شوف تشوف

الرئيسية

هكذا طبخت أحكام الإعدام والمؤبد واتجهت المحاكمة نحو النهاية المأساوية

تحدث البعض عن كون الأحكام تسربت إلى بعض الجهات النافذة في الدولة قبل النطق بها، وأن أحدهم أجرى مكالمة هاتفية غاية في الأهمية، في الرباط، مع صديق حميم لأحد المحامين المدافعين عن متهمي محاكمة مراكش، أخبره فيها أن يخبر صديقه أن الأحكام ستكون قاسية جدا في حق نسبة كبيرة من المتهمين.
هل وصلت هذه المعلومة إلى مسامع الدفاع؟ وحدهم الذين كانوا في عمق المعمعة، وعلى وشك أن يخرجوا من عنق الزجاجة، يعلمون حقيقة الأمر. فبعض المصادر المقربة من القضية روجت لفرضيات كثيرة، أولها أن دفاع المتهمين كانوا قد علموا مبكرا أن بعض الأسماء سيُحكم عليها بالإعدام وأخرى بالمؤبد، بينما ستوزع قرون من السنوات على المتهمين الباقين. على كل حال، آخرون يشهدون أن محاميي الدفاع بقوا متمسكين باستماتة وحاولوا استغلال بعض الثغرات القانونية، لكن الأمر كان أكبر من أن يعالج بالنفاذ عبر ثغرة قانونية، لأن الأمر كله كان خارجا عن القانون.

أحكام الإعدام.. لصالح من؟
مع اقتراب منتصف شتنبر من سنة 1971، كانت المحاكمة تتجه نحو نهايتها المأساوية التي رسمت لها بعناية، وكان المتابعون لها يتوقعون أن يطول عمرها أكثر مما عمّرت، خصوصا وأن الدفاع كان في كل مرة يتمسك بضرورة تقديم توضيحات واستدعاء شهود كثر، فيما كان الاستماع للمتهمين واحدا واحدا يبتلع معظم توقيت الجلسات الماراثونية، لكن كل هذه الأمور طويت لتعلن النهاية في الأخير.
لن نتساءل، بطبيعة الحال، عن حيثيات الأحكام، فالأمر شبيه بالتساؤل الذي طرحناه قبل قليل بخصوص تسربها، وهو ما يثبت أن موظفي المحكمة تلقوا تعليمات هاتفية، وأن المحاكمة كانت تُسير من بعيد. السؤال الأكثر أهمية هو لصالح من كانت تلك الأحكام القاسية؟
في الفترة نفسها التي كانت تجري فيها المحاكمة على قدم وساق، في الأيام الأولى من شهر شتنبر، وقعت جلسة غير عادية في فندق الرباط، حيث اعتاد العسكريون أصحاب الرتب العسكرية الكبيرة أن يجلسوا في الأمسيات السرية التي كانوا يتداولون فيها آراءهم في أمور كثيرة تقع في البلاد، بكل أريحية بعيدا عن علاقتهم بالجيش ومهامهم المهنية. لكن الفرق أن الجلسات التي كان يتحدث الجالسون فيها عن المحاكمة لم يكونوا عسكريين، وإنما مدنيين سياسيين، و«مخزنيين»، لأن العسكريين وقتها لم تكن لأغلبهم الشجاعة ليجلسوا في اجتماعات خاصة بعد انقلاب الصخيرات، مخافة أن يتم اتهامهم بتدبير أمر انقلاب مقبل، أو العلم بالسابق الذي زلزل أركان الجيش في المغرب.
وهكذا كانت الأطراف التي تتابع محاكمة مراكش، تريد أن تفوز بالحظوة عند التشكيلة الجديدة التي تحكم، بعد إزاحة الوجوه العسكرية التي كانت تتحكم في الداخلية والانتخابات بحكم نفوذهم داخل الدولة، ليتنازلوا عن المجال لوجوه جديدة من دار المخزن، وسيكون عليهم أن يؤكدوا على ضرورة التعامل بحزم و«قساوة» مع المتهمين المدنيين باستهداف النظام في المغرب، ليس فقط حتى لا يتكرر سيناريو الصخيرات، ولكن ليؤكدوا لدوائر القرار الجديدة، أنهم سيواجهون أي نوايا معارضة أو انقلابية داخل الدولة. وهكذا كانت النخب الجديدة تفكر في مغرب ما بعد انقلاب الصخيرات.
أحكام الإعدام التي صدرت في شتنبر، كانت في مصلحة هؤلاء النافذين الجدد. أما كيف صيغت، والأجواء التي نُطقت خلالها الأسماء داخل قاعة المحاكمة، فقد كانت عصيبة جدا.

صناعة الرعب
لم تعد تفصل عن لحظة النطق بالأحكام في محاكمة مراكش إلا أيام قلائل. نحن في الـ13 من شتنبر 1971. مراكش بدأت تودع الصيف الحارق لتلك السنة، والناس يضعون أيديهم على قلوبهم، خصوصا منهم الذين لديهم أقارب متهمون، أو يتابعون الأحداث. فيما السواد الأعظم من المواطنين كانوا ينظرون إلى القضية بكثير من الريبة، ويفضلون الابتعاد عن الخوض في السياسة، نظرا للهالة والأساطير التي أحيطت بها المحاكمة والوضعية الرهيبة للمتهمين الذين لا يتمنى أحد أن يكون مكانهم.
بطبيعة الحال، فإن الأحداث التي وقعت في المغرب في ما بعد جعلت المحاكمة مجرد أضحوكة ومشجب لتعليق الكثير من الأخطاء السياسية، خصوصا بعد أن تم التراجع عن أحكام الإعدام في حق أسماء كثيرة، لكن الظروف التي كانت محيطة بالمحاكمة في لحظاتها العصيبة، كانت مختلفة تماما، وتجعل منها حدثا غامضا بامتياز. لذلك كانت الجلسة التي سبقت النطق بالأحكام بجلستين تقريبا، مناسبة لتعرض فيها النيابة العامة بعض الأسماء، وتذكر رئيس المحكمة بالمنسوب إليها من جرائم، أمضى المتهمون والدفاع أشهرا في محاولة نفيها عنهم والتأكيد على أنها مجرد فبركة للتخلص منهم ومن أفكارهم.
«اعترف بذلك سابقا للشرطة وإنكاره الآن لا ينفعه في شيء». هذه العبارة علّق بها ممثل النيابة العامة على قضية متهم يسمى الجيلالي محمد بوعلام. هذا الأخير كان متهما بانتمائه إلى المنظمة التي اتهم محمد الفقيه البصري بتأسيسها من خارج المغرب. ووقع على أوراق اعتراف في محاضر الشرطة بأنه انتمى إليها، والأكثر من هذا أنه جلب إليها عناصر جديدة واستقطب آخرين للانضمام، لكنه أمام القاضي في المحكمة اتهم المحققين بتعذيبه وإجباره على الاعتراف بالمنسوب إليه.
عندما نطق ممثل النيابة العامة بتلك الجملة الشهيرة التي تقول إن إنكار المتهم لا ينفعه في شيء، فقد كان في الأمر تأكيد ضمني للقاضي، أمام أنظار الدفاع المكون من خيرة محامي البلاد، على أن الأحكام يجب أن تكون قاسية ضد المتهمين، ما دامت النيابة العامة ترى أن إنكارهم للمنسوب إليهم لن ينفعهم في شيء. في جلسة شبه حاسمة، سبقتها جلسات كان الهدف منها الاستماع لهؤلاء المتهمين الذين قدموا تفاصيل كثيرة تؤكد أنهم كانوا بعيدين تماما عن الانتماء لمنظمة تخريبية، واتضح أن أغلبهم ينشطون إما في فروع حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أو لهم ماض مشترك مع أعضاء المقاومة قبل الاستقلال.
شخص آخر كان يلقب بـ«الخطير الخطير»، وهو أحد مشاهير المحاكمة وصدرت في حقه عقوبة حبسية قاسية جدا، بعد أن نجا بأعجوبة من حكم الإعدام الذي ناله آخرون لم تكن تهمتهم لتختلف كثيرا عن تهمة المدعو «الخطير الخطير». ممثل النيابة العامة قال عن هذا الأخير، في الجلسة نفسها التي سبقت جلسة النطق بالأحكام، إنه: «أعطى صورة عن التداريب التي قام بها في الجزائر وسوريا، وصرح عند قاضي التحقيق العسكري بأنه اعترف بتهمة المساس بسلامة الدولة، وصرح بالقول إنه كان يحمل اسم بومدين وقضى في تلك الرحلات ست سنوات، ثم تراجع عن تصريحه عند نفس القاضي».
كيف سنعرف أن هؤلاء المتهمين كانوا فعلا أبرياء من المنسوب إليهم؟ يتعلق الأمر هنا بمصير أناس، تجاوز عددهم المائة، اتهموا بتهم غاية في الخطورة، ونالوا عقوبات غاية في القساوة أيضا، لكن الملف طُوي في الأخير بطريقة كشفت لنا، لاحقا، أن نسبة كبيرة من الاتهامات كانت مفبركة، وتدخل العفو الملكي لإصلاح ما أفسده محركو خيوط هذه المحاكمة التي تعد واحدة من أغرب محاكمات القرن في المغرب، وربما في العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى