هكذا تلاعب الجنرالات بالقطاعات الاستهلاكية الحساسة
يونس جنوحي
أي مجال سيختار العسكريون للاستثمار السريع؟ الخدمات الكبرى والقطاعات التي تمطر أموالا سيطر عليها الجنرالات. التابعون لهم في الصفوف الأمامية للجيش سيطروا على شركات الدولة وعلى شركات رجال الأعمال. مكنوهم من وساطات مهمة مقابل عمولات سخية. بينما الضباط الكبار اتجهوا نحو المتاجرة في كل ما هو استهلاكي. الأغذية والملابس وقطاع التصبير. وطبعا الجزائر لم تكن أبدا دولة منتجة لهذا النوع من الصناعات. الإنتاج الوحيد الذي سيطر عليه الجنرالات هو البترول والغاز.
فضل كبار الضباط العمل في مجال التجارة الاستهلاكية واستيراد السلع من الخارج لأنهم لن يجدوا مشكلا في المعاملات الإدارية مهما بلغ تعقيدها، كما أنهم لا يحتاجون أيضا إلى ضمانات. يقول هشام عبود إنهم لم يصادفوا أي مشاكل في الجمارك ولا في التخزين. الجزائر كلها مفتوحة أمامهم على مصراعيها. بينما شباب البلاد كانوا يعانون الأمرين للحصول على شهادة إدارية بسيطة.
الدينار والدولار
يشرح هشام عبود كيف أن كبار الضباط في الجيش تمكنوا من خلق رواج اقتصادي خاص بهم. ما دام الجنرالات الكبار قد سيطروا على القطاعات الكبرى منها البترول والغاز والفنادق الضخمة وقطاع الطيران والتجارة الخارجية. هؤلاء تمكنوا من السيطرة على المواد الاستهلاكية التي تشكل عصب الحياة اليومية للجزائريين. لكن ماذا سيحدث لو أن مواطنا جزائريا لديه رأسمال يسمح بدخول مجال الاستيراد من الخارج، وتسويق مواد غذائية أو ملابس جاهزة في الجزائر؟ يقول هشام عبود إن مصيره ببساطة سيكون تجميد ملفه أطول مدة ممكنة فوق رفوف الإدارات العمومية. سيغرق المستثمر في دوامة من الإجراءات القانونية والإدارية التي لا تنتهي، بينما الضباط المحظوظون ومن يدور في فلكهم، يسيطرون على السوق الداخلي. ما يهم هؤلاء هو الدينار، أما الدولار فقد تركوه لرؤسائهم.
هناك قاعدة ذهبية لدى مافيا الجنرالات. على الضباط ألا ينظروا نهائيا إلى القطع الموضوعة فوق طاولة الجنرالات. لا يجب أبدا النظر إلى الأعلى، إلا إذا سمح الجنرالات بذلك. وما أكثر الذين انتشلهم الجنرالات من الأسفل وأدخلوهم في عملياتهم القذرة لغسل الأموال، خصوصا العملة الصعبة. والمكافأة لا تكون مادية بالضرورة، بل يمكن أن تكون على شكل مسكن فخم في ضواحي العاصمة، أو منصب في سفارة جزائرية بالخارج.
أبناك في الجيب
الأكثر من هذا، أن الجنرالات أجبروا عددا من الأبناك الجزائرية على تقديم ضمانات مقابل العمليات التي اشتغل فيها كبار ضباط الجيش الجزائري. إذ إن التعاقد مع شركات استهلاكية أجنبية للمشروبات الغازية مثلا، أو «ماركات» الملابس الرياضية، كان يحتاج إلى ضمانات مادية لكي تتعامل معهم الشركات العملاقة. وهنا وضع الجنرالات أيديهم في جيوب الأبناك الجزائرية وسحبوا مبالغ الضمانات بكل بساطة.
لم يكن الاستثمار في المال والأعمال أمرا مستحيلا على الجنرالات. البلد كله كان مجندا لخدمة الجيش بما في ذلك الأبناك.
يقول هشام عبود: «المستورد لن يحتاج إلى استثمار سنتيم واحد ما دام يعمل في ظل «بارون» من بارونات النظام. كل جنرال لديه «مونوبول» اقتصادي محدد خاص به. هناك جنرال الأدوية، وهو الجنرال «غنيم». وجنرال «البيرة»، وهو الجنرال عاطيلية، وجنرال قطاع السكن، وهو الجنرال ابن القرطبي. ثم جنرال السردين، وهو الجنرال بوخوش. وجنرال القمح، وهو الجنرال العربي بلخير».
العربي بلخير كان يعاقب كل من يفكر في النصب عليه من الشخصيات التي اختارها بعناية للاشتغال لصالحه في قطاع استيراد حاجيات الجزائر من القمح، خصوصا في المواسم الفلاحية الصعبة. إذ إن الجزائر عانت دائما من ندرة الأراضي الصالحة للزراعة، بحكم أن معظم مساحة البلاد يطغى عليها المناخ الصحراوي، غير المناسب أبدا لزراعة الحبوب. فكان الحل هو الاستيراد، لكن المشكل أن الجنرال العربي بلخير راكم ثروة هائلة جدا من وراء هذه «التجارة» التي تدخل في نطاق الأمن الغذائي القومي، والتلاعب بها قد يجر البلاد نحو الهاوية.