هكذا أرادت فرنسا أن تقسم المغرب إلى دولتين
«إن العمال وخدامهم هم المشتغلون بظلم الناس.. ومن ذهب يشتكي سبقوه إلى الباب فزادوا عليه، فلا يقدر أحد أن يشتكي. فليتق الله سيدنا وليتق دعوة المظلوم، فليس بينها وبين الله حجاب». الكلام هنا للفقيه الحسن اليوسي في رسالة تظلم من جور القضاة.. على بساطتها تختصر محطة من المحطات التي مر منها القضاء في المغرب، قبل أن تحاول فرنسا السيطرة عليه، وتصبح نزاعات المغاربة بين يدي قضاة ومحامين فرنسيين..
عندما بيعت رؤوس الخارجين عن القانون بالمال
«جلس القاضي الفرنسي يتأمل الواقفين في قاعة صغيرة بالكاد تتسع للقاضي ومساعديه. كان يمسح بمنديل شديد البياض حبات العرق التي تنزل من قمة رأسه دون توقف. لا بد أن الأمر يزعجه لأنه لم يتوقف عن تمرير المنديل فوق رأسه طيلة الصباح. فتح 5 ملفات، واستدعى المنادي المحامين والأطراف المتنازعة. عندما حان دور الملف الذي أنوب فيه.. تأمل القاضي ساعته وأعادها إلى جيبه، وأعلن أن الجلسة ستستأنف بعد الغذاء.. وخرج الجميع.
جلست مع بعض المحامين الذين كانوا متذمرين من بطء وتيرة اشتغال هذا القاضي الجديد. محام شاب، أخبرني أنه يفكر في العودة إلى فرنسا وأنه لا يمكن أن يستمر في الاشتغال في هذه الظروف القاسية. يا إلهي.. كيف سأشرح لهؤلاء الفلاحين الفقراء أن القانون يعترف بالوثائق فقط.. بت متأكدا أن هذا القاضي الجديد سيحكم لصالح الفلاح الفرنسي، وسيكون على موكلي أن يبكي لأنه سيفقد أرضه إلى الأبد». الكلام هنا لأحد المحامين الفرنسيين، الذي كتب مذكرات عن ممارسته للمحاماة التي درسها في فرنسا، بإحدى المحاكم الفرنسية في المغرب، سنوات قبل أن تطرح فرنسا الظهير البربري وتضغط لتمريره بالقوة. بعض الأكاديميين، كما سنورد في هذا الملف يرون أن الظهير البربري مجرد كذبة تاريخية روجتها فرنسا لإيهام الرأي العام أن المناطق الجبلية والجنوب المغربي عموما، يعاني فراغا قانونيا، وأنها ستلغي حكم «الأعراف» وستضع قانونا ليحتكم إليه الناس.
لكن الواقع كان أن هناك محاكم محلية، لم تكن مهيكلة كما أرادت لها فرنسا أن تكون، لكن هذا لا يعني وجود فراغ في التشريع، لأنها لم تكن تختلف في شيء عن محاكم فاس والمناطق التي لم تكن معنية بالظهير البربري. السبب لأن كل المحاكم كانت تحتكم إلى الشريعة الإسلامية، أو ما تتلمذ عليه الفقهاء والقضاة في القرويين وخارجها أيضا.
توجد مصادر تاريخية موثوقة، أولها كتابات مؤرخي المملكة السابقين الذين اعتمدوا في أبحاثهم على وثائق رسمية يعود تاريخها إلى مئات السنين، وبعضها ذكر في كتب تاريخية مشهورة، تطرقت إلى الأوضاع السياسية في المغرب في مختلف الفترات، ولم يفتها أن تتطرق إلى أوضاع القضاء ومظالم الناس أيضا.
بالنسبة لهؤلاء المؤرخين، فإن تاريخ القضاة المغاربة، كان حافلا بالتعيينات التي لم تكن تخرج عن أسر معينة، بالإضافة إلى أسر جديدة فتح لها الباب في فترات كثيرة لترسخ أبناءها في سلك القضاء.. تجمعهم القرويين، والمذهب الملكي، وهو الأمر الذي اشتركوا فيه مع فقهاء سوس أيضا.
بالعودة إلى مؤلفات المختار السوسي، لا توجد أي إشارة في مذكراته، إلى أي سوء فهم بين فقهاء سوس وعلمائها وبين الفاسيين، بل إن بعض الكتابات ترجح أن بعض علماء القرويين أخذوا علمهم على أيدي فقهاء من منطقة الجنوب، وكان من بينهم قضاة يبتون في المشاكل المعروضة عليهم، وكانوا يستمدون شرعيتهم من حسن علاقتهم بالمخزن والتعيينات الرسمية المختومة بالخاتم السلطاني، والتي كانت تحدد مهامهم واختصاصاتهم.
لكن الحديث عن كل هذه الهيكلة والتنظيمات، لا يمنع من الحديث عن «السيبة» والانفلات «القضائي» الذي اجتاح المغرب في كثير من المحطات التاريخية.
سنورد في هذا الملف وقائع تاريخية جسدت الانفلات الأمني والقضائي أيضا، إذ إن مرتكبي الجرائم الجماعية كانوا لا يخضعون لسلطة القضاء، والأمر يرجع إلى طبيعة المهام التي كانت موكولة إلى القضاة، لكن واحدا منهم سيرسل رسالة شهيرة إلى القصر يشتكي فيها من غياب العدل وانتشار الظلم..
قبل ذلك، وحتى لا نعود بعجلة التاريخ كثيرا إلى الوراء. ولنبق في أولى سنوات القرن الماضي، 27 سنة قبل سن الظهير البربري.. في سنة 1903، خصص عامل تطوان، وكان يدعى قدور بن الغازي، خمسة ريالات نقدا لكل من يأتيه برأس مقطوع من قبيلة «جبالة». فاندفع الراغبون في المال إلى مداشر بني يدّر وقطعوا رؤوس رجالها، ويدفع لهم العامل الثمن ثم يقوم بتعليق الرؤوس المؤدى عنها بسور مدينة تطوان انتقاما منهم وترهيبا للقبائل الأخرى حتى تعلن خضوعها، وتؤدي الضرائب التي كانت تفرض على أبواب المدينة، خاضعة مستسلمة.
أحد الكتاب الإسبانيين الذين زاروا المدينة ورافق السلطان مولاي الحسن الأول، وكان يدعى فرناندو بلديراما، قال إن الغرامات المفروضة على القبائل في منطقة الغرب بلغت ثلاثين أوقية عن كل شخص، وكل أوقية تساوي أربع موزونات من عملة ذلك الزمان وبذلك تكون الغرامة عن كل شخص تساوي 120 موزونة، علما أن أجرة الجندي، لم تكن تتجاوز 8 موزونات. وحسب الكاتب الإسباني، فإن تلك الغرامة كانت مرتفعة جدا مقارنة مع إمكانيات الناس المادية، كما أن عدد السكان المفروضة عليهم كان يتجاوز حينها 150 ألف نسمة.
هذه صورة عن الوجه القضائي لمغرب الأزمات، لكنها لا تعني أن القضاء المغربي كان متدهورا بالكامل، لأنه عاش فترات من الازدهار ووصلت قيمة القضاء إلى أسمى المراتب، عندما قررت الدولة أن تجعل القضاة معينين بأوامر ملكية بناء على اقتراحات من علماء يحظون بتقدير المخزن، وكانت تفوت لهؤلاء القضاة صلاحيات واسعة.
الظهير البربري الذي قامت مظاهرات رافضة له في فاس والرباط سنة 1930، وارتفعت الأدعية التي أطلقها بعض الفقهاء، ليرددوا دعاء اللطيف: «اللهم يا لطيف نسألك اللطف في ما جرت به المقادر، فلا تفرق بيننا وبين إخوتنا البرابر»، شكل نقطة مهمة في تاريخ القضاء في المغرب، لأنه ضرب في عمق التاريخ القضائي لمنطقة بأكملها، وحاول سن طريقة جديدة في تدبير الشأن القضائي. ماذا وقع في 16 ماي 1930؟
هل كان الظهير البربري كذبة تاريخية؟
ذهب بعض العلماء والمتعلمين بعيدا عندما وصفوا الظهير البربري بالكذبة التاريخية، التي حاولت من خلالها فرنسا أن تقسم المغرب في 16 ماي 1930.
لكن هؤلاء غاب عنهم أن فرنسا وضعت هندسة حقيقية لتهييء أرضية لذلك الظهير. أطلقت عليه فرنسا تسمية مطولة: «الظهير المنظم لسير العدالة في المناطق ذات الأعراف البربرية والتي لا توجد بها محاكم شرعية».
تتمثل الكذبة التاريخية في الظهير البربري الذي حاولت فرنسا فرضه على المغرب، بل ومارست ضغوطها لسنّه رسميا، في ادعائها غياب المحاكم الشرعية في المغرب، وهذا الأمر بدا «سخيفا» لكثير من العلماء المغاربة.. لأنهم يعلمون أن علماء وفقهاء المغرب كله لم يكونوا خارجين عن الشريعة، وأن المحاكم الفرنسية التي تأسست أيضا في كثير من المناطق التي وصلت إليها فرنسا، أنشئت بهدف الفصل في النزاعات القضائية، والتي كان الفرنسيون طرفا فيها في كثير من الحالات.
هنا يوضح لحسن بروكسي، في مذكراته، قصة الظهير البربري، هو الذي درس في المغرب رفقة أبناء الأعيان بمنطقة أزرو، ليواصل دراسته الجامعية في فرنسا خلال الأربعينات. يقول: «للتوضيح فإن الظهير لاقى رفضا كبيرا من طرف السلفيين المغاربة المنحدرين من جامعة القرويين بفاس، احتذاء بالإخوان المسلمين في مصر، والذين أبدوا تخوفهم من سياسة أتاتورك التي لغت اللغة العربية، وكانت نموذجا حينها للعلمانية. وعندما أقول السلفيين، فأنا أتحدث هنا عن السلفية بمفهومها الصحيح. خافوا من وقوع انشقاق بين صفوف الأمة وأن تتنصر القبائل الأمازيغية، أو تنسلخ من الهوية الإسلامية. هذا لا يعقل، وليس تحليلا منطقيا.. إذ إن الزوايا التي حاربت فرنسا بشراسة كانت متشبعة بمبادئ الإسلام بشكل كبير. حتى أن الأمازيغ كانوا يسمون الفرنسيين: «أرومي»، لأن ذاكرتهم لا تزال مرتبطة بالرومان، ولم يكونوا يعتبرون المسيحية أبدا. لا مجال للتفرقة أبدا بين وحدة الأمة، لأن رجال القبائل وزعماءها ارتبطت أسماؤهم بمعارك ضارية لدحر الفرنسيين ومنعهم من التوغل في أكثر من منطقة، حتى بعد صدور الظهير البربري بسنوات». يذهب الطرح الذي قدمه لحسن بروكسي، إلى أن الفراغ القضائي الذي روجت له فرنسا لم يكن موجودا أصلا، وإنما أرادت استغلال التباين الجغرافي، لتفصل بين منطقتين تشكلان الروح الدينية للمغرب.
هنا، تتمثل الكذبة التاريخية، في كون القبائل الأمازيغية تحتكم إلى «أعراف» خاصة، والحال أنها كانت متشبعة بالشريعة الإسلامية، وجل العلماء البارزين في العلوم الشرعية وقواعد اللغة العربية أيضا، كانوا من الأمازيغ، حتى أن جل مدارس التعليم العتيق، الذي يقوم بالأساس على تلقين مبادئ الدين الإسلامي، كانت منتشرة لدى الأمازيغ بشكل أكبر..
هكذا كانت محاكم فرنسا في المغرب
أحد المحامين الفرنسيين كان قد كتب مذكرات في 120 صفحة، أطلق عليها «يوميات محام في الصحراء». رغم أن المكان الذي يقول إنه قضى فيه بضع سنوات، لم يكن أبدا منطقة صحراوية، وإنما على مشارف منطقة سوس، خلال أواخر عشرينات القرن الماضي.
وصف المحكمة التي كان يشرف عليها حاكم فرنسي، تعرض عليه مشاكل الناس، والتي تكون في الغالب صراعات بين الفلاحين، أو بينهم وبين معمر فرنسي حاز بضعة هكتارات ليمارس فيها أنشطة فلاحية، فتبدأ الحرب بينه وبين الفلاحين «المحليين» كما أسماهم صاحب المذكرات.
