هكذا تأثر محمد السادس بأساتذته الحداثيين
غالبا ما لا يتم فهم طرقة تفكير ملوك ورؤساء دول وشخصيات ساهمت في صناعة التاريخ إلا عبر ما يكتبون. جزء كبير، مثلا، من شخصية الملك الراحل، الحسن الثاني، تعرفنا عليه عبر مذكراتها التي وثق فيها لتاريخ شخص ودولة على نحو يسعف حاليا في استيعاب ما كان يحدث خلال فترة حكمه. على خلاف الحسن الثاني، لم يعمد بعد الملك محمد السادس إلى كتابة مذكرات. ربما لأن الوقت لم يحن بعد، لكن هناك وثيقة ألفها الملك بنفسه تميط اللثام عن طريقة تفكيره وتصوره للأمور، وهو لم يتحمل بعد المسؤولية الغليظة: الملك، كما تظهر، في ثناياها، تفاصيل علاقته بوالده. الوثيقة هي البحث الذي أنجزه ولي العهد حينها، الأمير سيدي محمد، رفقة صديق دراسته ومستشاره محمد رشدي الشرايبي.
«الأخبار» تتوفر على نسخة من بحث الإجازة، وتنشر مضامينه التي يتحدث فيها الملك عن بعض أوجه صلته بوالده الحسن الثاني وتصوره الخاص للعلاقات المغربية داخل المغرب العربي، وفي خضم تشريحه لهذه العلاقات يميط اللثام عن وجهة نظره الخاصة من العقيد الراحل معمر القذافي ومن الجزائر وجبهة البوليساريو.
مهمة الملك ليست سهلة. لذلك كان الحرص على أن يتلقى الملك محمد السادس تكوينا علميا رصينا، بدءا من الكتاب وصولا إلى الجامعة. ولأن مسار تعليم كل شخص يساهم في تحديد معالم من شخصيته، فإن جزءا كبيرا من شخصية الملك محمد السادس وطريقة تفكيره، التي يظهر دمجها للحداثة بالمحافظة الموروثة عن رصيد ديني وتاريخي متأصل، تبلورت عبر مساره الدراسي، ذلك أن جانبا من منظوره الداعي للمحافظة على الإرث الثقافي، بالمفهوم العام للكلمة، هو متأت من تكوين الملك محمد الساس التقليدي في الكتاب القرآني الملحق بالقصر الملكي الذي دخله وعمره لم يتجاوز أربع سنوات، في حين تشبع الملك بالفكر الحداثي الذي انعكس جليا في خطوات اتخذها بعد توليه الحكم عبر مسار تعليمي وأكاديمي طبعه مرور الملك بين يدي أساتذة عدد منهم محسوب على الفكر الحداثي.
كانت 1981 هي السنة التي حصل فيها الملك محمد السادس على الباكالوريا بعدما أنهى الدراسة في السلكين الابتدائي والثانوي بالمعهد المولوي. بين من درسوا مع الملك في المعهد المولوي محمد رشدي الشرايبي، وهو الشخص الذي سيشارك الملك مهمة إعداد بحث نيل الإجازة في الحقوق.
حرص الملك الحسن الثاني، كما هو معلوم، وكما عبر عن ذلك الملك محمد السادس بنفسه في خطاب آخر حول إصلاح التعليم، على أن يمر ولي العهد، الأمير سيدي محمد، عبر المدرسة المولوية ثم الجامعة العمومية، حتى يكون أكثر قربا من مجايليه من أبناء الشعب. وهكذا تسجل الملك محمد السادس في شعبة الدراسات في الحقوق بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة محمد الخامس بالرباط. هنا حاز الملك الإجازة عن البحث الذي نحن بصدد استقرائه في هذه الحلقات، والذي أعده رفقة محمد رشدي الشرايبي، ويحمل عنوان: «الاتحاد العربي الإفريقي واستراتيجية التعامل الدولي للمملكة».
المسار العلمي للملك محمد السادس تواصل بنيله الشهادتين الأولى والثانية للدراسات العليا في العلوم السياسية والقانون العام، في سنتي 1987 و1988، قبل أن يحصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق بميزة مشرف جدا، بتاريخ 29 أكتوبر 1993، من جامعة «نيس صوفيا آنتيبوليس» بفرنسا، بعد مناقشة أطروحة عنوانها «التعاون بين السوق الأوربية المشتركة واتحاد المغرب العربي»، قبل أن يلتحق بمكتب «جاك دولور»، الذي كان رئيسا للجنة المجموعات الأوربية بالاتحاد الأوربي حينها لإجراء تدريب.
بالعودة إلى السنة الأولى التي ولج فيها الملك محمد السادس الجامعة المغربية، عبر كلية الحقوق بأكدال، تظهر عدة نقط جديرة بالذكر أولها أن الحسن الثاني حرص أن يتابع ولي عهده دراسته الجامعية في جامعة مغربية وفي الظروف ذاتها التي يدرس فيها بقية الطلبة، إذ تشير المعطيات إلى أن الملك كان يجتاز الامتحانات بالجامعة وفق الظروف ذاتها التي كان يمر عبرها الطلبة الآخرون.
خلال المسار الدراسي للملك محمد السادس، وحتى مرحلة تدريبيه الذي أجراه في مكتب دولور، تظهر نقطة مميزة ثانية وهي أن عددا من الذين درسوا، سواء في المدرسة المولوية، أو في الجامعة، ينتمون إلى المدرسة الاشتراكية التي كانت تتبنى القيم الحداثية حينها. وهكذا فقد درس الملك، على سبيل المثال، على يد الحبيب المالكي، القيادي في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كما سبق له أن درس على يد إغناسيو راموني، وهو أحد منظري اليسار الحديث وحركة مناهضة العولمة «أطاك» ورئيس تحرير شهرية «لوموند ديبولماتيك» التي تصدرها مؤسسة «لوموند» الصحافية الفرنسية، وحتى جاك دولور الذي مر الملك محمد السادس عبر تدريب في مكتبه كان ذا توجه اشتراكي والذي يشغل عضوية الحزب الاشتراكي الفرنسي إلى اليوم.
معطى آخر مهم هو سر اهتمام الملك محمد السادس البحثي بالعلاقات الدولية، وهو ما يبرز كون الملك يعتبر أن السياسة الخارجية هي أمر محوري، لكن لا يمكن محاولة فهم سبب هذا الاختيار إلا عبر منطق المخالفة الذي يقتضي التساؤل عن سبب عدم إنجاز الملك بحثا حول موضوع وطني داخلي. السبب الظاهر هو أنه في محاولة كهذه سيضطر ولي العهد إلى إبراز معطيات قد تنطوي على مواقف ووجهات نظر إزاء فاعلين سياسيين ما يظهر مبدأ الحياد إزاء الأطياف السياسية، والذي يعد من أسس الملكية في المغرب.
بحث الملك محمد السادس أنجزه رفقة محمد رشيد الشرايبي، كما هو مطبوع في غلاف البحث، وهو، على الأرجح، محمد رشدي الشرايبي، زميل دراسة الملك ومستشاره. في حين أطر البحث الأستاذ الضالع في العلاقات الدولية، عبد الواحد الناصر.
بالعودة إلى بحث إجازة الملك الذي نحن بصدد تصفحه، تظهر عدة مميزات وملاحظات تفسر أمور غاية في الأهمية، أولها أن اهتمام الملك بإفريقيا والمغرب العربي لم ينشأ منذ لحظة توليه العرش أو تدشينه مسلسل انفتاح على دول إفريقيا جنوب الصحراء أخيرا، بل يرجع إلى أيام كان وليا للعهد، فقد اختار الملك محمد السادس أن يكون موضوع بحث إجازته هو «الاتحاد العربي الإفريقي»، وقد تتبع فيه، أكاديميا، استراتيجية تعامل المغرب مع هذا الاتحاد الذي تكون من المغرب وليبيا بمبادرة من الملك الحسن الثاني والعقيد معمر القذافي. كان يحضر لأن يكون هذا الاتحاد بوابة لتوحيد صف الدول العربية الإفريقية بشكل يجعلها قوة استراتيجية تضاهي الاتحادات الناشئة حينها، في ظل تعثر بناء اتحاد المغرب العربي.
إلى جانب ما يظهر، على الأقل من خلال عتبة البحث، وهي عنوانه، من كون الملك محمد السادس مهتم ببعد المغرب الإفريقي والعربي والمغاربي منذ كان وليا للعهد، يبرز طموحه الوحدوي، سواء في بحث إجازته الذي دافع فيه بقوة عن اتحاد المغرب العربي والاتحاد العربي الإفريقي، أو بحث الدكتوراه الذي تتبع من خلاله نموذجا واقعا ومتميزا لاتحاد الدول وهو الاتحاد الأوربي.
هذه الملاحظات لا تصير مجرد استنتاجات متكهنة حينما نعلم أن اختيار موضوع البحث، بالنسبة لأي طالب جامعي، هو مرتبط بهاجس شخصي بدرجة أولى، بمعنى أن موضوع الوحدة الإفريقية العربية المغاربية هو طموح شخصي للملك محمد السادس ظل يحمله منذ تلك الفترة إلى اليوم.
بحث إجازة الملك محمد السادس يقع في 161 صفحة، وقد تحرى فيه الملك نهجا بحثيا صارما معمول به في الجامعة الفرنسية وهو البحث ثنائي المحور، أي الذي يقوم على تثنية المباحث والفصول والفروع، وهو المنهج المتخذ عرفا في الجامعة المغربية أيضا، على خلال المنهج الأنجلوساكسوني الذي يتحرر من منطق الثنائية ولا ينضبط بتوزيع محدد للمحاور. وقد ذيل الملك بحثه بملحق تضمن وثائق غاية في الأهمية عبارات عن نصوص اتفاقيات تخص موضوع البحث فضلا عن رسائل شخصية متبادلة بين الملك الحسن الثاني ومعمر القذافي في فترة حاول فيها الطرفان الخروج من حرب باردة بينهما بسبب دعم القذافي للبوليساريو وجماعات مسلحة حاول قلب نظام الحكم في المغرب خلال غرار ما فعله القذافي في ليبيا حينما أطاح بالنظام الملكي هناك. طبع البحث، لقيمته العلمية، خلال السنة ذاتها التي أعد فيها، وقد تكلفت المطبعة الملكية بالرباط بالطبع. ويظهر أنه لم يعرض الكتاب على العموم، لذلك النسخة المتوفرة منه نادرة للغاية، بينها النسخة التي نتوفر عليها والتي نبسط مضمونها في ما سيلي من حلقات.