هكذا تضاعفت الأحكام القضائية التي تخسرها الدولة منذ مجيء حكومة بنكيران
عزيز الحور
قبل أيام، صدر عن المجلس الأعلى للحسابات تقرير لم يحظ بكثير من الاهتمام رغم أنه بالغ الأهمية لرصده موضعا تنزف منه المالية العمومية على نحو كبير. الأمر يتعلق بتقرير يرصد تدبير المنازعات القضائية التي تكون الدولة، عبر إداراتها ومؤسساتها العمومية، طرفا فيها، والتي تتكبد الدولة جراء سوء تدبيرها أحيانا خسائر مادية كبيرة تتوزع بين أتعاب القضايا الكثيرة وأحكام الغرامات التي تلزم الدولة بسدادها.
«الأخبار» كانت قد عالجت الملف من مدخل ما تكلفه الدعاوى القضائية الخاسرة لمالية الجماعة الحضرية للبيضاء. ووفق ما وقفنا عليه في ذلك الملف، فإن الجماعة الحضرية للبيضاء لوحدها اضطرت، سنة 2013 فقط، لسداد أزيد من 4 ملايير و872 مليون سنتيم، مقابل تنفيذ أحكام صادرة عن المحاكم الإدارية والمدنية، والتي خسرتها الجماعة كلها طيلة السنوات الأخيرة.
لماذا كل هذا النزيف؟ وكيف يجري تدبير الدعاوى التي تكون الدولة ومؤسساتها طرفا فيها؟
ورد أول أثر لتعقب المجلس الأعلى للحسابات، في آخر تقاريره السنوية، والذي أفرد فيه حيزا كبيرا لافتحاص وضعية الدولة إزاء الدعاوى المرفوعة ضدها. وتبين لقضاة الحسابات الذين أنجزوا هذا التقرير أن ثمة خللا كبيرا على مستوى تحصيل الدولة للغرامات والإدانات النقدية والمصاريف والصوائر القضائية التي يحكم بها لصالحها. وجرى التأكيد في هذا الصدد على أن المبلغ الذي لم يتم استخلاصه حتى نهاية 2012 بلغ 400 مليار سنتيم.
بعد شهور من صدور هذا التقرير عاد المجلس الأعلى للحسابات ليفرد لقضية المنازعات القضائية للدولة، تقريرا خاصا. أكثر المعطيات الصادمة الواردة في التقرير تضمنها فصل انطوى على تشخيص واقع المنازعات القضائية للدولة.
هذا التشخيص أظهر أن المعدل السنوي للقضايا المسجلة أمام المحاكم، في الفترة ما بين 2008 و2013، يناهز 30 ألف قضية سنويا. هذا الرقم يبقى غير تام، كما يفسر التقرير، على اعتبار أن الإحصائيات المتعلقة بمديرية أملاك الدولة والخزينة العامة للمملكة هي إحصائيات غير شاملة. مجلس الحسابات بنفسه أقر بصعوبة حصر الدعاوى القضائية التي تكون إدارة أملاك الدولة والخزينة العامة للمملكة، خصوصا بالمديريات الواقعة بالرباط والدار البيضاء، طرفا فيها.
الأمر ذاته يهم، على نحو أيسر نسبيا، إدارات أخرى مثل إدارة الجمارك والمديرية العامة للضرائب واللتين لم تكونا تتوفران، حتى حدود صيف سنة 2015، على معطيات بخصوص منازعاتها القضائية المتعلقة بسنة 2013.
من المفترض أن تتكلف الوكالة القضائية للمملكة، التي تلقب بـ«محامي المملكة»، بتتبع الملفات القضائية التي تكون الدولة طرفا فيها، غير أن ذلك لا يتم بشكل تام، إذ ثمة نسبة كبيرة جدا من قضايا الدولة التي تقرر إدارات معنية بها متابعتها بنفسها وتكليف محامين بها، ما يزيد من العبء المالي الذي يثقل هذه الإدارات.
كلفة وزارات الحكومة
يبدو أن ما سيقدمه تقرير الحسابات سيكون منقوصا على اعتبار أن التحليل سيهم فقط المنازعات التي تم تكليف الوكالة القضائية بتتبعها، وهي منازعات قليلة مقارنة مع تلك التي تدبرها الإدارات بنفسها.
لكن الرجوع إلى سجل المنازعات التي تدافع فيها الوكالة القضائية عن الدولة ومؤسساتها، والتي تخص سنة 2013، يجلي بعضا من الحقيقة المرتبطة بطبيعة القضايا التي تكون الدولة طرفا فيها. وهكذا تشير معطيات تقرير الحسابات أن نسبة كبيرة من القضايا المعروضة على المحاكم والمتعلقة بالدولة تخص، من حيث الموضوع، مسؤولية الدولة، بما يمثل نسبة 31.4 في المائة، في حين تأتي قضايا الطعن بالإلغاء ثانية بنسبة 17.1 في المائة، تليها المنازعات العقارية والغابوية بـ10.4 في المائة ثم منازعات الوظيفة العمومية بنسبة 6.8 في المائة، في حين لا تمثل بقية أنواع القضايا شيئا كثيرا.
تقرير الحسابات قدم تفسيرا لارتفاع القضايا المتعلقة بمسؤولية الدولة والطعن بالإلغاء، والتي تمثل نحو نصف القضايا المرفوعة ضد الدولة، موضحا أن سببها هو غياب البرمجة والضبط الدقيقين لحاجيات الدولة للعقار، ولذلك تلجأ الإدارة لوضع يدها على عقارات مملوكة للغير من أجل إقامة مشاريع معينة. عملية وضع اليد هاته تتم، في غالب الأحيان، في غياب مسطرة الاقتناء بالتراضي أو سلك مسطرة نزع الملكية، ما يؤدي إلى ارتكاب الدولة اعتداء ماديا على الملكية العقارية، كما يورد التقرير.
هذا الاعتداء، على النحو الذي فسره تقرير الحسابات، كلف الدولة في قرابة عقد من الزمن، ما بين 2006 و2013، ما يزيد عن 442 مليار سنتيم؛ وهو مجموع المبالغ التي تم الحكم بها ضد الدولة.
من خلال محاولة استيضاح هذه الأرقام وتحليلها على نحو لم يكن ممكنا لقضاة الحسابات المضي فيه، يتضح أن عدد الأحكام المرتبطة باعتداء مرتكب من طرف الدولة، ارتفعت إلى مستوى بلغ الضعف منذ بداية عهد حكومة عبد الإله بنكيران، كما أن المبالغ المالية المحكوم بها ضد الدولة تضاعفت بدورها في هذه الفترة، وشكلت ذروتها سنة 2012. بيد أن البحث عن أسباب ذلك وما إذا كانت للحكومة الحالية مسؤولية في الأمر يتطلب تتبعا دقيقا.
بيد أن ذلك لا يمنع من تتبع عناصر أخرى تدعم هذه الفرضية، وهو أن مصدر كثير من الخسارات المالية بسبب اعتداءات مادية للدولة على الممتلكات العقارية الخاصة متأتٍّ من وزارات في الحكومة، وخصوصا خلال سنتي 2012 و2013، أي مع بداية التجربة الحكومية الحالية. وتوجد أم الوزارات، وزارة الداخلية، كما يظهر التقرير، في مقدمة الوزارات التي حكم ضدها بمبالغ مالية بلغت، ما بين 2012 و2013 فقط، ما يفوق 27 مليار سنتيم، تليها وزارة التربية الوطنية التي حكم ضدها بما يزيد عن 25 مليار سنتيم، ثم وزارة التجهيز والنقل بـ22 مليار سنتيم، متبوعة بوزارة الصحة بنحو 4 ملايير سنتيم، أي أن أربع وزارات تكلف ميزانية الدولة، في هذا الإطار، ما يقارب 80 مليار سنتيم.
قضية واحدة وحكمان
وقف تقرير الحسابات، في سياق تشخيصه لتدبير المنازعات القضائية للدولة، على وقائع غاية في الإثارة، وتتعلق باستفادة متضررين من اعتداء مادي للدولة على ممتلكاتهم العقارية من التعويض مرتين عن عقار واحد، والسبب أن هناك دعاوى ترفع في إطار مسطرتين ولا يحصل تنسيق بين مصالح الدولة المعنية بها. كيف ذلك؟
يشرح التقرير، مستشهدا بملفات قضائية بينها ملف يخص سنة 2011، أنه حينما تقوم إدارة معينة بالحصول على ملكية عقارية خاصة دون انتظار انتهاء مسطرة نزع الملكية، تقع حينها في مشكل ارتكاب اعتداء مادي، وهو ما يدفع الطرف المتضرر إلى رفع دعوى قضائية ضد الدولة. هنا نكون أمام دعويين قضائيتين: أولاهما تتعلق بمسطرة نزع الملكية، وتكون إدارة أملاك الدولة طرفا فيها، والثانية تتعلق بالاعتداء المادي وتكون الإدارة المتهمة بارتكاب الاعتداء والوكالة القضائية للمملكة كمؤسسة دفاع، طرفا فيها.
المشكل أنه حينما لا يحصل تنسيق بين إدارة أملاك الدولة المعنية بالقضية الأولى والإدارة المعنية بالقضية الثانية، تصدر أحكام دون علم كل إدارة على حدة، تقضي بتعويض المتضرر عن نزع الملكية في إطار مسطرة نزعها من جهة، بينما يقضي حكم آخر بتعويضه عن الملكية وأيضا الضرر الناتج عن الاعتداء المادي للدولة، ما يعني حصوله على تعويض مضاعف ومزدوج عن العقار نفسه، وهنا يظهر ثقب آخر يتسرب منه المال العام وهو الحكم بتعويض متضررين عن منع استغلالهم لملكيات تم الشروع في مسطرة نزع ملكيتها، وهو تعويض ما كان ليصرف لو أن الإدارات المعنية نسقت بينها.
الدولة ضد الدولة
من غرائب ما توقف عنده تقرير الحسابات حول المنازعات القضائية التي تكون الدولة طرفا فيها، هو وجود ملفات قضائية تكون إدارات عمومية فيها في مواجهة إدارات أخرى، وذلك، على نحو غالب، بسبب احتلال إدارة أو مؤسسة عمومية لملك تقول الإدارة الثانية المشتكية إنه يخصها.
تقرير الحسابات ينذر بتفجر قنبلة بين الإدارات العمومية بسبب الاحتلال غير القانوني للملك الخاص للدولة من طرف إدارات ومؤسسات عمومية، حين يطلعنا على رقم صادم؛ 11 ألف هكتار هي مساحة الأراضي التي تشير التقديرات إلى أنها محتلة بدون سند قانوني من طرف إدارات ومؤسسات عمومية. هذا الأمر ينذر، وفق التقرير، بوقوع عدد مهم من المنازعات القضائية التي تكرس هذه الوضعية غير السليمة في التعامل بين أشخاص تابعين للسلطة التنفيذية، كما يذكر التقرير الذي يضيف أيضا أن المشكل يزداد تعقدا نظرا لكون مديرية أملاك الدولة لا تتوفر على إحصائيات دقيقة حول عدد ملفات الاحتلال هاته.
التقرير يعلق على هذه الواقعة الصادمة بلغة غليظة، حين يقول: «وهذا الأمر، إن كان غير مقبول لأنه يجمع في إطار نزاع قضائي أطرافا من أشخاص القانون العام الذين، وبالرغم من اختلاف القطاعات التي يدبرونها، من المفترض أنهم ينتمون إلى إطار واحد هو الدولة ويهتمون بنفس الهدف وهو إحقاق المصلحة العامة، فإنه يشكل سلوكا متواترا على مستوى المحاكم، وهو ما يمس بروح التضامن الذي من المفترض أن يسود بينها».