يقول: «لقد جئت إلى المغرب بناء على طلبات بعض الأصدقاء الفرنسيين الحمقى. نصحتهم مرارا ألا يذهبوا إلى المغرب، لأن الأمور غير مستقرة هناك، لكنهم أخبروني أن فرنسا تشجع كل فلاح يغادر الريف الفرنسي ويشد الرحال إلى إحدى مستعمراتها، وقد سمعوا أن المغرب يضم أراض جيدة ومناخا يختلف عن المناطق الأخرى التي وصلت إليها الجيوش الفرنسية. كنت أتبادل الرسائل مع بعضهم، إلى أن أخبروني أن هناك محاكم تحتاج إلى خدمات محامين لينوبوا عن المتقاضين، الذين كان من بينهم فرنسيون أيضا. لم يستغرق مني أمر الحصول على ترخيص من الإدارة الفرنسية وقتا طويلا.. وهكذا جئت إلى المغرب وفتحت مكتب محاماة، واقتنيت مكتبا وخطا هاتفيا، يسهر بعض الجنود على سلامته حتى لا يقطعه الفلاحون الذين يمر فوق أراضيهم».
هذه قصة مجيء محام فرنسي ليشتغل في المغرب. وقد اعترف في كتاباته أن محاكم كثيرة كانت تسير وفق القانون الفرنسي، بل ودافع عن الأمر بحجة أن المتقاضين فرنسيون، وبالتالي لا يجب أن يخضعوا للقانون «العرفي» المغربي.
بدا واضحا أن هذا المحامي، الذي لا يتوفر اسمه للأسف داخل الوثيقة التاريخية التي جاءت في صفحات ناقصة، جاهلا تماما بالمصدر التشريعي الذي تستمد منه المحاكم المحلية قوانينها. لأنه قال في أحد المقاطع إنه كان متخوفا من الوقوف وسط المتقاضين وعرض خبرته عليهم في القانون الفرنسي، ومحاولة البحث عن الثغرات القانونية حتى يربح القضية..
أسرار الملفات الثقيلة التي حكم فيها لصالح المستعمرين
هنا، نورد مقطعا مثيرا، بعد نقله من الفرنسية. يقول فيه: «وصلت إلى باب المحكمة باكرا. وجدت فلاحين كثر قد أمضوا ليلتهم هنا. كان الأمر واضحا لأن بعضهم كانوا لا يزالون نائمين قرب سور المحكمة، بينما بغالهم وحميرهم كانت مربوطة في ساحة بعيدة عن بوابة المحكمة. ما إن لمحني البواب حتى أسرع مهرولا إلى فتح باب خاص، وقبل أن أتجه نحوه سمعت همهمات كثيرة وأدركت أنهم مستاؤون وربما يوجهون لي السباب والشتائم.. في القاعة، وبعد أن بدأت أولى الجلسات، كنت أنوب عن طبيب فرنسي اشترى ضيعة من أحد القياد، ليفاجأ ببعض الفلاحين يطلقون النار عليه ليلا من بنادقهم ويطالبونه بالرحيل، لأن الضيعة ملكهم، والقائد الجشع أخذها منهم بالقوة ولا يتوفر على أي وثيقة ملكية ليفوت الضيعة إلى أحد. حصل موكلي على وثيقة توثق عملية البيع، وعرضتها على القاضي.. وبعد أشهر من الجلسات التي كان يجهش فيها أصحاب الضيعة بالبكاء أمام القاضي، حكم لصالح موكلي الفرنسي، وربحنا الدعوى وفق القانون الفرنسي.. لكن محامي المغاربة، وكان فرنسيا من أصول جزائرية، أخبرني لاحقا أن موكله كان ينوي قتل المعمر الفرنسي رغم أن المحكمة حكمت له بملكية الضيعة التي دفع ثمن شرائها للقائد، ونصحته أن يخبرهم أنه يتوجب عليهم رفع دعوى قضائية ضد القائد الذي اغتصب أرضهم بالقوة، فقالوا لي إنه من المستحيل أن تقاضي أحد موظفي المخزن لأنهم نافذون..».
هنا يتضح أن فرنسا حاولت حكم المغرب بقانونها، حتى وإن تعلق الأمر بهذا «الجنوب» الذي تقول إنه كان خاضعا «للأعراف» وأرادت أن تملأ «الفراغ» القانوني الذي رأت أن من شأنه أن يؤثر على الجانب الأمني لها، فسنت «الظهير البربري» رغم أن تلك المحاكم المحلية كانت تحتكم إلى الشريعة التي يعرفها فقهاء سوس كما يعرفها علماء القرويين أيضا.
الملفات التي حكمت فيها هذه المحاكم لصالح الفرنسيين لم تكن تختلف كثيرا عن القضية التي أثارها هذا المحامي في مذكراته، التي بدا واضحا أنها لم تكن بين أيادٍ أمينة، لأنها تضررت كثيرا..
الأرشيف القضائي في المغرب، يضم آلاف القضايا التي بتت فيها فرنسا، وكان المتقاضون فيها فرنسيون ومغاربة، وحكمت لصالح الفرنسيين في أغلبها، وليس في الأمر أي تحامل، لأن الواقع يقول إن أغلب الأراضي الفلاحية الجيدة، صودرت من أصحابها وتم منحها للمعمرين الفرنسيين واشتغل لديهم مغاربة كانوا إلى وقت قريب أصحاب الأرض.
محامون فرنسيون، كان أغلبهم من أصول جزائرية، يشتركون مع المغاربة في كثير من نقط الالتقاء الدينية والثقافية أيضا، كتبوا كثيرا عن نوعية الأحكام القضائية التي أصدرها قضاة فرنسيون في المغرب، وحكموا لصالح الفرنسيين في نزاعاتهم مع المغاربة، حول ملكية الأراضي، رغم أن المغاربة امتثلوا للقانون الفرنسيين وباعوا ممتلكات أخرى لتوكيل محامين للنيابة عنهم في النزاعات التي لم يكونوا يفهمون فيها أي شيء..
وفي سنة 1930 جاءت فرنسا بفكرة الظهير البربري ومارست ضغوطا كثيرة لتمريره، في محاولة لتكييف القضاء المغربي مع التصور الفرنسي، بعد أن كانت بعض المحاكم المحلية تحتكم إلى قاض وحيد، بدون محامين لتمثيل الأطراف المتقاضية، كانت أغلب الأحكام تنفذ في الحين نظرا لبساطة المساطر التنفيذية. أما في عهد المحاكم الفرنسية في المغرب، فقد كانت هناك قضايا، وصلت أصداء بعضها إلى الصحافة الفرنسية خلال سنوات الأربعينات والخمسينات، تقول فيها إن تنفيذ بعض الأحكام القضائية، خصوصا منها التي كانت لصالح المغاربة، استغرق أشهرا طويلة، بل سنوات، بعد النطق بالحكم.
عندما كان هناك قاض وحيد للبت في قضايا ثلث المغرب
ليس في الأمر أي مبالغة. يكفي الرجوع إلى التقسيم الذي كانت تعتمده الدولة في تعيين أغلب القضاة، خصوصا في عهد المولى الحسن الأول. إذ إن بعض الرسائل التي أوردها «تاريخ الدولة السعيدة» وغيره من المراجع التاريخية التي ألفها مؤرخون سابقون للمملكة، استفادوا من مناصبهم في القصر الملكي للاطلاع على آلاف الرسائل الملكية إلى عدد من العمال ورجال السلطة بالمغرب.
بعض هذه المراجع تقول إن القصر كان يصدر تعيينا لأحد القضاة في مدينة، تحيط بها مئات المداشر، ويكلفه بتحمل مسؤولية النزاعات القضائية بين الناس في مناطق شاسعة.
هؤلاء القضاة، فهموا منذ البداية أن تغطية المناطق التي تخضع لهم قضائيا، تبقى أمرا صعبا، فقاموا بتعيين قضاة آخرين تابعين لهم، في محاكم محلية، خصوصا في المناطق التي يصعب التنقل داخلها لوعورة المسالك.. وهكذا أصبح للمغرب نظام قضائي، لا يمكن القول أبدا إنه كان بدائيا، أو عرفيا، لأن القضاة يحتكمون للشريعة، وأيضا لأن بعض القضايا التي لم يستطع بعض القضاة البت فيها، كانت ترفع مباشرة إلى القاضي المعين من طرف القصر، وكان يسمى كبير القضاة.
أرشيف «الدولة السعيدة» وحتى «تاريخ المغرب الكبير»، بالإضافة إلى «العز والصولة».. كلها كتب تورد جردا دقيقا بأسماء القضاة وسنوات تعيينهم، والأسر التي ينحدرون منها، والقضاة الذين يتم تعيينهم باقتراح من القضاة الكبار، الذين كانوا يتغيرون بتغير الجالس على العرش، حيث إن كل فترة كان لها قضاتها الحائزون على ثقة القصر، للبت في مظالم الناس.
لم يكن الأمر مقتصرا على فاس، التي كانت عاصمة علمية وقضائية أيضا، وإنما كان الأمر معمما على جميع المناطق الخاضعة لنفوذ «المخزن»، ولم يكن للقياد سلطة على القضاة، وبقي الأمر إلى أن جاءت المحاكم الفرنسية، التي كان يشرف عليها الحاكم الفرنسي، ليغيب دور الدولة المغربية في السيطرة على المحاكم، قبل أن يعود حضور الدولة مباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال وتتأسس وزارة العدل.
تاريخ الصراعات الدموية بين القبائل بعيدا عن المحاكم
لا بأس هنا أن نذكر بما كان يقع في المغرب قبل قرنين من بدء عمل المحاكم الشرعية التي كذبت فرنسا وجودها، وحاولت اللعب على ما رأت فيه فراغا قانونيا لتمرير الظهير البربري، والتمهيد للسيطرة على الأوضاع..
حدث مرة أن استدعى، السلطان محمد بن عبد الله سنة 1761 مائة وخمسينا من أعيان رؤساء قبيلة مسفيوية إلى مدينة مراكش للتشاور معهم، فاعتقلهم وأمر بقتلهم. وبعد ذلك اكتسحت الخيول أرضهم «وانتسفوها وبالغوا في النكاية فاستقامت طاعتهم وصلُحت أحوالهم». وهو ما نتج عنه جفاف كبير أجج معاناة الناس، بالإضافة إلى قساوة موظفي المخزن.
التساؤل هنا عن دور القضاء، لكن الجواب، يكمن في أن القضاء وقتها لم يكن يبت إلا في ما يعرض عليه من نزاعات، ولم يكن القضاة الذين يعينون من طرف أعلى سلطة بالبلاد، يتحركون للبت في ما تعرفه الساحة السياسية أو الاجتماعية من أحداث.. بل كانت الكلمة الفصل فيها للمخزن، الذي كان له رجال من بينهم قضاة أيضا..
بلغ الاحتقان أوجه سنة 1782، حين أصابت الناس كارثة الجفاف، والتي دامت سبع سنوات متلاحقة وصاحبها وباء الطاعون والموت، واضطر الآلاف إلى الهجرة من الجنوب نحو الشمال، وفي تلك الفترة بلغ الاستعباد وانتشار الرق أوجه أيضا، إذ عمد كبار التجار إلى استعباد الناس في أراضيهم مقابل ضمان قوت يومهم، بالاشتغال مجانا في الأراضي الفلاحية التي كانت ملكيتها تعود إلى تلك القبائل، قبل أن يستولي عليها رجال المال الأقوياء الذين كانوا متحالفين مع الزوايا ورجال المخزن الأقوياء.
في عهد المولى سليمان، والذي كان مشهورا بورعه وزهده، دفعه المحيطون به من مستشارين كانت لهم عداوات مع قبيلة أيت أمالو، إلى شن حرب عليها، وكان ابنه مولاي إبراهيم على رأس تلك الحرب، وقطع الجيش قبائل الحوز والأوداية وشراكة وأولاد جامع وصولا إلى جبال فازاز، وقبل أن تبدأ الحرب، لجأ سكان تلك القبيلة إلى طلب الصفح، حيث «أتى سكان آيت أمالو بالنساء والولدان طلبا للمسامحة وأظهروا الطاعة والتوبة». لكن حاشية السلطان رفضوا الصلح، واندلع القتال، وهو ما أدى إلى تدخل قبيلة أخرى على الخط.
سكان قبائل زمور الذين كان أغلبهم ينتمي إلى جيش السلطان، لم يقفوا مكتوفي الأيدي ليتفرجوا على جيرانهم يقتلون بعد أن طلبوا الصفح وأبانوا عن نية الإذعان للسلطان، وهو ما جعل القبيلة الأخرى تدخل في الحرب لنصرة آيت أمالو، وبعد حرب ضروس سقط خلالها القتلى، انقشع الغبار لتميل الكفة في الأخير إلى جانب آيت أمالو ومن ناصروهم، وانهزم السلطان وأخذ أسيرا، وتم قتل ابنه مولاي إبراهيم.
هذه التفاصيل دونت في كتاب «الجيش العرمرم الخماسي في دولة مولانا علي السجلماسي»، وفيها أن تلك المعركة كانت بسبب الوساوس التي كان يبثها المحيطون بالسلطان في أذنه، وهو ما أنهى حكمه وأدى إلى مصرع ابنه.
بعد تلك المعركة بسنة، هذه المرة في مكناس، أفتى الحاقدون للسلطان الجديد باستعمال الحيلة للقضاء على القبائل المحيطة بالمنطقة. أمر السلطان بصرف الأموال لزعماء القبائل، وهو ما جعل أغلبهم يطمع في أخذ المعونة، وحشد أزيد من 700 رجل أمام السلطان للحصول على نصيبهم. فألقي عليهم القبض جميعا وجردوا من خيولهم وأسلحتهم، وامتدت الاعتقالات إلى حدود صفرو، وهو ما أدى إلى انتفاضة شعبية لنصرة الزعماء المعتقلين، قادها أتباعهم والموالون لهم من الناس. أمر السلطان كرد فعل على تمرد القبائل «بنهب جميع ديار البربر بفاس، فتعدى الناس الحد في ذلك، ونهبوا كل من فيه رائحة البربرية… وكان في ذلك فساد كبير». وهو الأمر الذي تسبب في نشوب عداوات بين الأمازيغ والعرب.
الفقيه الحسن اليوسي، سبق له أن راسل السلطان، وكتب إليه مرة يقول: «إن العمال وخدامهم هم المشتغلون بظلم الناس.. ومن ذهب يشتكي سبقوه إلى الباب فزادوا عليه، فلا يقدر أحد أن يشتكي. فليتق الله سيدنا وليتق دعوة المظلوم، فليس بينها وبين الله حجاب».
وذكرت بعض الكتب أيضا أن رجال المخزن الذين كانوا مكلفين بجمع الضرائب، كانوا يخصمون عشرها لأنفسهم، بعد أن يفرضوها مضاعفة على الناس. وكان المخزن لا يتساهل مع الممتنعين عن أدائها، فحينما امتنعت قبيلة تدعى آيت حلي وآيت يوسي، عن أداء الضرائب، لأنها كانت مرتفعة في نظرهم، فإنهم ذاقوا الويلات. عبد الرحمن بن زيدان في كتابه، إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس «أوقعت بهم الجيوش المخزنية وقعة شنعاء، وقطعوا منهم رؤوسا عديدة، علّقت على أسوار فاس إرهابا للعصاة أمثالهم، وزجرا لهم عن العودة لخلع رداء الطاعة».
توجد إشارات تاريخية كثيرة لوضعية القضاء عبر مراحل مختلفة من تاريخ المغرب. أكثر الفترات دموية كان فيها القضاء متجاوزا، ويعود الحكم فيه إلى القبائل التي تتأثر غالبا بمزاج القائمين على السلطة، بينما تأسس قضاء على قدر من النزاهة في فترات كثيرة كان الأمن فيها مستتبا. حتى أن عددا من القضاة كانوا يرفعون كتبا بملخصات القضايا التي بتوا فيها خلال السنة إلى السلطان ليطلع عليها، وتكون في أغلبها قضايا نزاعات حول الملكيات، ويتم الفصل فيها بطريقة حبية، ونادرا ما كانت تفرض عقوبات زجرية ضد المتقاضين، بل يتم تطبيق حكم القاضي على الفور..
هؤلاء القضاة، كانوا يحتكمون إلى الشريعة الإسلامية، نظرا لتكوينهم الديني، وإلمامهم بالأمور الشرعية وتنظيم العلاقات بين الناس، ولم يكن الأمر كما صورته فرنسا قبل أن تمرر الظهير البربري سنة 1930.