شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

هكذا أحيا الحسن الثاني شِعر ابن إبراهيم

الشاعر المظلوم عاصر 4 ملوك ووصلت شهرته أقصى الشرق ومات منسيا

يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

سُجن في فترة الاستعمار، بسبب شِعره المدافع عن الوطنيين، وبعد الاستقلال ظل اسمه حبيس شعره. توفي سنة 1954، ليصبح الجو خاليا أمام من انتقصوا من قامته الأدبية، وحاولوا إقبارها نهائيا، بدعوى أن هناك «صفحات غير مشرفة» في مساره الأدبي والشخصي أيضا.

شاعر الحمراء، محمد بن إبراهيم، كان واحدا من أكثر الشعراء المغاربة والعرب حدة في المزاج، ومن عرفوه عن قرب اشتكوا كثيرا من مزاجيته الحادة وتقلب طباعه. بينما ينسب إليه آخرون الفضل في وصول القضية المغربية إلى المشرق مبكرا، خصوصا وأنه كان نموذج الشاعر المغربي الذي أجبر المشارقة، بكل الهالة التي أحاطوا بها أنفسهم، أن يسمعوا شِعره، ويُعجبوا به أيضا.

 

 

بين البؤس والشهرة.. سيرة شاعر أثار الجدل حيا وميتا

لا يمكن أن تُحيط بسيرة شاعر الحمراء ابن إبراهيم، دون أن تطالع ملامحه في كتابات منافسيه، خصوصا من المغاربة، الذين سرق منهم الأضواء في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.

يوم 27 شتنبر 1954، تناقلت الألسن خبر وفاة الشاعر محمد بن إبراهيم، الذي اشتهر بلقب شاعر الحمراء، نسبة إلى مراكش. خبر الوفاة، تعمدت صحف عدم الإشارة إليه، بينما خُصص حيز مهم لنقل خبر وفاته في صحف ودوريات ثقافية أخرى، بل ونُظمت في ذكراه، عقدين بعد وفاته، ندوات لاستعادة ملامح من شخصيته وتاريخه النضالي الذي خاضه بالشِعر في مواجهة دبابة السياسة ومد التحالفات الحزبية.

بعض المصادر تقول إن محمد بن إبراهيم كان وراء إطلاق لقب شاعر الحمراء على نفسه، وإن اللقب لم يحصل عليه من معجبين به أو منافسين له. ودليل هؤلاء الذين يقولون إنه لقب نفسه بنفسه، مقتطف من قصيدة شهيرة له، ألقاها أمام الملك عبد العزيز آل سعود، عندما مثل أمامه خلال رحلة الحج التي قام بها سنة 1935 (مصادر أخرى تقول إن رحلة ابن إبراهيم إلى الحج كانت سنة 1937)، والتي قال في بيت من أبياتها:

«من المغرب الأقصى أتتك تحية  يبلغها عن أهله شاعر الحمرا».

مما شاع عن شاعر الحمراء أنه بدد أمواله التي غنمها من إكراميات تأليف الشعر. وكان الشاعر الأعلى أجرا في زمانه، ولم يكن ينافسه في هذا الأمر سوى قلة قليلة من الشعراء الذين تفوق عليهم بالتزامه بشكل القصيدة العربية القديمة. وهكذا، تضاعفت مداخيله، سيما بعد عودته من الحج، إذ ارتفعت قيمة شعره، ولم يعد شِعر المديح الذي يؤلفه من نصيب الباشا التهامي الكلاوي فحسب، بل نال منه ملك السعودية نصيبه أيضا.

لكن المؤسف في سيرة ابن إبراهيم، أنه انتهى بشكل مؤسف، وتوفي في ظروف ساءت قبلها أحواله الصحية كثيرا، وكان مرضه سنة 1954 فرصة لكي يتشفى فيه منافسوه وحساده الذين كانوا يستكثرون عليه الحظوة لدى كبار الأعيان، في مراكش ومدن أخرى. وقد شاع بعد وفاته أنه بدد أمواله كلها، ووزعها بالطريقة نفسها التي تلقاها بها، إذ كان يقصده المحتاجون لكي يتصدق عليهم ببعض تلك الأموال التي جمعها من قصور الأعيان وإقاماتهم الفخمة في فترة الأربعينيات من القرن الماضي، التي وصل فيها إلى قمة المجد.

يقول عنه الصحافي أحمد زياد، والذي كان من أبرز الأقلام التي كتبت في الصحافة الحزبية، بجريدة «العلم» لسان حال حزب الاستقلال: «وأود هنا بهذه المناسبة أن أوجه نداء حارا إلى أصدقاء هذا الشاعر وإلى الذين يتوفرون على قصائد من شعره، أو يحفظونها، أن يوجهوها لتنشرها حتى لا تظل في زوايا النسيان، وحتى لا يظل اسم هذا الشاعر نسيا منسيا.
فهناك الكثيرون ممن يحفظون قصيدة «المطعم البلدي» والقصيدة التي يهجو فيها الشاعر الخليفة البياز، وغيرهما من القصائد ذات الطابع الاجتماعي والفني، لأن نشر مثل هذه القصائد يلقي بعض الأضواء على حياة هذا الرجل الذي يحتل المكانة نفسها التي يحتلها كل من الشاعر العبد، والديب في مصر. ولئن كانت حياة هؤلاء الشعراء تتسم بشيء من الشذوذ، فإن شعرهم يعد بحق صورة من صورة المجتمعات التي عاشوا فيها، ومن وظيفة الأدب أن يملي خبايا المجتمعات ويظهرها في مرآته الصقيلة».

كان أحمد زياد، أحد الصحافيين القلائل الذين كانوا يحيطون بخبايا الساحة الأدبية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، لذلك اجتهد في كثير من المناسبات لإعادة الحياة إلى أشعار ابن إبراهيم وتنقيحها من المنسوب إليها والدخيل عليها. لكنه كأغلب من تناولوا سيرة شاعر الحمراء، تجنب الخوض في أمور محرجة أحاطت بسيرة هذا الشاعر، الذي لقبه المشارقة بأسطورة القصيدة. لكن اللقب الذي استحقه بين المغاربة، كان بلا منازع أنه كان «شاعرا سيئ الحظ».

 

بينبين.. مؤنس الملك يحيط بسيرة شاعر الحمراء

يعود جزء من الفضل في إعجاب الملك الراحل الحسن الثاني بمؤنسه وجليسه الفقيه بينبين، إلى إحاطة هذا الأخير بشعر شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم.

بينبين كان معاصرا لشاعر الحمراء ابن إبراهيم، بحكم أن مدينة مراكش جمعتهما معا، ولو أن ابن إبراهيم وُلد قبل بينبين بسنوات.

نشأ بينبين، مؤنس الملك، في جو الشعر والأدب في مراكش، وتعرف على سيرة ابن إبراهيم، انطلاقا مما سمعه مباشرة ممن كانوا جلساء دائمين لهذا الشاعر.

ولم يُخف بينبين، أمام الملك الراحل الحسن الثاني، في أكثر من مناسبة، أن بعض الأشعار التي نُسبت إلى ابن إبراهيم بعد وفاته سنة 1954، كان الهدف منها الإساءة إليه. خصوصا منها تلك التي تصف أجواء ماجنة من سهرات كانت تقام في مراكش، ويحضرها المعادون لأعضاء الحركة الوطنية.

عند أولى اللقاءات بين الملك الراحل الحسن الثاني والفقيه بينبين، طلب الملك الراحل أن يطلع على بعض أشعار ابن إبراهيم، ولم يتردد مؤنس الملك في أن يعترف بأن شاعر الحمراء ألف شعرا طويلا في مدح الباشا التهامي الكلاوي، الذي تشفى المغاربة في سيرته بعد الاستقلال، ووفاته وتفرق ثروته ونهب بعضها. وعندما زال مجد الكلاوي، رغب الكثيرون في أن يزول معه الشِعر الذي ألفه محمد بن إبراهيم في حق الباشا.

لم يُخف الملك الراحل الحسن الثاني إعجابه بسيرة شاعر الحمراء، وكلف جليسه بينبين أن يجمع دواوينه الموجودة والتي يحفظها بعض المراكشيين القدامى شفهيا، لكي تُنشر لاحقا في ديوان يحمل اسم ابن إبراهيم، وهو ما اجتهد فيه مؤنس الملك فعلا، خصوصا وأن أغلب من عاشوا مع شاعر الحمراء كانوا وقتها، في نهاية ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، لا يزالون على قيد الحياة.

بدا واضحا أن مديح شاعر الحمراء للباشا الكلاوي، في فترة كان فيها الباشا يعادي الملك الراحل محمد الخامس ويجمع التوقيعات لعزله، قد أثر كثيرا على سيرة شاعر الحمراء، بعد وفاته المفاجئة بسكتة قلبية سنة قبل انفراج الوضع السياسي في المغرب والتمهيد لعودة السلطان محمد بن يوسف إلى العرش، بعد رحلة المنفى.

تقول يعض المصادر إن ابن إبراهيم ألف قصيدة هجاء في حق الباشا الكلاوي، انتقم فيها من الباشا بعدما تبين أنه وراء حملة جمع توقيعات الأعيان لعزل السلطان محمد بن يوسف عن العرش. ووُصفت القصيدة باللاذعة، وقد طُلب من بينبين أن يبحث عنها -إن كانت موجودة- ويضمها إلى الديوان الذي كلفه الملك الراحل الحسن الثاني بمهمة جمعه، لكن الفقيه اعتذر عن الأمر، مدركا خبايا ما نُسب إلى شاعر الحمراء من قصائد مست شخص الشاعر وأساءت إليه بعد وفاته، وشرح الأمر للملك الراحل الحسن الثاني بأنه لا يستطيع أن يجمع شِعرا يهاجم رجلا – يقصد الكلاوي- جمعته بوالده علاقة صداقة شاركا خلالها الطعام والأفراح.

ابن سرّاج الخيل الذي أزعجت كلماته الحماية الفرنسية

مما نقل عن شاعر الحمراء ابن إبراهيم، أنه نشأ في أسرة متواضعة جدا في مراكش. والده الذي كان يمتهن خياطة سروج الخيل وإعدادها لرُكابها من الأعيان، كان يرغب في أن يصبح ابنه عالما، مثل العلماء الكبار في مراكش، والذين كانوا من جلساء عبد الحفيظ ابن المولى الحسن الأول، الذي كان وقتها خليفة لوالده في مراكش.

أجواء مراكش في فترة انتقال السلطة بين أبناء المولى الحسن الأول كانت متقدة و«واعدة» أيضا. بحكم أن المدني الكلاوي، كان حليفا للمولى عبد الحفيظ وبايعه ووعده أن ينصره عسكريا لكي يتولى العرش في فاس. وهكذا كانت مراكش مهد السلطة التي توجد في فاس.

في هذا السياق، كان محمد بن إبراهيم، والذي لم يكن سنه وقتها تتجاوز الخامسة عشرة، قد التحق بجامعة القرويين في فاس، بعد أن بصم مسارا لافتا في اللغة العربية والشعر والأدب في جامع بن يوسف.

في القرويين احتك محمد بن إبراهيم، ابن السراج، مع نخبة أبناء أعيان فاس الذين كان يتم إعدادهم ليصبحوا قضاة وموظفين في سلك المخزن. وكان حُلم والده، أن ينعم ابنه بواحدة من تلك الوظائف التي تُتيح لصاحبها مجالسة الأعيان مثل الباشا الكلاوي، الذي كان الزبون الأول لوالد محمد بن إبراهيم.

منذ أن كان الشاب اليافع، محمد، طالب علم في مراكش، شاع أنه يقول الشعر ويبرع فيه، بل واتُهم وهو دون الخامسة عشرة بأنه يحفظ كلام الشعراء القدامى وينسبه إلى نفسه، ولم يصدقه المحيطون به، إلى أن وصل خبر نظمه الشعر إلى فقهاء مراكش، وامتحنوه لكي يتأكد لهم فعلا أنه شاعر بالفطرة.

وفي القرويين تقوت موهبة محمد بن إبراهيم، حتى أنه كان يترك حلقات العلم والفقه، ويتجه صوب حلقة الأدب لكي يسمع أخبار الشعراء وقصصهم مع الملوك والأمراء وجولاتهم ضد بعضهم البعض في قصائد الذم والهجاء في الشعر العربي القديم.

تأثر الشاعر محمد بن إبراهيم بشعر المدح والهجاء، خصوصا الأول، مهّدا له الطريق إلى منازل أعيان المغرب في بداية القرن الماضي، وبسبب علاقاته مع بعض الشخصيات، من بينهم علماء، تسببت بعض قصائده في سجنه لفترة، مع بعض قادة الحركة الوطنية. وتقول بعض المصادر إن فترة سجنه لم تتجاوز شهرا واحدا وأطلق سراحه، بينما مصادر أخرى تقول إنه سُجن لثلاثة أشهر، ولم يطلق سراحه إلا بمناسبة عفو أصدرته الإدارة الفرنسية على المشاركين في مظاهرة من المظاهرات التي دعت إليها الحركة الوطنية، وسُجل اسمه معهم ليستفيد من العفو.

وتعود أسباب سجن شاعر الحمراء إلى القصائد الوطنية التي تندد بسياسة فرنسا في المغرب، والتي نظم أغلبها في حضرة بعض تلاميذ العلماء البارزين في الحركة الوطنية في فاس ومراكش. ونُقلت عنه تلك القصائد ووصل خبرها إلى الإقامة العامة الفرنسية، ونقل الحاكم العسكري في مراكش أن الشاب محمد بن إبراهيم كان يجمع حوله التلاميذ والمشايخ، ويتلو عليهم أشعاره التي تدعو إلى مواجهة فرنسا ومقاطعة سياستها في المغرب، وهو ما أدى إلى صدور قرار بسجنه على الفور.

بعد تجربة السجن، عاد محمد بن إبراهيم إلى مراكش، وحد من أنشطته السياسية، لكنه ظل وفيا للشعر والقصيدة، وانشغل قليلا عن واقع السياسة المغربية، بواقع الأدب والشعر المغربي في الساحة العربية، وكانت له في هذه المعركة صولات وجولات.

 

جليس الباشا.. ابن السراج الذي تفنن في مدح الكلاوي

تحقق حُلم السراج المراكشي، الذي تؤكد بعض المصادر أنه ليس مراكشي الأصل، بل يتحدر من منطقة «هوارة» بين تارودانت وأكادير، لكنه أصبح مراكشيا بعد الإقامة في المدينة لسنوات، وإعجاب أعيان مراكش بعمله المتقن في تسريج الخيول.

حُلم الوالد كان أن يرى ولده محمد، قاضيا أو موظفا من موظفي المخزن الثقاة الذين يُعهد إليهم بشؤون الدولة. لكن هذا الحُلم تحقق بطريقة معكوسة. إذ بدل أن يكون الابن أحد هؤلاء العلماء الذين يُجالسهم، صار محور جلساتهم، بل ويُطلب لغزارة علمه في مجال الأدب والشعر وكثرة ما يحفظه من أشعار العرب.

عُرف عن محمد بن إبراهيم المراكشي، شاعر الحمراء، أنه نظم الشعر وهو لا يزال طفلا، وحفظ أصعب المعلقات وقصائد المدح والهجاء وهو دون الخامسة عشرة. وهذا كله أهله لكي يصبح الجليس المفضل لأعيان مراكش، وعلى رأسهم الباشا التهامي الكلاوي.

عندما عاد الشاعر ابن إبراهيم السراج إلى مراكش بعد رحلة العلم في القرويين بفاس، بدأت أخبار تأليفه الشعر وإمتاع جلسائه تسري بين أعيان مراكش، فطلبه الباشا التهامي الكلاوي ليحضر بعض حفلات العشاء التي ينظمها بانتظام على شرف ضيوفه من أعيان المدينة، وأعيان المغرب عموما.

في قصر الباشا التهامي الكلاوي تعرف محمد بن براهيم، على القواد والباشوات وأعيان منطقة سوس، وبعض الشخصيات المرموقة التي تزور الباشا، من شمال المغرب ومن فاس والرباط. وسرعان ما أصبح له صيت وطني، عندما نقل هؤلاء الجلساء أشعار ابن إبراهيم إلى مجالس العلم في مدنهم.

مما يُروى عن ابن إبراهيم، أن أحد أعيان الرباط، سليل عائلة من العائلات النازحة من الأندلس، بعث في طلبه لكي يُلقي شعره عنده في داره، وأرسل إليه مبعوثا يُخبره بأن يرافقه إلى الرباط، فاعتذر ابن إبراهيم وهو الأمر الذي لم يرق أبدا لسليل العائلة الرباطية الثرية، فأرسل إليه رسالة يوبخه فيها ويحط من قدره، فما كان من شاعر الحمراء إلا أن رد عليه بقصيدة هجاء حظيت بشهرة واسعة في ثلاثينيات القرن الماضي، مدح فيها أجواء مراكش الأدبية، وقال ما معناه إنه لا يرضى لنفسه أن يشد الرحال إلى مدينة أخرى ليقول الشعر في حضرة أناس لا يعرفهم، ويترك قصر الكلاوي الذي اعتاد أن يلقي قصائده في رحابه كلما حضر ضيوف من خارج مراكش في قصر الباشا. واعتُبرت هذه القصيدة واحدة من أقوى القصائد التي مدح فيها شاعر الحمراء، الباشا التهامي الكلاوي، لكن المؤسف أن متنها كاملا ضاع، شأنها شأن قصائد أخرى لشاعر الحمراء.

علاقة الشاعر ابن إبراهيم بالباشا الكلاوي كانت فريدة، حتى أن بعض المصادر تقول إن الباشا كان سخيا جدا مع شاعر الحمراء، ومنحه المال لكي يحج في سنة 1935، وبفضل تمويل الباشا لرحلته، طالت جولته في المشرق وكانت تلك فرصة له لكي يُعَرِّفَ بنفسه في أوساط الشعراء في الحجاز والأزهر.

 

الملك عبد العزيز آل سعود أعجب بشِعر شاعر الحمراء

في سنة 1935 توجه شاعر الحمراء إلى الحجاز ليؤدي مناسك الحج. ورغم أن السعوديين لم يكونوا يعرفون من يكون شاعر الحمراء، إلا أن المغاربة الذين ذهبوا في رحلة الحج، وكان بينهم وزراء وأعيان، كانوا يعرفون جيدا من يكون ابن إبراهيم.

عمل الشاعر بنصيحة وجهها إليه الباشا الكلاوي عندما كان بصدد الانطلاق في رحلته، إذ نصحه بالسعي إلى رؤية أحد أمراء الدولة السعودية، ليس طمعا في أعطياتهم، ولكن لكي يحظى بمكانة لدى شعراء الحجاز. فقد كان أعيان مراكش يرغبون في أن يصل شاعرهم المفضل إلى درجة من الشهرة لدى شعراء المشرق، خصوصا وأن ابن إبراهيم كان متفوقا في حفظ الشعر، وردّ على شعراء كانوا يفوقونه شهرة في الحجاز ومصر، لكنه كان يتفوق عليهم كلما تعلق الأمر بالموهبة.

لا توجد، للأسف، مصادر تفصلت في الطريقة التي التقى بها شاعر الحمراء بالملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية، لكن اللقاء تم عندما كان شاعر الحمراء يؤدي مناسك الحج، حيث بقي في الأراضي السعودية لفترة قصيرة للقاء بعض الشخصيات التي كانت بدورها تؤدي مناسك الحج. وتيسر له لقاء الملك عبد العزيز، واغتنم الفرصة لكي يلقي أمامه قصيدة مدحه فيها، وأثنى عليه. وهو ما جعل الملك يكون سخيا مع ابن إبراهيم الذي عُرف عنه شظف العيش والمعاناة في شبابه، قبل أن يصبح الشاعر المفضل للأعيان.

لقاء شاعر الحمراء مع الملك عبد العزيز، مهد له لقاءات أخرى مع بعض مشايخ المملكة العربية السعودية في ذلك التاريخ، والتقى حجاجا من مصر، سهلوا له لقاء علماء الأزهر في طريق عودته إلى المغرب.

حضور ابن إبراهيم في مصر، جعله يغتنم الفرصة لكي «ينتقم» من الحيف الذي طال الأدب المغربي في مواجهة المشرق، وألقى محاضرة مطولة أمام الأزهريين من علماء ومتخصصين في الأدب العربي كان لها صيت كبير، إلى درجة أن بعض الصحف المصرية نقلت نصها كاملا.

قدم ابن إبراهيم لنفسه هدية العمر عندما توقف في مصر عند عودته من رحلة الحج، فقد اهتمت الصحافة المصرية بهذا الشاعر الذي وصفته بـ«الظاهرة»، و«المغربي الذي يُعيد للقصيدة العربية روحها»، ونقلت بعض قصائده.

المحاضرة التي ألقاها ابن إبراهيم في الأزهر لم تكن مهادنة، حتى أنها تسببت له في انتقادات من طرف شعراء مصريين قبل أن يغادر مصر، ولم يتسن له الرد عليها في الصحافة المصرية، واعتُبرت محاضرته تطاولا على رموز الأدب، خصوصا وأنه انتقد تناولهم لموضوع سقوط الأندلس، وقصة يوسف بن تاشفين مع المعتمد بن عباد، الذي حكم إشبيلية قبل أن يقضي يوسف بن تاشفين، رمز الدولة المرابطية، على حُكمه ويضم الأندلس إلى دولته.

ستكون لابن إبراهيم لاحقا قصة شهيرة مع نتاج أحمد شوقي، عميد الأدب العربي، الذي توفي قبل ذهاب ابن إبراهيم للحج بثلاث سنوات. لكن مسرحية شوقي عن يوسف بن تاشفين وتناول سجن ابن عباد وسقوط إمارته، جعلت ابن إبراهيم ينتقد العمل أمام المصريين، ويثور في وجه الممثلين في المغرب عندما قدم المغاربة مسرحية شوقي على الخشبة.

 

عندما ثار «بن إبراهيم» بسبب مسرحية عن ابن تاشفين

يبقى الصحافي المغربي الراحل، أحمد زياد، الذي كان من أشهر كُتاب العمود الصحافي في فترة الحماية، مما تسبب له في مشاكل مع الإدارة الفرنسية، أحد أشهر من عاصروا الشاعر «ابن ابراهيم»، وجايلوه وكتبوا عنه والتقوه في مناسبات متفرقة.

كتب الصحافي أحمد زياد مقالة مطولة سنة 1959، انتقد فيها أجواء الشعر والشعراء في المغرب خلال فترة الخمسينيات، وأثنى على شاعر الحمراء متحسرا على رحيله واعتبره من عمالقة الشعر في العصر الحديث، وذكر واقعة حضرها، كان بطلها هذا الشاعر الذي ثار في وجه الحاضرين والمشرفين على عرض مسرحية من أعمال الأديب أحمد شوقي، تتحدث عن قصة ابن تاشفين مع المعتمد بن عباد.

يحكي أحمد زياد عن هذه الواقعة في مقاله، قائلا: «فلقد زارت جمعية للتمثيل من قدماء تلاميذ المدرسة الثانوية بفاس مدينة مراكش، وعرضت في زيارتها هذه رواية الشاعر أحمد شوقي «أميرة الأندلس» على الجمهور المراكشي، ومن المعلوم أن شوقي في مسرحيته هذه يتجه اتجاها يظهر عمل يوسف بن تاشفين مع المعتمد بن عباد في صورة تكتسي شيئا من القساوة أو الشذوذ بألطف تعبير، ولشوقي بعض العذر في هذا الاتجاه، لأنه كان ينظر إلى هذا الحادث من زاوية الأدب لا من زاوية التاريخ، وهو الجانب الذي نظر إليه يوسف بن تاشفين، وهو نفس الذي كان يؤمن به شاعر الحمراء، وما إن ابتدأ عرض الرواية على ما كان يرويه ابن إبراهيم نفسه، حتى احتدم شاعر الحمراء غيظا، وثار ثورة من ثوراته المعروفة، فلم يجد بعض الأصدقاء بدا من أن يقوموا بمساع حميدة لعمل شيء يخفف من ثورته ويفرج كربته، فكان هذا الشيء هو هذه القصيدة التي اتفق الطرفان على أن يلقيها الشاعر على إثر الانتهاء من عرض الرواية، فجاءت كما هي الآن يبدو على أبياتها طابع الارتجال، لأنها من عفو الخاطر، ولأن ابن إبراهيم كان «يعز عليه أن يرى مصير ابن عباد بعد مجده، كما كان يعز عليه أن يراه مصفدا يساق إلى أغمات»، ولكن عمل يوسف بن تاشفين كان «لنصر دين محمد»، وإنقاذه من بؤرة الهلك والنكد، ولكن المقطع الذي قبل هذا يدل على أن شاعر الحمراء كان يرى في تصرف يوسف بن تاشفين عملا إيجابيا، حتى أنه شبهه بالفاروق عمر بن الخطاب».

جدير بالذكر هنا، أن الصحافي الراحل أحمد زياد كان أحد أوائل الصحافيين المغاربة الذين وثقوا للشعر العربي في المغرب خلال القرن العشرين، واعتبر في المقال نفسه أن شاعر الحمراء، ابن إبراهيم، وعبد القادر حسن، ومحمد الحلوي، هم أبرز رواد الشعر المغربي في القرن العشرين، وتحسر على ما أسماه «الخمود» الذي دب في ساحة الشعر المغربي بعد الاستقلال، وعدم تجديد الإنتاج الشعري على المستوى المحلي وانحسار دور الشعراء في المشهد الثقافي.

الواقعة التي تطرق إليها أحمد زياد، بخصوص غضب الشاعر ابن إبراهيم بسبب أحد المشاهد التمثيلية، يقصد بها مسرحية «أميرة الأندلس» التي ألفها الشاعر أحمد شوقي. وسُجلت أبيات نارية رد بها شاعر الحمراء على أحمد شوقي، من أشهر ما جاء فيها:

«تأمل شوقي عن قريب فما اهتدى          وما ضرّ شوقي لو تأمل عن بُعد».

وكانت قصيدة ابن إبراهيم الشهيرة بهذا الخصوص، واحدة من أشهر القصائد التي رد فيها المغرب على الشرق، عندما تعلق الأمر بالهيمنة الثقافية، أو نظرة المشارقة إلى المغاربة عموما، في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.

هذا المقال الذي كُتب سنة 1959، كان بمثابة تحسر على زمن الرواد الذين كان شاعر الحمراء أشهرهم، والذين ألهبوا بحق الأدب المغربي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وكلفتهم القصيدة حُريتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى