستئناف بالغرفة الخامسة، المكلف بالجرائم المالية، يؤكد على أنه بناء عليه، ثبت قيام أدلة كافية على ارتكاب البرلماني المتهم، فعل المشاركة في جناية اختلاس وتبديد أموال عمومية، ليحيله على الهيأة القضائية بغرفة الجنايات الابتدائية بقسم جرائم الأموال بمحكمة الاستئناف بالرباط، التي ناقشت الملف في جلسات عدة، واستمعت إلى مرافعات الوكيل العام للملك، ودفاع المتهم والمطالب بالحق المدني، قبل أن تصدر حكمها فيه بتاريخ 16 نونبر 2015، حيث قضت بعدم مؤاخذته من أجل جناية المشاركة في اختلاس أموال عمومية، والتصريح ببراءته منها، وبمؤاخذته من أجل الباقي، والحكم عليه بسنتين حبساً نافذاً في حدود سنة، وموقوفاً في الباقي، وغرامة مالية نافذة قدرها خمسة آلاف درهم، مع الصائر والإجبار في الأدنى، وفي الدعوى المدنية التابعة في الشكل بقبول المطالب المدنية، وفي الموضوع بالحكم على المتهم بأدائه لفائدة المؤسسة المطالبة بالحق المدني في شخص ممثلها القانوني، تعويضاً قدره 52 مليون سنتيم، مع الصائر والإكراه البدني في الأدنى، وبرفض باقي الطلبات.