شوف تشوف

الرئيسيةخاص

هكذا تتاجر سيارات إسعاف ومصحات خاصة بطنجة في صحة المرضى

سيارات الإسعاف المركونة أمام المستشفيات العمومية كالشجرة تخفي غابة أسرار لا يمكن للزائر والمريض اكتشافها بالعين المجردة، سوى في حال مرضه أو أحد معارفه، ليجد نفسه أنه كان ضحية، عملية “سمسرة” في أغلى ما يملكه الآدمي، وهي صحته.

خلال ماي من سنة 2018، خرج تقرير من داخل المجلس الجماعي لطنجة، عنوانه “المصادقة على دفتر الشروط لتنظيم مرفق نقل المرضى والجرحى”، والتعمق أكثر في الكلمات التي جاءت في هذه الوثيقة، تلوح للقارئ كلمة “الفوضى” و”كرامة الإنسان” و”استغلاله في لحظات ضعفه”، وكانت هذه الكلمات منطلقا لتعميق الأبحاث بين ثنايا هذا الموضوع الشائك، لتظهر بعدها رسائل رسمية من داخل جسم المصحات الخاصة تنبه لخطورة هذا الوضع.. وضمن هذا التحقيق الذي استغرق شهورا من البحث والتحري، استطاع الموقع، الوصول إلى حقائق وأسرار صادمة، حول التلاعب والمتاجرة بالمواطنين بطنجة ترقى لمستوى “الاتجار بالبشر”، على غرار بقية المدن وطنيا التي تعيش وسط دوامة من هذه المعاناة، كما تميط اللثام بالوثائق وجولات ميدانية عن وضع مزر، واستمعت لروايات من كل الأطراف، للكشف عن جانب من جبل جليد يعوم في بحر من “الفساد”.

التقرير المفتاح

بالعودة إلى التقرير الذي شكل مفتاحا لباب يخفي وراءه شجرة “فساد” عائمة، فإنه خلال شهر ماي من السنة الماضية، انتبهت جماعة طنجة إلى ظاهرة غريبة تتعلق بمرافقها، بعد أن تقاطرت عليها الشكايات من كل صوب وحذب، ما جعلها تقوم بتحيين القوانين الجاري بها العمل سابقا.

ويقول التقرير الصادر عن لجنة المرافق العمومية والخدمات بالجماعة، أنه “انطلاقا من الإشكالات القانونية المعاينة في مجال مرفق نقل المرضى والجرحى من طرف بعض الشركات الخاصة المزاولة لعملية النقل، فإنه تبين أن تراخيص صادرة عن رؤساء المقاطعات الأربع، موضوعها ترخيص تجاري أو مهني، ومسطر ب – استغلال مرآب أو مكتب خاص بسيارات الإسعاف- وليس ترخيصا بنقل المرضى والجرحى بحد ذاته، وهو ما يعتبر تحايلا ضمنيا على القانون” يقول التقرير، تجعل من خلاله هذه الشركات الرخص الممنوحة لها في مجال استغلال محل تجاري أو مهني المفوض اختصاصه لرؤساء المقاطعات كغطاء لقيامها بعملية النقل، بينما تدبير مرفق نقل المرضى والجرحى يعتبر اختصاص حصري للمجلس الجماعي.

اختلالات بالجملة

تقول الجماعة في تقريرها الرسمي وهي تسرد حقائق حول هذا الملف، إنه نظرا للفوضى التي يتسم بها هذا المرفق العمومي، وغياب آلية تنظيمية تحفظ كرامة المريض وتضمن حقوق جميع الشركات، جرى اكتشاف عدة اختلالات كان أبرزها، قيام بعض سيارات الإسعاف بنقل الموتى، ورصد كتابات غير قانونية على واجهة هذه السيارات وبلغة أجنبية غير معتادة إلى درجة أن إحداها لجأت إلى اللغة الهولندية وهي لا تتحرك سوى في النفوذ الترابي لمدينة طنجة ليتم وصفها ب “أمستردام البوغاز”.

كما أكد التقرير أن هناك ضبابية في المعايير التي يتم الاعتماد عليها لفرض التعريفة، وغياب كلي لتكوين العاملين في مجال النقل الصحي، والتطبيب والتمريض والإسعاف الأولي، كما سجلت أيضا عدم الانضباط في سلوك بعض المستخدمين، وعدم الالتزام بالمتابعة الصحية للمستخدمين وتطهير الآليات إلى درجة أن مصدر من هذه السيارات حين سألناه عن النظافة، قال إن غالبيتهم يلجأ “للماء والصابون” لتنظيف سيارة الإسعاف.

هذه الاختلالات وغيرها دفعت بالمجلس إلى وضع ترسانة جديدة من القوانين، تندرج في إطار القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات الصادر بتنفيذه في الظهير الشريف رقم 1.15.85 بتاريخ 20 رمضان 1436 الموافق ل 07 يوليوز 2015، قصد العمل على وقف هذه الفوضى، وكان أبرزها دفتر تحملات جديد يحتوي على 48 مادة لتدبير هذه الشروط، من خلال النصوص والمراجع القانونية الجديدة، وكذا ضرورة الالتزام بالتعريفة والشروط المالية المتعلقة بمستحقات الجماعة، واللجوء إلى مساطر الفسخ والغرامات والمراقة والتتبع، كما يلزم القانون الجديد الشركات على ضرورة تكوين المستخدمين لديها، والتصريح بهم والقطع مع عمليات ابتزاز المواطنين، عبر الدفع مقابل الوصل القانوني.

إذا كانت هذه الحقائق، قد اكتشفت منذ ماي سنة 2018، فإن المصادقة على القانون التنظيمي الجديد لم يتم سوى في الشهر ذاته من سنة 2019، على الرغم من أن المصادقة تمت بدون حضور المسؤول عن لجنة المرافق العمومية داخل الجماعة لكونه ضمن فريق المعارضة، مما يجعل المصادقة غير مكتملة الأركان بعد تلويح المعارضة باللجوء إلى القضاء الإداري للطعن في عملية المصادقة إلى جانب عدد من الملفات الأخرى تضمنتها دورة ماي لجماعة طنجة، وهي كلها عوامل تصب في مرمى المتلاعبين والمتاجرين بصحة المواطنين بين ثنائي الإسعاف والمصحات الخاصة في طنجة.. فهل لإخراج هذا القانون للوجود، أثر فعلي على الواقع المعاش؟

صيادو النكبات

حوالي الساعة السادسة مساء، وبالوصول إلى باحة قسم المستعجلات بالمستشفى الجهوي محمد الخامس بطنجة، وبحوزتها عدة حقائق شفهية استقتها من مصادر عدة، حول وجود سماسرة يبحثون بين صفوف المرضى عن “بريكولات صحاح” كما أطلقت على ذلك مصادر طبية مستقلة.

ولكون الأمر يتعلق بميدان يحتاج إلى عارف بخباياه، رافقنا دليل على دراية بما يجري بهذا المستشفى، مفضلا أن لا نظهر بأي مظهر يوحي عن الباحث عن حقيقة ما، أي مجرد من أي ملف أو كاميرا أو حتى قلم في اليد، بمعنى “خاوي الوفاض”، حتى لا تثار الشبهات على صحفي الموقع.

توجيهات المصدر التي طبقناها بحذافيرها، أوصلتنا إلى حقائق مخيفة، حيث عاينا سائقي بعض سيارات الإسعاف يصولون ويجولون بين صفوف المرضى بدون أي لباس خاص بهم كما تشدد القوانين الجماعية، ولكونهم في غاية الحرفية، فلا تخطئ أعينهم أي جالس في كراسي الانتظار داخل هذا القسم، ولكونهم على معرفة بالأطباء والحراس والأمنيين، فإنه يسهل عليهم الدخول حتى قلب بعض الغرف الحساسة داخل المستشفى، بحثا عن فرائس سهلة لإقناعها بالتوجه بها صوب المصحات الخاصة بتعريفة مادية لا تتجاوز في أغلبها 400 درهم، وبدون أي وصل، يقول مرافقنا. إلا أن ما يُسيل لعاب أصحاب هذه السيارات، هي أن إكراميات وعمولات مهمة تنتظرهم، لدى المصحات، مقابل كل مريض ونوعية المرض، ومدى تكلفة ذلك، كما يساعدهم في ذلك أيضا حراس الأمن الخاص الذين يعتبرون “محور الشر” داخل المستشفيات تقول المصادر.

ومن الغرائب التي وقف عليها الموقع، أثناء تعميق البحث للإحاطة بكل الحقائق المرتبطة بهذا الملف، أنه بالتزامن مع كل حادثة سير مميتة يكون فيها عدد الضحايا كثر، أو تعطل جهاز “السكانير”، فإن انتعاشا ستشهده المصحات الخاصة وسترتفع تكلفة نقل المرضى بفعل التنافس بين “سماسرة” سيارات الإسعاف لدرجة يوصفون في أوساط الأطباء ب “صيادي النكبات”، حيث تعج البوابة الرئيسية للمستشفى بهذه السيارات للبحث في صفوف الجرحى عن ضحايا لإقناعهم بالتوجه نحو المصحات، وهي الحقائق التي يقول مصدرنا أنه يكفي العودة إلى كاميرات المراقبة الموضوعة داخل هذا القسم وخارج المستشفى للوقوف على حقيقة ذلك، في حال كانت هناك أي نية للمحاسبة ينهي مصدرنا حديثه.

أسرار وحقائق

وصلنا بعد بحث مضني وعناء إلى مصدر من قلب هذا الأسطول، للحديث عن الحقائق التي استقتها الجريدة على لسان مصادر من داخل المستشفى والمعاينات الميدانية، والذي لم يتردد في فتح قلبه للجريدة لفضح المستور، مؤكدا أنه لا يستطيع الخروج بوجه مكشوف لأن الأمر بمثابة إعلان الإعدام في حقه وأسرته، مفضلا تسميته بعنصر من ضمن الغيورين على القطاع، الذين لا يكفون عن الدعوة إلى إصلاح القطاع، كلما حطت سيارته أمام مستشفى محمد الخامس منتظرا أن تصله “المناوبة”.

ومن الحقائق المثيرة التي جاءت على لسان مصدرنا، أن الكل يرى في المريض والجريح قوت يومه، ولا تهمه صحته بقدر ما يهمه ما يجود به “جيبه” مع وجود استثناءات معزولة على حد تعبيره، حيث أن غالبية المشتغلين في القطاع يعملون وفق قاعدة سيارات الأجرة، حيث إن “الباطرون” ينتظر في آخر الشهر أن يتوصل بالمبلغ المتفق حوله، حتى يتسنى أن يدفع لك مبلغا هزيلا لا يتجاوز 2500 درهم بدون عقود ولا تصريح في مصالح الضمان الاجتماعي ولا التغطية الصحية، والحل الوحيد الذي تجده أمامك حين تمرض أو فرد من أسرتك هي علاقاتك في مجال الطب، وكل من يتوفر على رخصة السياقة من نوع B مع كثير من الجرأة والحيوية وربط العلاقات فله نصيب من هذا العمل المرهق.

وعن ربط هذه العلاقات يقول مصدرنا أن السر يكمن هنا، فهناك من يصل مدخوله في عملية السمسرة دون انتظار “المناوبة” لملايين السنتيمات في الشهر، على اعتبار أن أطباء بالمستشفى هم أنفسهم يوجهون المرضى للمصحات الخاصة التي يشتغلون بها، وتنطلق بذلك عملية التفاوض من قلب المستشفيات.

سائق سيارة إسعاف: نعم المصحات تغرينا بعمولات مقابل المرضى

عبد القادر طوطو، سائق سيارة إسعاف جماعية سابق، فضل الحديث إلينا بوجه مكشوف، للكشف عن فصول هذا الوضع المزري، قائلا إنه تمكن من خلال اشتغاله في هذا الأسطول على مستوى مدينة أصيلة وطنجة، أن يحتك بالشركات الخاصة للإسعاف، وما يرافقها من فوضى ومتاجرة في صحة العباد، وقادته الصدف ليعيش هذه العمليات عن قرب، وكان أبرزها والتي لا تزال عالقة في ذهنه بعد أن فضل الهجرة نحو إسبانيا، حين تم نقل مواطن أجنبي من جنسية بريطانية مصاب في عينه، صوب مدينة سبتة المحتلة في وقت متأخر من الليل حيث كان وقتها بحاجة إلى عملية جراحية مستعجلة، وهو ما جعله يقع فريسة سهلة لهذه السيارات، حيث استقر ثمن نقله نحو وجهته في مبلغ 4000 درهم.

وأثناء حديثه للجريدة لا يتوانى طوطو في إجراء مقارنة بين هذا القطاع بالشمال على غرار التراب الوطني من جهة، والجارة الإسبانية من جهة ثانية، والتي تشدد في هذا الشأن قانونيا، وسط إجراءات وتكوين رصين، قائلا إن كل الوقائع التي عايشها أثناء اشتغاله في هذا القطاع بالمغرب، يغيب فيها منطق الحس الإنساني، ومن ضمن القصص التي لايزال يحتفظ بها في ذاكرته، هي أنه مباشرة بعد نقله بعض المرضى برغبتهم صوب بعض المصحات الخاصة بطنجة، يعترض سبيله بواب المصحات الخاصة ويعرض عليه عمولات مالية مقابل الاستمرار في جلب المرضى لهذه المستشفيات الخاصة، مؤكدا أن هناك منافسة شرسة بين هذه المؤسسات الخاصة في قضية جلب المرضى، وتنتعش أكثر أثناء بعض الأزمات، منها حوادث السير التي يكون فيها عدد الضحايا كثر أو تعطلات تطال جهاز “السكانير” وجهاز “الراديو” بالمستشفيات المحلية لطنجة.

جمعية المصحات: أوقفوا الرشاوي والسمسرة

إذا كان البحث عن دليل حول تورط المصحات الخاصة في هذه التلاعبات، أشبه بالبحث عن إبرة وسط كومة قش، فإن صدى هذه الحقائق خرج للعلن أثناء اشتغال الموقع على هذا التحقيق، حيث تكشف مراسلة داخلية تحمل توقيع رضوان السملالي، رئيس الجمعية الوطنية للمصحات الخاصة بالمغرب، وموجهة إلى عموم مدراء المصحات الخاصة بالمغرب، عن واقع فاضح، حيث اعترفت الجمعية أن هناك سمسرة في المرضى خصوصا بمحور المدن الكبرى كطنجة والدار البيضاء، عبر تقديم هدايا ورشاوى وسفريات للخارج لسائقي سيارات الإسعاف، قصد استدراجهم ودفعهم لجلب المرضى إليها للعلاج.

وقالت الجمعية في رسالتها “إنها لا يمكن أن تبقى مكتوفة الأيدي أمام هذه الممارسات غير الأخلاقية وغير القانونية التي تؤثر سلبا على سمعة قطاع المصحات الخاصة، مضيفة إلى أنه في الوقت الذي تعمل المصحات على تحسين صورتها، يقوم بعض مديري المصحات بهذه الممارسات المشينة”، كما طالبت الجمعية في رسالتها «جميع من يقومون بهذه التصرفات غير القانونية بالتوقف عن ذلك فورا، فيما هددت بالقيام بالإجراءات اللازمة لزجر هذه الممارسات غير الأخلاقية حفاظا على مهنة الطب وأخلاقياتها، وشجب كل الأشخاص الذين يقومون بهذه الممارسات باسم مهنة الطب والأطباء”.

مندوب الصحة وعمدة مدينة طنجة.. “صمت القبور”

لم تفلح محاولاتنا للحصول على أجوبة مقنعة حول هذا الملف، من طرف المجلس الجماعي لمدينة طنجة، والمندوب الجهوي للصحة بطنجة، حيث اتجهنا للمؤسستين، ولكون الملف يتضمن حقائق خطيرة وغياب المتحدث الرسمي من جانب سيارات الإسعاف لكشف وجهة نظر القائمين عليها، كان من الواجب التعامل إداريا مع هذه المؤسسات الرسمية، حيث وضع الموقع حقا للرد أمام مصلحة كتابة الضبط لدى المؤسستين، ومنحتها مهلة زمنية للتوصل بالرد، غير أننا واجهنا، مايشبه “صمت القبور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى