شوف تشوف

بانوراما

هكذا تعود الاعتداءات الجنسية على الأطفال داخل الكنيسة إلى الواجهة

تحقيقات صادمة تكشف تعرض آلاف الأطفال لاعتداءات رجال دين كاثوليك

سهيلة التاور
منذ سنوات تشهد الكنيسة الكاثويكية اتهامات التحرش الجنسي في حق الأطفال من قبل الأساقفة ورجال الدين الذين يدعون إلى الإيمان. هذه المؤسسة الدينية المقدسة لم تستطع، رغم التقارير التي تنجز باستمرار وتنشر أرقاما مخيفة ومقلقة للاستغلال الجنسي، أن تتخذ إجراءات صارمة تجاه العاملين فيها، بل تحاول التستر على هذه الجرائم تحت بند «سر التوبة» الذي تعتمده الكنيسة وتلتمسه عذرا لعدم تسليم المدانين بالتحرش الجنسي للعدالة ليتخذ القانون مجراه وينالوا العقوبات اللازمة.

بعد تحقيقات استمرت عامين ونصف العام، سلمت لجنة مستقلة حققت في حجم الاعتداءات الجنسية على الأطفال في الكنيسة الكاثوليكية تقريرها علنا، صباح الثلاثاء الخامس من الشهر الجاري، في باريس، إلى مجمع أساقفة فرنسا الكاثوليك والرهبانيات بحضور ممثلين عن جمعيات ضحايا. وأهم ما جاء فيها أن أكثر من 216 ألف طفل تعرضوا لانتهاكات أو اعتداءات جنسية ارتكبها رجال دين كاثوليك في فرنسا بين 1950 و2020.
وأشار رئيس لجنة التحقيق جانمارك سوفيه إلى أن هذا العدد يصل إلى «330 ألفا إذا ما أضفنا المعتدين العلمانيين العاملين في مؤسسات الكنيسة الكاثوليكية» من معلمين في مدارس كاثوليكية وعاملين في منظمات للشبيبة وغيرهم.
وأكد سوفيه، الذي تولى رئاسة اللجنة في 2018: «هذه الأعداد ليست مقلقة فحسب بل مروعة وتستدعي تحركا أكيدا». وقال إن الكنيسة الكاثوليكية أبدت «حتى مطلع الألفية لامبالاة عميقة لا بل قاسية حيال الضحايا». وأضاف أن بين 1950 والعقد الأول من الألفية «لم يتم تصديق الضحايا أو الإصغاء إليهم واعتبروا أنهم ساهموا بطريقة أو بأخرى بما حصل لهم».
ونددت اللجنة بظاهرة «نُظمية» منتشرة جدا في الكنيسة. واقترحت «الإقرار بمسؤولية الكنيسة». وأوضح سوفيه أن «المبدأ التوجيهي الأول الذي توصي به اللجنة هو الإقرار بمسؤولية الكنيسة عما حصل منذ البدايات»، وطلبت أيضا «تعويضا» ماليا لكل الضحايا.
وبحسب اللجنة، التي تتألف من 22 عضوا، فإن الاعتداءات الجنسية على الأطفال ظاهرة منتشرة في الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية.

بالأرقام
تعبر الأرقام المذكورة في التقرير عن متوسط الانتهاكات الجنسية التي تعرض لها الأطفال خلال 70 عاماً بين عامَي 1950 و2020، فيما كان 80% من المعتدى عليهم أطفالا ذكورا، مقابل 20% من الإناث.
وقال جان مارك سوفيه، رئيس اللجنة التي أعدت التقرير، إن اللجنة جعلت كلام الضحايا «أساس عملها»، فأطلقت في بادئ الأمر دعوات لجمع شهادات على مدى 17 شهرا.
وكانت اللجنة المستقلة أنشئت في خريف العام 2018 وتضم 22 عضوا متطوعين ويتمتعون بمهارات تطال مجالات كثيرة كالطب والقانون وعلم النفس وعلم الاجتماع والتعليم وحماية الطفل والتاريخ والعلوم الاجتماعية واللاهوت وغيرها، واسمتعت اللجنة خلال عامين ونصف العام إلى الضحايا والشهود، كما اطلعت على أرشيف الكنيسة وتقارير ومحفوظات قضائية وأمنية وإعلامية وُضعت منذ خمسينيات القرن الماضي. وتلقت اللجنة 6500 اتصال أو تواصل من ضحايا أو أقرباء ضحايا، ثم عقدت 250 جلسة استماع طويلة أو لقاءات استقصائية، ودقّقَت في كثير من المحفوظات التي تعود إلى الكنيسة ووزارتَي العدل والداخلية وأرشيف صحفي وغيرها.
56% من حالات الاعتداءات الجنسية هذه حدثت بين عامي 1950 و1970، و22% منها بين 1970 و1990، و22% أيضا بين عامي 1990 و2020، إذ يُعَدّ ثبات النسبة المئوية هذا دليلا على عدم تحسن أوضاع حماية الأطفال في الكنائس منذ أكثر من 30 عاما.
وفي بعض الشهادات، أفاد الضحايا الذين أصبحوا بالغين اليوم بتعرضهم لضرب مبرح من قبل بعض القساوسة. وقال البعض إنه كان صعبا عليهم تصديق ما يجري معهم على يد شخص كان من المفترض أن يعلمهم الإيمان الكاثوليكي، قبل أن يكتشفوا أنهم لم يكونوا الوحيدين الذين تعرضوا لاعتداءات مماثلة».

اللجوء إلى سر التوبة والاعتراف
في قضية الاعتداءات الجنسية في فرنسا، صرح الأسقف إريك دو مولين بوفور، رئيس مجلس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، بأن الاعترافات الكنسية «سر مهني» لا يمكن كشفه من أجل معاقبة المعتدين. وهذا السر أقوى من قوانين الجمهورية»، ويجب، في المقابل، «تفهُّم السلطات هذا الأمر»، بأن ما يقال خلال الاعترافات «يجب أن لا يفشى تحت أي ظرف». وذلك للتهرب من المحاسبة القانونية أمام القضاء.
وقال رئيس مجمع أساقفة فرنسا المنسنيور إريك دو مولان بوفور: «أود في هذا اليوم أن أطلب منكم الصفح، أطلب الصفح من كل واحد وواحدة».
وسر التوبة هو أحد أسرار المسيحية السبعة. من خلاله يعترف المؤمن بذنبه أمام لله، طالباً منه الصفح والغفران. أو يتم الاعتراف أمام رجل دين، يعرف باسم «الكاهن المُعرّف».
ومن شأن رجل الدين أن يرشد «المذنب» روحياً ونفسياً، وأن يسدي إليه النصائح. ويطلب من «المذنب» أحياناً أن يقوم ببعض الأعمال الخيّرة الصغيرة. وتفرض الكنيسة على رجل الدين التكتم عن أسرار المؤمنين، لا بل إنه حق ينص عليه القانون الكنسي.

رد بابا الفاتيكان
أكد البابا فرنسيس أنه يشعر «بالخجل» بعد نشر تقرير مدين حول اعتداءات جنسية على الأطفال داخل الكنيسة الفرنسية، معتبرا أنها «لحظة العار».
وقال البابا: «أعرب عن حزني وألمي للضحايا على الصدمات التي عانوا منها وعن خجلي وخجلنا جميعاً لعدم قدرة الكنيسة لفترة طويلة على وضع هذه المشكلة في محور اهتماماتها».
وأضاف البابا، في لقائه مع العامة، «أؤكد لهم صلاتي. أصلي ولنصل معا. لك يا رب مجد ولنا العار. إنها لحظة العار»، داعيا جميع المسؤولين الدينيين إلى «الاستمرار في بذل كل الجهود لكي لا تتكرر هذه المأساة».
وبعدما تحدث عن «تجربة قاسية» ولكن مفيدة، دعا الكاثوليك الفرنسيين «لتحمل مسؤولياتهم لكي يضمنوا أن تصبح الكنيسة بيتا آمنا للجميع».

فضيحة 2018
كانت 2018 سنة شؤم على الكنيسة الكاثوليكية التي أخذت الضربة القاضية في ما يخص الاتهامات التي لطالما طالت الكنائس من اعتداءات جنسية واغتصاب في حق الأطفال القاصرين والبالغين. فقد تم إنجاز تقرير لرصد كل التجاوزات التي أدينت بها الكنائس، ليتبين أن عدد الضحايا حصر في 3677 ضحية على الأقل، معظمهم صبيان تقل أعمارهم عن 13 عاما، وقعوا ضحايا لحوالي 1670 رجل دين. في حين أن اتحاد الباحثين الذي أجرى التحقيق صرح بأنه لم يطلع مباشرة على محفوظات 27 أبرشية ألمانية، ولم يدقق، في الواقع، إلا في 38 ألف ملف ومخطوطة اختارتها الكنيسة ووضعتها تحت التصرف. متهما الكنيسة بإتلاف أو التلاعب، طوال عقود، بعدد كبير من الوثائق المتعلقة بمشبوهين، وقللت عمدا من خطورة الوقائع.
و كشف التقرير عن 4 إلى 5 في المائة من رجال الدين المتهمين غير المتستر عليهم في ظل أفعال إجرامية داخل مؤسسة إجرامية، فيما واجه ثلث المشبوهين فقط إجراءات بموجب القانون الكنائسي، لكن العقوبات كانت هزيلة.
وفي كل أنحاء العالم، (في أستراليا والشيلي والولايات المتحدة وألمانيا) تستهدف اتهامات مفصلة عن عمليات اغتصاب وتجاوزات جنسية واعتداءات على الأطفال واعتداءات جسدية، الكنيسة الكاثوليكية ومسؤوليها.
وواجهت ألمانيا، عددا كبيرا من القضايا، تتعلق أخطرها بـ«ريغينسبرغ» الكاثوليكية، حيث يقول تقرير صادر في يوليوز 2017 إن 547 طفلا على الأقل تعرضوا لاعتداءات جسدية وتجاوزات جنسية وصلت إلى حد الاغتصاب بين 1945 و1992. ووجهت إلى شقيق البابا السابق، بنديكتوس السادس عشر، تهمة غض النظر عن هذه الوقائع، لكن المونسنيور يورغ راتسينغر، الذي تولى، من 1964 إلى 1994، إدارة هذه الجوقة المؤلفة من الأطفال، أكد أنه لم يكن على علم باعتداءات جنسية.

نطاق الاعتداء الجنسي
تعد الولايات المتحدة في مقدمة الدول التي تنتشر فيها حالات التحرش الجنسي بالأطفال على يد الرهبان ورجال الدين الكاثوليك.
وقبيل شهر فقط من فضيحة بنسلفانيا، كان البابا فرانشيسكو قبل استقالة الكاردينال ثيودور ماك كاريك، البالغ من العمر 88 عاما، لتورطه في قضايا تحرش جنسي بالأطفال على مدى سنوات طويلة. ونشرت منظمة الأمم المتحدة، عام 2014، تقريرا حول حالات التحرش الجنسي بالأطفال في الكنيسة الكاثوليكية. وجاء في التقرير أن الفاتيكان يتستر على قضايا التحرش الجنسي في الكنائس الكاثوليكية في كثير من الدول عبر العالم.
وحسب دراسة أجراها معهد «جون جاي» التابع لمؤتمر كبراء الأساقفة الكاثوليك في الولايات المتحدة عام 2004، تعرض 10667 طفلا للتحرش الجنسي من قبل أكثر من 4000 راهب كاثوليكي بين عامي 1950 و2002.
وفي إيرلندا، حسب تقرير صادر عام 2009، تستر أربعة من كبار الأساقفة على حالات تحرش جنسي بالأطفال بين عامي 1975 و2004.
ورغم تقدم الأساقفة الأربعة باستقالاتهم للبابا على خلفية الحادثة، فإنه لم يوافق إلا على استقالة اثنين منهم.
وفي تقرير ثان صدر عام 2010، أعلن عن حالات استغلال جنسي وعاطفي بحق الأطفال على مدى 60 عاما في عدد من المؤسسات التابعة للكنيسة الكاثوليكية.
ومن جهتها، حكمت المحكمة عام 2010 بالسجن سبع سنوات على راهب في مدينة فريتزلار التابعة لولاية هيسن بألمانيا، على خلفية اعترافه بالتحرش الجنسي بحق ستة أطفال في الكنيسة.
واتضح عام 2010، أيضا، قيام معلم كاثوليكي في معهد «كانيسوس» بمدينة برلين بالاعتداء الجنسي لسنوات طويلة على الطلاب الذكور.
وفي 2016، تأكد قيام قساوسة ومعلمين بالتحرش الجنسي وارتكاب العنف بحق الطلاب، حيث قال المحامي المكلف بالقضية أولريش ويبر إن ما لا يقل عن 231 طفلا تعرضوا للاعتداء الجنسي والعنف بين عامي 1953 و1992. وحسب تقرير آخر أعده ويبر عام 2017، تعرض حوالي 547 طفلا للتحرش والعنف ما بين عامي 1945 و1990.
وفي هولندا، شكلت إحدى الكنائس عام 2010 لجنة لتقصي حالات التحرش الجنسي بالأطفال في كنائس البلاد.
وحسب تقرير أصدرته العام الماضي، تلقت اللجنة خلال ثماني سنوات حوالي 3712 بلاغا حول قضايا تحرش جنسي. وعقب صدور التقرير، تقدم نحو 1599 شخصا بشكايات دفعت إثرها تعويضات مالية لـ 941 شخصا.
واعتبارا من عام 2010، أقيل 12 قسيسا وعلقت مهام آخرين، نتيجة اتهامهم بالتحرش الجنسي. فيما بلغ مجموع التعويضات التي دفعتها الكنائس للضحايا في عموم البلاد حوالي 28 مليون أورو.
أما في فرنسا، بالإضافة إلى التقرير الحالي، ما زالت الدعوى المرفوعة بحق كاردينال كنيسة ليون الكاثوليكية فيليب باربارين، إزاء تستره على حالات التحرش الجنسي، مستمرة.
وشهد الرأي العام بفرنسا حالة سخط واسعة جراء اتضاح نقل توظيف الرهبان المتحرشين إلى إفريقيا، بدلا من عزلهم ومحاسبتهم أمام القانون.
وفي الشيلي، فتحت دعاوى قضائية بحق 158 موظفا في الكنائس لتورطهم في قضايا تحرش جنسي.
وطالت الدعاوى الكثير من الأساقفة ورجال الدين والموظفين في الكنائس، إذ تشير المعلومات إلى أن حالات التحرش ترجع حتى العام 1960.
ووفق تقرير التحقيقات، تعرض 266 شخصا، بينهم 178 طفلا، لعمليات استغلال جنسي في الشيلي.
وتأسست في أستراليا لجنة لتقصي حالات التحرش الجنسي عام 2012، حيث أصدرت تقريرها عام 2017، وجاء فيه أن عشرات الآلاف من الأطفال في الكنائس والمدارس والمؤسسات الحكومية، تعرضوا للتحرش. وأعلنت اللجنة أنها قابلت أكثر من 8000 ضحية، فضلا عن تلقيها اتصالات من 42 ألف شخص في السنوات العشر الماضية.

تعد الولايات المتحدة في مقدمة الدول التي تنتشر فيها حالات التحرش الجنسي بالأطفال على يد الرهبان ورجال الدين الكاثوليك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى