هكذا استُعمل التلفزيون سنة 1964 لتعميم البلاغات الأمنية الخطيرة
يونس جنوحي
لا يوجد سحر يفوق سحر الصورة، خصوصا سنة 1964.
نشرات الأخبار المسائية التي كان يجتمع حولها المغاربة داخل كل بيت يتوفر على جهاز تلفزيون وقتها، كانت منصة لعرض «تحذيرات» على لسان المذيع من استوديو عين الشق بالدار البيضاء المخصص للنشرات الإخبارية. هذه التحذيرات كانت تتناول قضية عُرفت وقتها بقضية «شيخ العرب ومن معه».
يتعلق الأمر بأكوليز، وهو أحد أعضاء المقاومة المنحدرين من الجنوب، والذي جاء إلى الدار البيضاء خلال أحداث المواجهات بين الخلايا السرية للمقاومة وبين البوليس الفرنسي، حيث كان مبحوثا عنه في الجنوب بتهمة الاعتداء على موظف فرنسي وعون سلطة مغربي. لكن بعد 1956، أصبح شيخ العرب من العناصر «المخربة» التي شكلت الجناح المتشدد داخل صفوف جيش التحرير، حيث كان من الرافضين لعملية إدماج المقاومين في الجيش الملكي، وبعد واقعة محاكمة يوليوز 1963 الشهيرة، أثير اسمه في محاضر التحقيق مع المتهمين بالضلوع في المؤامرة، وعلى رأسهم عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري، حيث اتُهم الأخير بأنه على اتصال مع الأعضاء السابقين للخلايا السرية للمقاومة، بحكم معرفته السابقة بهم أيام «الكفاح المسلح»، وأنه يتم التنسيق بين الفريقين، قدماء المقاومة وأعضاء حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، للقيام بثورة مسلحة ضد النظام.
وهكذا أصبح شيخ العرب مبحوثا عنه منذ تلك اللحظة إلى حدود سنة 1964. وطيلة تلك المدة كانت المنشورات والتحذيرات في نشرات التلفزيون والراديو، على أشدها للوصول إلى خلية شيخ العرب ومن معه.
على الطريقة الأمريكية
كان كل من الجنرال أوفقير، بصفته الممسك بأثقل الملفات الأمنية في المملكة المغربية، ومعه الكولونيل أحمد الدليمي الذي كان بدوره مسؤولا عن ملفات أمنية تتعلق باتصالات المعارضين بالخارج وتدربهم على حمل السلاح وتهريبه إلى داخل المغرب، يهندسان الإنزال الأمني في التلفزيون. إذ تم تعميم مذكرات البحث عن المطلوبين، «شيخ العرب ومن معه»، والتي عرفت في الأرشيف الأمني بـ«خلية شيخ العرب»، بحيث حذر بلاغ بُث في التلفزيون الرسمي من المجموعة واعتبرها عصابة إجرامية خطيرة.
وتفيد بعض المصادر بأن مكافأة مغرية رصدت لمن يقدم معلومات عن مكان اختباء شيخ العرب ومن معه.
وطبعا، القصة انتهت بوشاية تعرض لها قائد المجموعة من بعض مقربيه طمعا في قيمة الجائزة، وتم الإخبار عن مكان اختبائه بدقة، ليتم تطويق المكان أمنيا، وقيل وقتها إن الكولونيل الدليمي كان حاضرا بنفسه خلال العملية، وتبادل الطرفان إطلاق النار ليسقط شيخ العرب بالرصاص.
كان استغلال التلفزيون، خلال عملية تعميم البحث عن المطلوبين، موضوع استنكار من الاتحاديين الذين كانوا بدورهم يعانون من تقوي الدور الأمني للدليمي، وهو ما تُرجم على أرض الواقع في جلسات البرلمان لسنة 1964، خصوصا وأن بين البرلمانيين الاتحاديين من مروا بتجربة الاعتقال في يوليوز 1963، وهو ما جعل مداخلاتهم في البرلمان تكون نارية، وطبعا كان التلفزيون يوثق لها بالصوت والصورة.
كان تعميم في التلفزيون في بعض المقاهي، بإشراف من وزارة الداخلية، عاملا مهما لتقوية شعبية حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية خصوصا في المدن،
حيث قدمت الدولة هدية ثمينة للمعارضة دون أن تُدرك. كيف إذن تم تعميم التلفزيون؟
تلفزيون «الاستفتاء»
تعود الواقعة إلى النصف الثاني من سنة 1962، عندما كانت وزارة الإعلام تسعى إلى تعميم توعية بمضامين مشروع الدستور.
كان المغرب وقتها يعيش على صفيح ساخن من الأحداث. مختلف التمثيليات السياسية في الساحة الوطنية عارضت التعيين الذي جاء بعلال الفاسي، زعيم حزب الاستقلال، على رأس لجنة صياغة مقترحات مضامين الدستور الأول للمملكة، وهو ما كان يعني أن المشروع سوف يتعرض لوابل من المعارضة على صدر الصحف التابعة لها،
الأمر الذي جعل وزارة الإعلام، التي كان وقتها يمسك زمامها الوزير عبد الهادي بوطالب، تتولى موضوع الترويج لمضامين الدستور الذي وضعت اللجنة فصوله وقدمته للاستفتاء الشعبي.
وفي الوقت الذي كان فيه عبد الرحيم بوعبيد ومن معه يتجهزون ليطلقوا على الدستور الجديد صفة «الممنوح»، كان عبد الهادي بوطالب يكابد لكي يعد مواد إعلامية بنفسه يشرح من خلالها مضامين الدستور على أمواج الراديو لضمان وصولها إلى كل الفئات. إذ إن أول مشكل وُضع على مكتب الملك الراحل الحسن الثاني هو موضوع تعميم التلفزيون في المغرب، والوقت الملائم لفقرة شرح مضامين الدستور موضوع الاستفتاء. وهو ما جعل وزارة الداخلية تبادر إلى اقتناء أجهزة تلفزيون من الحجم الكبير، وتعميمها على أكبر نقاط التجمع وهي المقاهي، حيث أشرف العمال على الموضوع، وراجت وقتها إشاعات عن كون الوزير القوي أحمد رضا اكديرة، وبعض المسؤولين في حكومة باحنيني قد حاولوا التلاعب بالصفقة، لولا أن جهات عليا تدخلت في الوقت المناسب للسهر على تنفيذ المشروع الذي بدأ بتعليمات ملكية.
وفعلا تم اقتناء مئات الأجهزة التي وُزعت على مختلف جهات المغرب، وسهر العمال على توزيعها بأنفسهم لضمان استفادة أوسع شريحة من المواطنين من كل جهاز. اختيرت المقاهي الأكثر شعبية في كل مدينة أو منطقة، وأصبح التلفزيون مورد رواج لأرباب المقاهي، وتولى القياد والمقدمون والشيوخ التابعون لوزارة الداخلية مسألة مراقبة انتشار الحملة التوعوية.
تقرير للسفارة الأمريكية في الرباط يعود إلى أواخر سنة 1962 رصد هذه العملية، حيث أشار مكتب السفير إلى أن عملية الاستفتاء على أول دستور للمملكة شابتها بعض التأثيرات على المواطنين من طرف الدولة، لكي يصوتوا بـ «نعم». إذ رغم انتشار الأمية، إلا أن الأغلبية صوتت لصالح الدستور بتأثير من وسائل الإعلام المحلية الرسمية التابعة للدولة، وكان التقرير يقصد التلفزيون بطبيعة الحال ثم الراديو.
وذكر التقرير أن السلطات المغربية قامت بتعميم أجهزة التلفزيون على المقاهي للتغطية على ضعف البنية التحتية بحكم أن أغلبية المغاربة كانوا عاجزين من الناحية المادية، ولم يكن بإمكانهم اقتناء جهاز تلفزيون لكل منزل، وهو ما جعل فكرة تعميم الجهاز على أكبر المقاهي التي تشهد تجمعات بشرية في ذلك الوقت، ضربة «معلم».