هكذا دبر المغاربة الكوارث الطبيعية قبل قرنين
من زلزال 1755 إلى هزة مراكش 1859 مرورا بالكوليرا
يونس جنوحي
المؤرخ المغربي، الضعيف الرباطي، في كتابه الشهير الذي وثق فيه لأغلب الأحداث التي عرفها المغرب، لأزيد من قرنين، بلغة لا تخلو من إثارة، لم يفصل كثيرا في ذكر هذا الزلزال، واكتفى بالإحالة على تسجيل هلع كبير في المغرب، وثق له عدد من العلماء في رسائلهم، ولحق دمار كبير بالبنايات مثل دور القضاة والقواد. بل إن الضعيف الرباطي أكد أن الزلزال تسبب في بروز أمواج عاتية في البحر، ألحقت أضرارا كبيرة بسكان الساحل.
هذه الكارثة التي تناولها هذا المؤرخ المغربي عرفت وقتها بالزلزال الذي هيج البحر، بحكم أنه ضرب في إسبانيا والمغرب في الوقت نفسه.
تجاوز المغاربة هذه الكارثة بأعجوبة، إذ سجل التاريخ أنها كانت أحد أعنف الزلازل التي عرفها العالم، قبل أكثر من قرنين.
++++++++++++++++++++++++++++
هكذا دبر المغاربة أزماتهم قبل قرنين
عندما تقرؤون بعض التفاصيل في هذا الملف، سوف يتضح لماذا يرفض المغرب مساعدات دول مثل فرنسا والجزائر. لكن تاريخ المساعدات الأجنبية إلى المغرب خلال القرنين الأخيرين، لم يخلُ أغلبها من سياسة، بل إن بعض المساعدات استُعملت لنشر المسيحية وأفكار معادية لوحدة المغرب، خلال فترات الانقسامات وعدم الاستقرار السياسي.
سبق لموظفي حكومات أجنبية، خصوصا فرنسا، أن عاشوا أجواء بعض الكوارث الطبيعية التي ضربت المغرب. نشرت صحف فرنسية صدرت في الدار البيضاء بشكل دوري ما بين سنتي 1920 و1929 مقالات عن سوء الأحوال الجوية في المغرب، وتأثر بعض الثكنات العسكرية التابعة لها بتلك الأجواء العصيبة، بل وانجراف عدد من الآليات العسكرية بسبب السيول في منطقة الأطلس، منها طائرات حربية كاد أن يجرفها وادي سوس، لولا أن بعض الطيارين استعملوا سواعد السكان المحليين لحماية تلك الطائرات وربطها بحبال، حتى لا تنجرف التربة أسفلها وتقودها إلى الوادي.
جاء في صحيفة «لير فرونسي»، التي كانت تُطبع في الدار البيضاء بتمويل واضح من الإقامة العامة الفرنسية خلال العشرينيات، تغطية خاصة لأحداث الحوز لسنة 1923، ما يلي: «أتت السيول على معدات عسكرية وصناديق خشبية من الذخيرة التي كان مبرمجا أن تدخل مخازن الثكنة المحلية، احتياطيا للمواجهات المقبلة مع المتمردين. وفتح الحاكم العسكري تحقيقا لكشف مسؤولية العسكريين المتهاونين في إدخال المعدات، وتركها رغم الحراسة في مرمى انجراف المياه. أعلنت حالة الطوارئ وعممت رسائل عاجلة إلى جميع القوات العسكرية، لمنع أي تحرك عسكري طيلة فترة فيضان الأودية، حتى لا تتكرر خسائر مستقبلية في المعدات وعربات النقل. بالإضافة إلى خسائر طفيفة سُجلت في ثكنة بني ملال، حيث جرفت السيول أخشابا معدة لمد خط الهاتف، وهو ما تسبب في تأخر الأشغال لأسابيع أخرى، بسببها سوف تتأجل بعض العمليات العسكرية في المنطقة والتي تتطلب تنسيقا هاتفيا بين القوات. ولم تسجل أي خسائر في الأرواح».
أما في طريقة تدبير المغرب للكارثة، فقد أثنى الطبيب الفرنسي الشهير «لويس أرنو»، الذي كتب واحدا من أشهر الكتب التي وثقت للمغرب بعيون فرنسية، قبل توقيع معاهدة الحماية بسنوات، على طريقة تدبير المغاربة للكوارث، وكتب يقول إنه وصل إلى الدار البيضاء بالتزامن مع فيضان وسيول وأمطار، لكنه صُدم عندما وجد أن جيش السلطان أعد أماكن شاسعة لاستقرار السكان، ووزع أعوان المخزن المؤونة على المتضررين. بل إن الطبيب نفسه كان يعاني بسبب الظروف التي مرت فيها رحلته للوصول إلى الدار البيضاء، وشمله الوزير المغربي باحماد بعطف كبير وصرف له مساعدة كبيرة لكي تعينه في رحلته.
التبشير.. الوجه الآخر لمساعدات أجنبية ملغومة
لو لم تكتب المغامرة البريطانية الشهيرة «آميليا بيريير» مشاهداتها، لما عُرف أي شيء عن واقعة مهمة تزامنت مع فترة جفاف قاس جدا ضرب شمال المغرب. الكتاب نُشر سنة 1873، ووثقت فيه آميليا لما عاشته بين المغاربة، خصوصا في منطقة طنجة الدولية، واختارت له عنوان: « winter in MoroccoA »، وهنا ننشر ترجمة حصرية للفقرات التي سجلت فيها واقعة استغلال أجانب لموجة الجفاف التي ترتبت عنها مجاعة قاسية، حيث حاول أحد الأجانب في طنجة، ممارسة أنشطة تنصيرية مغلفة بتوزيع الإعانات.
تقول:
«هناك واقعة جديرة بالذكر، حدثت قبل مجيئي إلى طنجة بفترة قصيرة، لكنني تمكنت من معرفة تفاصيلها من مصادر جديرة بالثقة في السلطة.
كان الغرض من هذه المهمة هو إقناع المغاربة باعتناق المسيحية. وكان هناك قس صغير، بروتستانت، متحمس لهذا الأمر، هو الذي تم تكليفه بهذه المهمة.
لسوء الحظ، لم يكن هذا القس يفهم اللغة العربية. ولم يكن هناك بالمقابل أحد من بين مائة مغربي في طنجة يعرف أكثر من خمس كلمات في اللغة الإنجليزية، ولا حتى واحد من بين عشرين إسبانيا يفهم خطابا بالإنجليزية.
على كل حال، كان هذا القس المكلف بالمهمة من النوع الذي لا ييأس، ولم يكن حاجز اللغة هذا ليمنعه من القيام بالمهمة.
ولكي يجلب النور إلى هؤلاء المغاربة «الغارقين في الظلمات» (يجلسون القرفصاء وسعداء بحياتهم رغم ذلك) في طنجة، فقد استعان بيهودي مغربي ثري ومعروف. كانت مهمة هذا اليهودي أن يترجم للناس ما يقوله القس حرفيا.
قد يبدو الأمر غريبا، أن يقوم يهودي بترجمة خطاب قس يدعو المسلمين إلى أكثر دين يمقته.
لكن من يفكر في كلامه سوف يقتنع دون الحاجة إلى مترجمه.
اليهود، غالبا، لا يؤمنون بالسلطة الإلهية في الوصايا الدينية الجديدة. لكن هناك خصلة جيدة فيهم، وهي أنهم يظهرون لك أنهم يتبنون منهجية في عقيدتهم: «كن حكيما كالأفعى ومسالما كطائر الحمام». «بن نوني»، وهو اسم اليهودي الذي كان مكلفا بمهمة الترجمة، كان من هذا النوع وكان يطبق المقولة ذاتها في تعاملاته.
قبل بدء المهمة، أخبر المترجم اليهودي مُشغّله النصراني، أن الشائع في المغرب في كل المناسبات والتجمعات أن يتم تقديم المشروبات إلى الزائرين والمتجمهرين في نهاية كل تجمهر، ويتم تقديم القهوة أو الشاي إلى كل الحاضرين للاجتماع. وهذا الأمر سيكون، في البداية، سياسة جيدة، على عكس ما هو متعارف عليه في السابق.
كان القس يطمح إلى التأثير إيجابيا على المتنصرين المحتملين ويقنعهم بنفسه، وهكذا تم إرسال طلب للحصول على كميات من كؤوس القهوة، من أقرب محل، في أول تجمع.
وهكذا بدأت مراسيم الخطبة.
كان بن نوني، يتحدث إلى الناس بنبرة الرجل الثري، وقد كان كذلك فعلا، بحكم أنه ينحدر من أسرة ثرية تمارس التجارة. لذلك كان يقول للناس، حسب ما أوردته آميليا: «هذا رجل إنجليزي جاء خصيصا ليتحدث إليكم. استمعوا إليه، وعندما ينتهي من كلامه، سوف يقدم إليكم القهوة».
لكنه في أحايين أخرى، ربما عندما يفقد صبره، يخبر الناس وهو يحدثهم عن شخصية القس النصراني: «إنه رجل غاضب كل ما يقوله بلا معنى. لكنه عندما ينتهي، سوف يقدم إليكم القهوة». أو:
«لا تخافوا. ليس هناك أي ضرر في ما يقوله. وعندما ينهي كلامه، سوف تستمتعون جميعا بشرب القهوة».
++++++++++++++++++++++++++++
ملامح من مغرب ما بعد كارثة الشمال عقب وفاة المولى الحسن الأول
نحن هنا أمام كتاب من «عجائب» ما كُتب عن المغرب، صاحبه هو «آرثر كامبيل»، وعنوانه: «جولة في المغرب.. ومشاهد أخرى». ويحكي مشاهدات هذا المغامر الإنجليزي في منطقة الشمال على وجه الخصوص، والتي زارها مباشرة بعد وفاة المولى الحسن الأول، حيث عرفت عدة مناطق من المغرب، بالإضافة إلى «لعنة» الكوليرا، لعنة أخرى عنوانها عدم الاستقرار السياسي.
المميز في هذه المذكرات أنها توثق لمغرب ما بعد مرحلة «الحجر الصحي» مباشرة. وهنا مقتطف من هذه المذكرات، انفردت «الأخبار» بنشر ترجمتها إلى العربية مباشرة من الكتاب الأصلي الذي طُبع سنة 1897، سنة واحدة فقط بعد مغادرة الكاتب للمغرب».
«أخيرا وصلنا إلى البر. وتمشينا فوق شيء غريب يستعملونه في المغرب سلما بين الباخرة والمرفأ. ووجدنا أنفسنا فوق رصيف مغربي عجيب. وفجأة وجدنا أنفسنا محاطين بحشد من المغاربة، بعضهم كانوا يرتدون قبعات مغربية وآخرون يضعون عمامات فوق رؤوسهم. كان هناك بينهم من يرتدون ملابس زائدة ويلفون أنفسهم في الثوب، بينما آخرون كانوا شبه عراة بالكاد يغطون جزءهم الأسفل. لكنهم كانوا جميعا متسخين ويتصايحون في صخب.
كانوا يقتربون منا وبدؤوا في الإمساك بي من ذراعي ومن ساقي أيضا. كانوا جميعا يريدون المال، أو يعرضون توفير خِدمة يتلقون المال من أجلها.
أخذ «مورينو» حقائبي واخترق جوقة الضجيج، إذ كان يرد على حقارتهم بحقارة مماثلة. تبعته وبقيت وراءه عن قرب».
«أخيرا، وصلنا إلى فندق. الدخول إليه من الشارع يشبه العبور من حضارة إلى أخرى. كنت من أوائل من زاروا المغرب مباشرة بعد أن رفع الحجر الصحي. ونتيجة لذلك وجدت نفسي الزبون الوحيد في فندق فسيح، مُريح وواسع.
قلبي ارتجف، ليس خوفا من ميكروبات الكوليرا، ولكن لأن الفندق كله أصبح كما لو أنه ملكي. وربما ينتظرون مني الأداء عن استغلالي للفندق وحدي.
كان مالك الفندق يتحدث الإنجليزية بطلاقة، بالإضافة إلى لغته الأصلية الإسبانية. لكنه كان يتفاصل بشأني مع «مورينو»، كما لو أنني قطعة من الأمتعة».
يقول «آرثر» إن مالك الفندق بدا متأثرا بأزمة مرض الكوليرا التي شلت اقتصاد الفندق، لذلك كان يرغب في توسيع هامش ربحه. وتحول النقاش حول السعر إلى ما يشبه معركة انتهت، كما يقول آرثر، بأن فرض الشروط التي يريدها هو، وليس مالك الفندق.
يقول «آرثر» إن الخادم الذي تولى نقل أمتعته من الميناء إلى الفندق، طلب منه ألا يغادر الفندق نهائيا إلا عندما يعود إليه. وبدا أن «مورينو» هذا كان يعمل مرشدا سياحيا للأجانب، وبحكم أنه كان أيضا أجنبيا، فقد كان يفوز دائما بجل الزبائن الذين يعرض عليهم خدماته، بعكس المرشدين المغاربة الذين يفشلون، خصوصا مع انتشار الكوليرا، في استقطاب السياح الذين وصلوا لتوهم إلى المغرب.
لكن أكثر الفقرات إثارة، هذه التي يصف فيها أجواء انتشار الوباء الذي صنف وقتها أحد أسوأ كوارث القرن:
يقول «آرثر» متحدثا عن استخفاف المغاربة بمرض الكوليرا والطاعون، وهو يستحضر تجربة حديث مع أحد المغاربة الذين ينتمون إلى زوايا الشرفاء:
«الفرنسيون خلال فترة الكوليرا، قاموا بإرسال الأطباء لغاية علمية. حيث أفلحوا في علاج الأوروبيين في طنجة ونجحوا في هذا الأمر. لكن في أعين المغاربة، فإن تلقي هذا العلاج يعد شركا بالله. وأن الأطباء لا بد وأنهم يتعاونون مع الشيطان ويحاولون الاعتراض على مشيئة الله.
الرجل المسن في الجبل كان قد سمع من قبل بهذه الأمور، وأنا كنتُ «الكافر» الأول الذي مر بقربه منذ أن تم فرض الحجر الصحي. عندما رآني نهض من مكانه ووقف وبدأ يسبني ويصرخ باسم الله والرسول.
قال «مورينو»:
– أخبرتُه أن 16 منا ماتوا. ومن قبيلته هو مات ثلاثة آلاف، وثلاثة آلاف أخرى في طنجة وفي تطوان. لأن الأطباء قالوا إنه يجب غلي الماء قبل شربه والاستحمام باستمرار. ونحن التزمنا بهذا الأمر وهم لا.
– وبماذا أجابك؟
– إنه رجل أحمق. لقد قال لي إن الله إذا أراد أن يموت شخص ما أو أن يعيش، فإن مشيئة الله هي التي سوف تكون. والأطباء والماء المغلي ليسوا إلا شرا».
زلزال 1755 الذي ضرب المغرب وإسبانيا معا
المؤرخون أطلقوا على هذا الزلزال، زلزال «لشبونة». وحدث يوم 1 نونبر سنة 1755، ومات فيه عشرات الآلاف، ووصل تأثيره إلى المغرب، حيث سجلت خسائر كبيرة في الأرواح بعدد من نواحي المغرب، في اليوم ذاته.
المؤرخ المغربي، الضعيف الرباطي، في كتابه الشهير الذي وثق فيه لأغلب الأحداث التي عرفها المغرب، لأزيد من قرنين، بلغة لا تخلو من إثارة، لم يفصل كثيرا في ذكر هذا الزلزال، واكتفى بالإحالة على تسجيل هلع كبير في المغرب، وثق له عدد من العلماء في رسائلهم، ولحق دمار كبير بالبنايات مثل دور القضاة والقواد. بل إن الضعيف الرباطي أكد أن الزلزال تسبب في بروز أمواج عاتية في البحر، ألحقت أضرارا كبيرة بسكان الساحل.
مدينتا فاس ومكناس، حسب المؤرخ محمد الضعيف الرباطي، شهدتا خرابا كبيرا وتساقطت البنايات، وعمت فوضى عارمة، وانتشرت الأمراض بسبب كثرة الوفيات تحت أنقاض التراب والركام، بينما في القرى سجلت خسائر كبرى، وتزامن الزلزال مع فترة جفاف، أتى خلالها على ما تبقى للناس من مؤونة، حتى أن سكان بعض القرى كادوا يموتون جوعا، بعد أن تهدمت مخازن الحبوب ونفقت دوابهم. لولا تدخل المخزن لتوزيع كميات من الحبوب على السكان، لكانت الوفيات بسبب الجوع جسيمة.
زلزال «لشبونة» الشهير، كان أحد أسوأ الكوارث الطبيعية التي عرفها العالم حتى بعد أن مر أكثر من قرنين عليه، وبقي المغاربة يتداولون الأخبار المتعلقة بهذه الكارثة، خصوصا في مجالس العلماء ونخب المغرب، ويستشهدون على قوتها، بتهدم بعض البنايات المتينة وتداعي الأسوار التي كانوا يظنون إلى وقت قريب قبل الكارثة، أنها تصمد أمام غزو الإسبان والبرتغاليين، لكنها تأثرت بالزلزال، وبوشرت أشغال مكثفة لإصلاحها.
جاء في مؤلف تاريخ الضعيف الرباطي، والذي يعرف أيضا بتاريخ الدولة السعيدة، ما يلي:
«وفي ضحوة يوم السبت السادس والعشرين من محرم الحرام، فاتح تسع وستين ومائة وألف 1169ﻫ (الموافق لسنة 1755)، وقعت زلزلة عظيمة ارتجت الأرض بها ارتجاجا فاهتزت أولا، ثم مالت مشرقا ومغربا، وبقيت تضطرب وسُمع نحو اسم صوت من الأرض يشبه صوت الرحى التي تدحرج بالأزقة، وقدر ما بين اهتزازها وسكونها قريب من درج. سمعنا من يقول: اضطرب الماء في الصهاريج حتى فاض على البيوت، وتغيرت العيون ووقف الماء في الأودية عن الجري. وسقطت بعض الدور بفاس القديم؛ فمن لطف الله أنه لم يمت بفاس إلا نفسان أو ثلاث. وسقط التراب واللبن من غالب الدور، وتصدعت الحيطان وتعيّبت وأخذ الناس في هدم ما تعيب منها خوف سقوطه عليهم؛ وفزع الناس الفزع الأكبر وفروا من الحوانيت وتركوا أمتعتهم بها، وهي غير مغلوقة. وعُطلت المكاتب والأدرزة والأسواق، وتدارك الله تعالى خلقه بلطفه وعفوه.
ثم جاء الخبر لفاس من مدينة سلا أن البحر مال لأقصاه وهرب، فخرج الناس ينظرون فولى إلى ناحية البر وعرج عن الأرض نحو مسافة، وغرق فيه جميع من وجد خارج المدينة؛ فمات فيه خلائق، وصادف قافلة ذاهبة إلى مراكش فيها من الدواب والآدميين عدد كثير، فمات الجميع. ودفع ما في سواحله من الفلك والقوارب فوجد قاربا أبعد من البحر بأكثر مسافة على ظهر الأرض، والمُلك لله وحده».
مشاهد تحبس الأنفاس سجلها مؤرخ مغربي قبل 268 سنة
«ثم ورد خبر آخر أن بعض الجبال تصدع منها جبل صغير قرب سيدي أبي الشتاء من عمل ورغة، تصدع بثلاث قطع فصادفت قطعة منها دارا فمات أهلها جميعا؛ وبقي الناس في وجل وهم يذكرون أنها عادت مرارا، ولكن لم يتحقق كل الناس. ثم مضى نحو من ستة وعشرين يوما فوقعت زلزلة أخرى بعد صلاة العشاء شديدة جدا أشد من الأولى، إلا أنها لم تطل، بل هدأت بسرعة، فسقطت دور من فاس واشتد رعبهم؛ فورد الخبر بأن غالب دور مكناسة وقصورها انهدمت ووقعت صومعة مسجدها الأعظم إلى أساسها، وتهدم كثير من المساجد ومسجد قصبة السلطان الأعظم؛ ومات بالهدم خلائق كثيرة بمكناسة وأحصي منها نحو عشرة الآلاف، ومن لم يحص لا يعلمه إلا الله. ووقع من ذلك أمر هائل، وخرج من بقي في المدينة إلى الفضاء وضربوا الفساسيط والأخبية والخزائن والقياطين، ومن لم يقدر اشترى من مطلق الثياب والخشنة، ولولا أن حاكمها منعهم من الخروج عنها عن أمر قاضيها الفقيه أبي القاسم بن سعيد العميري، لخلت وبقيت براحا. ثم لما طال الحال وتنوسي بعض ذلك، زال روعهم ورجعوا لها وأخذوا في تخميل التراب من الدور والبحث عن الأمتعة؛ وتمول من ذلك قوم وافتقر آخرون. ثم أخذ الناس بعد ذلك في البناء. وأما أهل فاس لما ورد عليهم الخبر اشتد روعهم وقصدوا أيضا البراحات والمساجد مدة خوفا من عودتها مرة أخرى. ثم بعد ذلك هدؤوا وكان من لطف الله بفاس أنه لم يتهدم الكثير من دورها ولم يمت بها إلا القليل، ولكن تعيب كثير من جدرانها؛ ومن لطف الله تعالى بأهل سلا وأهل الرباط أنه لم يمت أحد منهم. ثم ورد الخبر أيضا بإهلاك مدن من بلاد النصارى دمرهم الله بأمر هائل جدا، والحمد لله على هلاكهم وعلى فضل الله ولطفه ورحمته بالمؤمنين، لولا أن من الله بنا لخسف بنا، اللهم اعصمنا من الأهوال، نسأله تعالى دوام نعمته وعافيته».
الكلام هنا للمؤرخ المغربي الضعيف الرباطي، وهو يواصل وصفه لزلزال المغرب الشهير الذي ضرب البلاد سنة 1755. وما يثبت أن تأثير هذا الزلزال كان واسعا جدا، هو ما سجله هذا المؤرخ من مشاهدات تحبس الأنفاس، في عدد من مناطق المغرب.
حسب بعض المؤرخين المغاربة من فترة حكم المولى الحسن الأول إلى حدود سنة 1894، فإن البلاد لم تشهد أبدا زلزالا عنيفا تصل درجته إلى درجة الزلزال الذي لقبه المغاربة وقتها بزلزال «البحر»، بحكم أنه ضرب في إسبانيا وامتد تأثيره إلى المغرب حيث تقلب البحر وسُجلت خسائر كبيرة في السفن التي كانت تمر بالمحاذاة من السواحل المغربية، سيما قرب سلا.
زلزال مراكش 1859.. ربطه الناس بوفاة عالم شهير
تناسلت إشاعات كثيرة في المغرب فور أن ضرب الزلزال في ليلة السادس من شعبان من سنة 1275 هجرية، كما وثقها المؤرخ المغربي الشهير أحمد بن خالد الناصري.
إذ يقول في كتابه الشهير «الاستقصا»، إن زلزالا يسيرا ضرب المغرب في ليلة السادس من شعبان، أحس به سكان مراكش بعد صلاة العشاء.
لكن المثير أن سكان مراكش وقتها ربطوا وقوع الزلزال، رغم أنه لم تسجل خسائر كبيرة في الأرواح أو المنازل، بوفاة أحد أشهر علماء المدينة، والذي توفي في وقت سابق من السنة نفسها، ويتعلق الأمر بالعالم الشهير محمد بن عبد الرحمن الفيلالي. ورغم أن الناصري لم يشر صراحة إلى وجود علاقة بين وفاة هذا العالم وبين الزلزال، إلا أن علماء آخرين ووزراء مغاربة في مدينة فاس، مثل محمد التازي، حكوا أن بعض علماء مراكش كتبوا إليهم بعد الزلزال، وقالوا إن بعض مريدي إحدى الزوايا ربطوا بين وفاة هذا العالم وبين الزلزال، على اعتبار المكانة الكبيرة التي كان يحتلها في نفوس بعض طلبته من مراكش، والذين عادوا من فاس، واشتغلوا في التدريس والإمامة في مساجد مدينة مراكش.
كما أن تزامن هذا الزلزال مع أيام شعبان، التي تُعتبر أياما مقدسة، كانت له دلالات أطلقت التأويلات على عواهنها.
ولم تكن تلك المرة الأولى التي تكون فيها تأويلات لأخبار الزلزال على هذه الشاكلة، فقد سبق للمؤرخ نفسه، أي الناصري، أن أشار إلى زلزال سابق حدث سنة 1624، في عهد الدولة السعدية، بمدينة فاس، وقال إن الناس سمعوا أحد المجاذيب وهو يردد عبارات تفيد باقتراب الخراب، ليحدث الزلزال فعلا بعد أيام، وسجل خسائر كبيرة في المنازل، حيث تهدمت أغلب الدور وسُجلت فيه أيضا وفيات كثيرة. وبقي الناس يرددون لسنوات طويلة ما كان يردده المجذوب، وزعموا أنه تنبأ بالزلزال قبل وقوعه.