ورغم أن دورية سابقة صادرة عن الوزير الأول سنة 2002 توصي بإعمال المساطر الحبية لفك هذه النزاعات التي تنشأ بين مؤسسات وإدارات عمومية على النحو الذي أوضح التقرير، داعيا المعنيين إلى رفع الأمر إلى الوزير الأول، فإن المؤسسات المعنية لم تمتثل جلها لهذا الأمر، بدليل أن المحاكم تعج بنزاعات بين إدارات عمومية في شأن احتلال عقارات.
ربح وخسارة
بين الجوانب التي سلط عليها تقرير مجلس الحسابات الضوء، تحليل لجدوى لجوء الإدارات العمومية للوكالة القضائية للمملكة في الملفات الواقعة ضمن اختصاصها، ففي الوقت الذي بلغت نسبة الأحكام القضائية التي ربحتها الدولة ما بين 2009 و2013 نحو 67 في المائة من مجموع القضايا المرفوعة، كما لم تتجاوز المبالغ المحكوم بها ضد الدولة 1.3 مليار درهم، بلغت نسبة القضايا التي تخسرها الدولة رغم إدخال الوكالة القضائية للمملكة خطأ فيها باعتبار أن القانون لا يسمح بذلك، ما يقارب 53 في المائة، خلال الفترة ذاتها، وهي قضايا تتعلق غالبا بالمجال الجبائي وأملاك الدولة والأملاك الغابوية والأوقاف، وهي مجالات لا يتيح القانون للوكالة الترافع فيها.
وفي مقابل عدم تمكن مجلس الحسابات من الوصول إلى معطيات محينة بخصوص منازعات قضائية تكون إدارات عمومية طرفا فيها، وخصوصا على مستوى إدارات الجمارك والضرائب والخزينة العامة للمملكة، فإن ثغرات أخرى تبرز في الملف وتتعلق أساسا بالتنفيذ، إذ رصد التقرير أنه في ظل غياب هيأة مختصة في تنفيذ الأحكام في هذا الباب، على غرار ما هو معمول به في دول أخرى، وهو يفسر لجوء أطراف تربح دعاواها ضد إدارات عمومية إلى الحجز على حسابات هذه الإدارات، وهنا يكشف تقرير الحسابات أن ما يزيد عن 100 ملف متعلق بالحجز لدى الغير تم فتحه في مواجهة الخزينة العامة للمملكة بمبالغ وصلت إلى ما يفوق 33 مليار سنتيم. المثير أكثر أن الحجز تم، عمليا، على حساب الوكالة البنكية المركزية التابعة للخزينة العامة للمملكة، وهو حساب يضم أيضا حسابات الأشخاص الذاتيين والمعنويين المفتوحة لدى الوكالات البنكية التابعة للخزينة العامة للمملكة، أي أطراف لا علاقة لها بالنزاع المرتبط بالخزينة.
وبسبب مشكل التنسيق أيضا قد يحدث، كما ينبه تقرير الحسابات، حجز على حساب الخزينة وأداء مبلغ التعويض القضائي أيضا، ما يعني أداء المبالغ المحكوم بها مرتين.
الخلل يهم أيضا المبالغ المفترض أن تستخلصها الإدارات العمومية من أشخاص محكوم لصالحها في مواجهتهم، وهنا يورد تقرير الحسابات حالة مديرية أملاك الدولة، والتي لم تعمل، طيلة 20 سنة، سوى على معالجة 80 ملفا يتعلق بـ80 شخصا، يهم مصادرة أموال محكوم بها لصالحها من هؤلاء الأشخاص، ما يزيد من قتامة الصورة التي يبدو عليها تدبير النزاعات القضائية للدولة.