إعداد وتقديم: سعيد الباز
تميّز الأدب الإفريقي بحضور لافت للنظر، حاملا معه خصوصيته الإبداعية وثراءه الفني المشبع بتراث غني ومتعدد أضاف إليه الماضي الاستعماري والعنصري مسحة من الشعور بالغبن والضيم مع إحساس طاغ بالكرامة المجروحة والتوق العميق للتحرر وتأكيد الذات. ورغم أهمية الأدب الإفريقي والشعر على الخصوص وكون المغرب وعدد من البلدان العربية ذات انتماء إفريقي فإن ترجمته اقتصرت على أصوات محدودة حازت على الاعتراف من قبل البلدان الأوروبية وعواصم المتروبول فيها، فإنّ الكثير من الأسماء سواء من الجيل القديم أو الجديد ظلت مجهولة لدينا، وتحتّم علينا أكثر من غيرنا ضرورة التعريف بها، والكشف عن خصوصيتها الإبداعية.
أمّا على مستوى الكتابة الروائية فقد شكّلت الرواية أحد أبرز معالم الأدب الإفريقي وأكثرها ظهورا وتميّزا، سواء في غرب القارة أو شرقها أو جنوبها، وفي جانبها الفرانكفوني أو الأنجلوساكسوني. ولعلّ التيمة الأساسية لهذه الرواية هي انشغالها بقضايا الاستعمار وذيوله التي ما زالت راسخة في وجدان الإنسان الإفريقي، وآثاره على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إضافة إلى ما تركته عقود الاستعمار من تقسيمات جغرافية وسياسية أججت الصراعات الإثنية والقبلية والسياسية بين البلدان الإفريقية حديثة العهد بالاستقلال، بعض هذه الصراعات ما زالت متواصلة حتى اليوم.
شوقي بدر يوسف.. إطلالة مشهدية على الرواية الإفريقية
لا شكّ أنّ الرواية في قارة إفريقيا الآن تمثل حالة من حالات الحضور اللافت، بسبب تراكم منجزها وتعاظم مكتبتها الخاصة، وظهور عدد من كُتّاب وكاتبات الرواية الأفارقة الذين تركوا بصمة قوية في المشهد الروائي الإفريقي والعالمي، ولا شكّ أنّ هذا الحضور اللافت له أسبابه التي حفل بها المشهد الأدبي الإفريقي المعاصر منذ تطور المجال السردي في القارة السمراء شكلا ومضمونا، إلى أن أصبحت القارة تمنح كتابها بحرية كبيرة إلى فرانكفونية العالم الجديد يجولون في المشهد السردي بمنجزهم المعبّر عن الإنسان المعاصر فيها. أوّل هذه الأسباب هو التحرر الذي بدأ يفرض نفسه على الإنسان الكاتب في أنحاء القارة بفعل الحركات التحررية التي حصلت على استقلاليتها الذاتية من كنف المستعمر البغيض، ثانيا بسبب الثورة الثقافية والأدبية التي اجتاحت القارة في شتى مجالاتها، والاستراتيجية الأدبية التي تمّ إعلانها على مدار سنوات طويلة خاصة في مجالات السرد، والتي بدأت تستجيب بالفعل للكُتّاب الشباب، إضافة إلى أن علم الإنسان وعلم الاجتماع ساهما في بلورة شكل الرواية في إفريقيا من خلال موضوعات وقضايا اجتماعية وسياسية وثقافية بلورت شكل الرواية ومنحتها الموضوعات الجديرة بالكتابة والتبئير وطرح الأسئلة الخاصة بها. فضلا عن أن محاولة خلق حضارة واقعية داخل القارة جعلت واقعية الأمر تستجيب لمتطلبات الحضارة الآنية، وتمزيق القناع الذي كان يتعامل به الكاتب الأبيض في إفريقيا والسلوك المصطنع حيال الأدب الإفريقي من الناحية النقدية، ما جعل الكتاب الأفارقة يحتلون باهتمامهم السردي هذا الجانب ويطلقون قمقمهم في التعبير عن قضاياهم وإنسانهم. وقد عبّر الكاتب الإفريقي في مجال الرواية عن نفسه وعن أرضه وعن سلوكيات عالم الأفارقة تعبيرا أدّى إلى ظهور الرواية الإفريقية وتنامي مفرداتها واقتحامها للمشهد الروائي العالمي بكل قوة وتميز واقتدار.
ولعل الحقل الأهم من الحقول الروائية التي تعنى بها الرواية الإفريقية تشمل التطبيقات السياسية إبّان الحكم الاستعماري وفي فترة ما بعد الاستقلال. وإذا سلمنا برأي أرسطو في أنّ المجتمع نفسه سياسي، فإنّ الروايات الإفريقية سياسية حتّى إذا لم تقدم تحليلا لموضوع الاستعمار أو لسياسة الأحزاب. ويمكن تحديد معنى الرواية السياسية من خلال مفهوم محدد للأعمال التي تتناول موضوع السياسة بشكل مباشر وواضح. فالسياسة بهذا المعنى مرتبطة مع الرواية الإفريقية بقدر ما كان طرد الاستعمار قضية مركزية للروائي الإفريقي. فقد تمحورت معظم موضوعات الرواية الإفريقية حول هذه الإشكالية بكل قوة. ذلك أن الروائي الإفريقي يعتبر الوعي السياسي جزءا لا يتجزأ من دوره ككاتب. بالإضافة إلى محاولته المبكرة لتبصير الإنسان في إفريقيا بعلاقته الثقافية والسياسية والاجتماعية مع الظروف التي أوجدها المستعمر منذ أن وطأت قدمه أرض القارة.
ومنذ ربع قرن، منذ أن لفتت الرواية الإفريقية نظر النقاد المتواصل، لم يمتلك الروائيون الأفارقة تقليدا في الرواية يمكن أن يساعدهم على الاستمرار في كتاباتهم الروائية سوى الاستمرار في الكتابة عن قضاياهم الملحة والحاضرة بشكل كبير في الساحة الاجتماعية والسياسية والثقافية، إضافة إلى أنّهم يكتبون بلغة ثابتة، حتّى لو كانت لغة المستعمر نفسه، فإنّ من الضروري تشخيص القضايا التي تساعد أو تعمّق تطور التقاليد السائدة في تلك الآونة لتصبح موضوعات ومعادلات موضوعية لكثير من الأعمال التي كتبها الكاتب الإفريقي… ويمثل الأدب الإفريقي الآن أيقونة مهمة في ساحة الأدب العالمي لما له من سمات خاصة، في توجهه الإبداعي استحوذت في كثير من الأحيان على هوية إنسانية ومحلية خاصة به، حيث يكتب عدد كبير من أدباء إفريقيا باللغات الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية والإسبانية. وعاشت إفريقيا… حياة مريرة طوال تاريخها، وظهر أدبها أول ما ظهر خارج القارة على يد الأفارقة الذين سيقوا منها عنوة إلى القارة الأمريكية الشمالية والجنوبية، قبل أن يتمكن أبناؤها داخل القارة من تفعيل ورسم الخطوط العريضة للأدب الإفريقي المحلي فيها، بانفعالاتهم وأقلامهم وأفكارهم ورؤاهم الإنسانية الخاصة.
… من هنا نجد أنّ الرواية في إفريقيا وضعت نفسها على خارطة الأدب العالمي بامتياز من خلال هذه الكوكبة من الكتّاب والكاتبات الذين عبّروا عن القارة السوداء وما يجري فيها من حياة إنسانية، وصراعات وتأزمات، وبحث عن الحرية من خلال إبداعاتهم الروائية المتميزة.
ومع ذلك، فإن الأدب الإفريقي ما زال في حاجة كبيرة إلى التناول والتواصل مع منجزه الإبداعي في كافة توجهاته وأشكاله من شعر ومسرح ورواية وقصة قصيرة وسير ذاتية وغير ذلك من المواضيع الأدبية والثقافية المتنوعة داخل هذا المشهد المتميز من آداب وثقافة العالم.
آلان مابانكو.. زجاج مكسور
الشاعر والروائي الكونغولي آلان مابانكو Alain Mabanckou من مواليد 1966 حاز على الكثير من الجوائز الأدبية: جائزة رونودو وجائزة أمير موناكو وجائزة الأكاديمية الفرنسية. حظيت روايته «زجاج مكسور» بإقبال كبير كما كرسته أفضل روائي إفريقي من الجيل الجديد. في أسلوبه الروائي نبرة ساخرة تصل حدّ الكوميديا الساخرة، لتقدم لنا صورة أخرى عن إفريقيا اليوم طابعها الأساسي الدهشة ورصد تناقضات الواقع:
لنقل إنّ صاحب المشرب المسمّى (لو كريدي –آفاوا- ياجي) ومعناها أعطني قرضا لزوم السفر، والذي سنذكره لاحقا باسمه المختصر (لو كريدي) وضع ذات يوم في يدي كراسا وطلب منّي أن أملأه كتابة فهو يعتقد جازما أنّني المسمّى (زجاج مكسور)… نعم هذا هو اسمي أستطيع أن أضع كتبا. وذلك لأنّي ذات يوم كنت قد حكيت له مازحا قصة الكاتب المشهور الذي كان يحتسي الخمر مثل قطعة الإسفنج التي تتشرب الماء ثم يذهب بعد ذلك ليتمدد ثملا على أرضية الشارع فنبدأ هناك في جمع أطرافها المبعثرة.
إذن لا تصحّ الممازحة مع صاحب المشرب، فهو يأخذ كلّ شيء مأخذ الجدّ، إذ إنه عندما وضع في يدي ذلك الكراس ذكر لي على الفور وبوضوح تام أنّ هذا الكراس ممتلئ بالكلمات سيكون في نهاية المطاف، له وحده لا لأيّ أحد غيره، فغير مسموح لأيّ شخص آخر أن يقرأه عندئذ أردت أن أعرف لماذا كانت هذه المسألة على هذا القدر من الأهمية بالنسبة إليه. فأجاب أنّه لا يريد لمشربه (لو كريدي) أن يختفي عن الوجود هكذا فجأة ثم أضاف أنّ أهل بلدنا ليس لديهم الإدراك الكافي الذي يلزم للحفاظ على ذكرى الأشياء. وأنّ زمن الحكايات التي كانت ترويها الجدات طريحات الفراش قد ولّى واندثر وأنّ الساعة منذئذ هي الكتابة. لأنّها الشيء الذي يبقى، أمّا الكلمات المنطوقة فتذهب أدراج الرياح مثل الدخان الأسود أو مثل البول الذي تتبوله القطط الضالة في أركان الشوارع.
لم يكن صاحب مشرب (لو كريدي) يحب العبارات ذات الصيغ الجاهزة ولا الأمثال الشعبية من نوعية (إنّ موت رجل عجوز في إفريقيا هو مثل احتراق مكتبة عامة) وعندما يسمع هذه الكليشيهات المعادة يغضب بشدة ويندفع قائلا (هذا يتوقف على عن أيّ عجوز نتحدث، فتوقفوا عن هرائكم. فأنا لم أعد أثق إلّا في الكلمة المكتوبة) ولهذا قررت أنا من أجل خاطر صاحب المشرب أن أبدأ الشخبطة في الكراس بكتابة أشياء متعجلة من وقت لآخر بدون أن أكون على الإطلاق واثقا ممّا سأتمكن من حكيه هنا على المدى البعيد.
ولكنني لا أخفي عليكم أنّ هذا الموضوع بدأ يعجبني منذ بعض الوقت ومع هذا فقد أردت منذ البداية أن أبوح له بحقيقة أنني أحرص على حريتي في الكتابة، أي أنني لن أكون مجبرا في أيّ يوم على كتابة أشياء لا تروقني شخصيا، أي أنني لن أكتب إلّا إذا كنت أريد أن أكتب وإلّا إذا كنت قادرا على الكتابة فليس هناك ما هو أسوأ من أن تكون مدفوعا إلى أداء عمل رغما عن إرادتك. فأنا لست عبدا لصاحب المشرب وأنا في الواقع أكتب كذلك لنفسي أي للذتي الخاصة. فإذا لم أكن قد صرحت له بكل هذا بمنتهى الوضوح لكان قد تخيّل بعض الأشياء مثل أن يكون بمقدوره أن يدفعني إلى العمل دفعا.
لكل هذه الأسباب سالفة الذكر أنا لا أحبّ أن أكون في مكانه في اللحظة التي سيتصفح فيها هذا الكتاب لأوّل مرّة. فأنا لم أحرص في هذا الكتاب على مجاملة أيّ إنسان. وعندما ينتهي من قراءة كلّ هذا غالبا لن أكون زبونا دائما في مشربه مثل ما عليه الحال الآن، بل غالبا سأكون قد سحبت جسدي المتهالك إلى مكان آخر وأكون قد تحولت إلى هيكل عظمي، بعد أن أكون قد سلمت إليه خفية الكتاب الوثيقة، قائلا له (لقد تمّ إنجاز المهمة).
شيماماندا نغوزي أديشي.. نصف شمس صفراء
النيجيرية شيماماندا نغوزي أديشي Chimamanda Ngozi Adichi روائية من الجيل الجديد نالت شهرة واسعة بفضل روايتها «نصف شمس صفراء» التي تم تحويلها إلى شريط سينمائي. تصور الرواية قصة حبّ بين حبيبين من إثنيتين تحكمهما العداوة والصراع القبلي، خلال الحرب الأهلية النيجيرية. سلطت فيها الكاتبة الضوء على ما شهدته نيجيريا من مذابح واقتتال عرقي أثناء حرب انفصال إقليم (بيافرا). تعتبر شيماماندا من أكثر الكاتبات الإفريقيات مناصرة لقضية المرأة:
… «هل تعرف من الذي قتل لومومبا؟» قال السيّد وهو يرفع وجهه عن المجلة. «إنّهم الأمريكان والبلجيك. وليس لكاتانغا علاقة بالأمر».
«نعم، يا صاح» قال (آجوو). كان يودّ أن يستمر السيد في الحديث. ليكون بوسعه الإنصات إلى الصوت الجهوري، وإلى ذلك المزيج الموسيقي من جمل إيبوية مطعمة بكلمات إنجليزية.
… «لومومبا كان رئيس وزراء الكونغو. هل تعلن أين هي الكونغو؟» سأل السيد.
«لا يا صاح».
نهض السيّد مسرعا ودخل المكبة. خوف (آجوو) المرتبك جعل جفنيه ترتعدان. هل سيرسله السيّد إلى بيته لأنّه لا يتكلم الإنجليزية جيّدا، ولأنه أخفى الدجاج في جيبه طوال الليل، ولأنّه لا يعرف تلك الأماكن الغريبة التي ذكرها السيّد؟ عاد السيّد ومعه قطعة كبيرة من الورق فتحها وبسطها على مائدة الطعام، مزيحا الكتب والمجلات. أشار بقلمه. «هذا هو عالمنا، مع أنّ الناس الذين رسموا هذه الخريطة قرروا أن يضعوا أرضهم فوق أرضنا. لا فوق ولا تحت هناك، كما ترى». أمسك السيّد الورقة وأعاد لفّها بحيث لمس طرفها الطرف الآخر، تاركا فراغا بينهما. «عالمنا مستدير كرويّ، لا بداية له ولا نهاية. «ني نيا»، هذه كلها مياه، البحار والمحيطات، وهنا أوروبا وهنا قارتنا، والكونغو في منتصفها. في أقصى الأعلى هنا توجد نيجيريا، و«نسوكا» هنا، في الشرق الجنوبي، حيث نحن الآن». دقّ بقلمه.
«نعم يا صاح».
«هل ذهبت إلى المدرسة؟»
«حتّى الصف الثاني، يا صاح. لكنني أتعلم كلّ شيء بسرعة».
«الصف الثاني؟ منذ متى؟»
«منذ عدة سنوات الآن، يا صاح. لكنني أتعلّم كل شيء بسرعة كبيرة !»
«وهل توقفت عن المدرسة؟»
«كسد محصول أبي، يا صاح».
أومأ السيّد برأسه ببطء. «ولماذا لم يجد أبوك شخصا يقترض منه رسوم مدرستك؟
«كان على أبيك أن يقترض !» زمجر السيّد، ثم قال بالإنجليزية: «التعليم أولى الأولويات ! كيف نقاوم الاستغلال إذا لم نمتلك أدوات إدراك الاستغلال؟»
«أجل، يا صاح». أومأ (آجوو) بقوة. كان قد قرر أن يبدو يقظا بقدر ما يستطيع، بسبب هذا البريق الشرس الذي بدا في عيني السيد.
«سوف أدرجك في المدرسة الابتدائية». قال السيّد وهو ما زال يدقّ على قطعة الورق بقلمه.
كانت العمة قد أخبرت (آجوو) أنّه إذا خدم جيّدا لأعوام قليلة، فسوف يرسله السيّد إلى مدرسة التجارة حيث يتعلم الآلة الكاتبة والاختزال. ذكرت المدرسة الابتدائية الخاصة بالأساتذة، لكن فقط لتخبره أنّها من أجل أطفال المعلمين، الذين يلبسون الزي الأزرق والجوارب البيضاء ذات الزخارف الكثيرة والمزينة بشرائط حتى ليتعجب المرء كيف يُهدر كل هذا الوقت لزخرفة مجرد جورب.
«نعم، يا صاح». قال. «شكرا صاح».
أتوقع أن تكون الأكبر عمرا في فصلك، مفترض أن تكون في الصف الثالث الآن». قال السيّد. والسبيل الوحيد لتكسب احترامهم هو أن تكون الأفضل. هل تفهم؟»
«نعم، يا صاح».
«اجلس يا رجلي الطيب».
اختار (آجوو) المقعد الأبعد عن السيد، على نحو أخرق جلس وقدماه ملتصقان معا. كان يفضل الوقوف.
«هناك إجابتان على الأشياء التي سوف يعلمونها لك عن وطنك: إجابة حقيقية وإجابة سوف تجيب بها لكي تنجح. يجب أن تقرأ الكتب لتتعلم الإجابتين كلتيهما. سوف أعطيك الكتب، كتبا ممتازة». توقف السيد ليرتشف الشاي. «سوف يعلمونك أنّ رجلا أبيض يدعى مانغو بارك اكتشف نهر النيجر. هذا هراء. فشعبنا يصطاد من نهر النيجر منذ زمن بعيد قبل أن يولد الجدّ الأكبر لمانغو بارك. لكن في الامتحان، اكتب أنّه كان مانغو بارك.
«نعم يا صاح». كان (آجوو) يتمنى لو لم يكن هذا المدعو مانغو بارك قد ضايق السيّد هكذا
علي شلش.. الأدب الإفريقي
… تربّى هذا الشعر (الإفريقي) كلّه بعهديه في كنف الواقع الإفريقي المتغير. ولكنه تربّى أيضا، من حيث الشكل إلى حد كبير، في كنف الشعر الأوروبي مختلف مذاهبه وتياراته. ولكنه لم ينشئ في الحقيقة أنماطا واضحة محددة من الرومانسية، والكلاسيكية، والواقعية، والرمزية، والسريالية، حتى عند الشاعر الواحد… ولكن، هل يمكن أن نستخلص ملامح وسمات خاصة يتميز بها هذا الشعر المتعدد اللغة؟
قد نعد من هذه الملامح والسمات ارتباطه بالبيئة، وتأثره بالسيطرة الاستعمارية ومخلفاتها، وتعلق بعضه –على الأقل- بالزنوجة بوعي أو بغير وعي. ولكن هذه ملامح وسمات مزدوجة الدور، لأن البيئة والسيطرة الاستعمارية ومخلفاتها، والزنوجة، مؤثرات وموضوعات في آن واحد، ولا ينفرد بها الشعر الإفريقي وحده، لأنها مؤثرات وموضوعات عامة. وقد حاول كثيرون من الباحثين أن يحددوا لهذا الشعر ملامح وسمات خاصة. وغالى بعضهم مثل جان بول سارتر في تقديرها وتعميمها… فقد كتب في تقديمه لمنتخبات ليوبولد سدار سنغور للشعر الإفريقي، أنّ الشاعر الإفريقي أشبه بالرسول أو النبي بالمعنى الإغريقي للكلمة، أي أنه صاحب رسالة، ومعلم يهدي قومه ويبصرهم بحالهم وواجبهم. كما ذكر أن الشعر الإفريقي هو الشعر الثوري الوحيد في عصرنا، وإذا صحت الصفة الأولى، فإنما تصح على ما يسمى الشعر التقليدي القديم، الذي اختزنته الحوافظ ولم يجد من يسجله، تماما مثلما كان الشعر العربي القديم ديوان العرب، أي سجل ثقافتهم بالمعنى الواسع للثقافة. وفي ذلك لا يتفاضل الشعر الإغريقي والعربي والإفريقي. أما الشعر المكتوب باللغات الأوروبية في إفريقيا فهو قليل من كثير ما زلنا نجهله. وإذا كان شاعر عهد السيطرة الاستعمارية ضحى، كما رأينا، بذاتيته، ونذر نفسه لقضية تحرير القارة، فلم يكن شاعر عهد الحرية والاستقلال على هذا النحو من الإنكار لذاته، وواجهته بخيارات محدودة أهمها تركه لغة أمه، إلى لغته الأوروبية التي لا يقرؤها ولا يفهمها السواد الأعظم من قومه. أمّا أنّ شعره هو الثوري الوحيد في عصرنا، فهذا تعميم خطير أقرب إلى المجاملة، وإلّا غمطنا حق شعر الأمم والقارات الأخرى التي كان عليها أن ترزح طويلا تحت نير الاستعمار!
… أين إذن تكمن الخصوصية في هذا الشعر؟
ليس في ثوريته، ولا زنوجيته، ولا عاطفيته، ولا جماعية إلهامه، ولا غير ذلك من صفات نسبية متغيرة، وإنما تكمن خصوصيته في ارتباطه الشديد الواضح بالأرض التي تنتجه، من خلال ارتباط الشعراء أنفسهم بهذه الأرض، والتزامهم بالتعبير عن آلام أهلها وآمالهم. ولابد أن نأخذ الأرض، هنا، بالمعنى الواسع للكلمة الذي يجعلها مهدا لثقافة معينة بالمعنى الأنثربولوجي، أي من حيث كونها حصيلة طرق الإنتاج، والتقاليد، والقيم، ورؤية الكون، وأساليب التعامل والتفاهم. وبغير فهم هذه الثقافة، بمعناها الشامل والمركب هذا، يصعب فهم حاصلها من الشعر، حتى إذا جاء بلغة أجنبية كما هي الحال هنا. فمن الواضح أنّ الثقافات الأوروبية الثلاث ولغاتها، لم تقتلع الشعراء الأفارقة من ثقافتهم المحلية، بل زادتهم تعلقا وانغماسا فيها. ولعل أبرز الأمثلة على هذا الارتباط الوثيق بالأرض والثقافة المحلية شعر سنغور في الفرنسية، وشعر شوينكا في الإنجليزية… وهذه كلها، وغيرها، مظاهر لشدة ارتباط هذا الشعر بأرضه ووطنه، وثقافته المحلية. وبغير إدراك هذا المفهوم الأساسي يفقد أهم ملامحه وسماته المميزة، ويستعصي على الفهم والترجمة. وبهذه الخصوصية يتفرد على اللغات الأوروبية التي ظهر فيها. وإن كان، في أعلى نماذجه، يظل شعرا للخاصة، سواء من الأوروبيين الذين يتطلب منهم خلفية ثقافية خاصة، أو من الإفريقيين الذين يتطلب منهم معرفة لغات الأوروبيين على الأقل، وكلاهما مطلب عسير في الحقيقة، مع غياب الوعي بإفريقيا خارجها، وانتشار الأمية داخلها.
لقد قاد الشعر المكتوب بالفرنسية حركة الشعر الإفريقي في اللغات الأوروبية الثلاث طوال عقدين من الزمان على الأقل (الأربعينيات والخمسينيات)، مع أنّه ظهر متأخرا عن الشعر المكتوب بالإنجليزية والبرتغالية. وفي أوائل الستينيات هبّت رياح الحرية والاستقلال، وانتقلت القيادة أو الإمارة إلى الإنجليزية. أمّا البرتغالية فلم يحن دورها بعد، في ما يبدو. وربما يحين هذا الدور حين يتخلص الشعراء الذين يكتبون بها من حمية القتال، وضغوط المقاومة، ومطالب التعبير الفوري والمباشر.
وأيّا ما كان ماضي هذا الشعر كله، وأيّا ما كان مستقبله، فهو شعر ملتزم كما رأينا، ذو رسالة بحكم ما أحاط نشأته من ظروف موجبة للالتزام وحمل الرسالة، وبحكم هذه الظروف أيضا كان شعر مقاومة وثورة وتمرد، وتعلق بالأرض الأم. وما زال على هذه الحال، وربما سيظل كذلك إلى أمد بعيد.
كمال أخلاقي.. هسيس السافانا.. مختارات من الشعر الإفريقي
الأسماء الشعرية المدرجة ضمن هذه المختارات تعبّر عن تلك الروح الصافية، وعن نبض الأشواق الحارة التي تزخر بها الشعرية الإفريقية. هذه القارة الشاسعة التي ارتبطت في وجداننا بالصحراء الممتدة وبالغابات الشاسعة، كانت دائما وما تزال تخفي خلف ظلال أشجارها غابة أخرى عذراء من الشعر الطازج والنقي، نقاء هواء قارة شعرية بامتياز، بالرغم من تعرضها لإجحاف ممنهج بين تيارين يحاول كلّ واحد منهما الانتصار لمنظومته اللغوية، وأقصد الفرانكفونية والأنكلوساكسونية هذا بالإضافة إلى انعكاسات واضحة للمدرسة الزنجية التي بالرغم من أهميتها وريادتها في التعريف بالأدب الإفريقي ودفعه نحو الأضواء إلّا أنها في الوقت ذاته أسهمت في تعطيل حركية المشهد الشعري في شموليته، الشيء الذي أخفى عنّا مجموعة من الأصوات والتجارب المهمة التي تنتصر للشعر ولقيمه الإنسانية من دون أية نزعة أيديولوجية. قد تصنف الشعراء إلى قبائل، وأبواق في أسواق عالمية غايتها التحكم في الثروات المادية والفكرية والفنية لواحدة من أغنى القارات وأكثرها زخما وحيوية وجمالا، لولا ما تمارسه الدول الكبرى من نهب واستعمار واستنزاف للإنسان الإفريقي ولخيراته.
الشعر الإفريقي شعر طافح بالحياة، يستمد حرارته من الأرض وهو خزّان هائل من التعابير الشفهية والمجازات الأصيلة التي يصعب ترجمتها أو بالأحرى نقلها من فضاء لغوي ملتبس ومتداخل إلى فضاء لغوي مغاير له قوالبه الصارمة والمحددة في مستويات إيقاعية وتركيبية ودلالية مختلفة.
إنّهم شعراء صحراء شاسعة وشعراء أدغال لا تحدّ، وسماؤهم ناصعة يحملون شموس الحرية في كلماتهم ويجوبون الفيافي ليلا حاملين قلوبهم قرابين محبة مقدسة لقارة أنهكتها الحروب، ودمرها الاستعمار، ومزّقها الفقر والحرمان. لذا ترتفع أصواتهم حادة ويندلق حزنهم على الورق، كما يسيح الدم بين القصائد حاملا مباهج الماء إلى واحاته الأولى.
عبد الرحمن وابيري
Abdourahman Waberi شاعر من جيبوتي ولد سنة 1956 درس بفرنسا حيث حصل على دبلوم الدراسات العليا في الأدب الإنجليزي وخصص بحثه في الدكتوراه في أعمال الروائي الصومالي نور الدين فرح… اهتم بالنقد التاريخي لأدب جنوب الصحراء.
الدرس
لقد تعلمنا الدرس
قال:
اخفض رأسك وستشبه بدرا
ستشبه البدر الذي
لا يراه الناس
إلا عندما ينعكس على صفحة ماء
ولا تكن متكبرا مثل دخان
يتصاعد في السماء
إنّه مجرّد
مادة
من
الأرض.
برنارد داديه
Bernard Dadie شاعر وروائي ومسرحي من الكوت ديفوار ولد سنة 1916 شارك في الحركة الإيفوارية المطالبة بالاستقلال عن فرنسا، من أشهر قصائده (أشكرك يا إلهي) و(جفّفي دموعك، إفريقيا).
أشكرك يا إلهي
أشكرك يا إلهي لأنك خلقتني أسود
الأبيض لونٌ للمناسبات
الأسود لونٌ لكل الأيام.
منذ فجر الزمن وأنا أحمل العالم
وفي الليل، ضحكي على العالم هو الذي يصنع النهار…
محمود امسعايدي
ولد الشاعر محمود امسعايدي Mahamoud M’Saidié في جزر القمر سنة 1966، من بين أعماله: لحن النجوم، وتسمى إعصار، وسفر أول…
سيدتي
سيدتي
لقد طلبوا مني أن أدلي لهم باسمي الحقيقي
قولي لهم بأن عمودي الفقري أسمر
وبأنه مشبّع بالملح أكثر.
قولي لهم بأنني أملك مفاتيح كل الأبواب
وكل البحيرات
وبأن رائحة أمعائي هي نفسها رائحة
المرجان المنسّم بالمهاوي .
سيدتي
قولي لهم بأن حياتي ترتدي قشور الماء
وبأن نظرتي أخذت لون بركان يستيقظ .
سيدتي
سيدتي
قولي لهم بأن ألم الماء منقوش في عروقي
عروقي هي التي أجرّها خلفي.
سوزان تانيلا بوني
Suzanne Tanella Boni شاعرة من الكوت ديفوار وكاتبة وأستاذة جامعية. ولدت بأبيدجان سنة 1945 وترأست اتحاد كتاب الكوت ديفوار بين عامي 1991 و1997 وهي من منظمي المهرجان الدولي للشعر في أبيدجان.
كرة كريستال
كرة كريستال
على سرير في جبل
أحلم واقفة
لكنني دائما أتمسك
لي جناحان
في المتاهة
هنا
حيث لا أحد يؤمن بأي شيء
تتكدس نفايات كريهة
في القمامة
بلا قانون وبلا إيمان
إنه مكان الغريزة فقط
مكان فراغ الفعل
المكان الذي يذهب إلى انحرافه
بلا قانون وبلا إيمان
كرة كريستال
على سرير في جبل
والراعي الوحيد هو دائما
أضحوكة الجماعة .
مازيسي كونني
MAZISI KUNENE شاعر من جنوب إفريقيا (1930-2006) بدأ في دراسة أدب الزولو في جامعة ناتال، ونال شهادة الدكتوراه في الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن. من أهم أعماله: إمبراطور شاكا العظيم…
نحن رعاة النجوم
نحن رعاة النجوم
في مكان ما
يحلم بنا الحلم
شامخا فوق الجبال يقف
وينثر ناره على الشمس.
***
الآن صرنا نطلق سيقاننا للريح
نذهب بعيدا
لنحلق مع النسر
هذا النسر الذي ينشر أجنحته في المدى
يوقظ حلما آخر
حلما أعمى
***
هكذا صرنا نلتقي بكل الأجيال
هم مثلنا يحلمون في أحلامهم
يرحلون وفي طريقهم
سيستيقظون هاتفين :
وسط هذا الخراب
أحد ما
في مكان ما
يحلم بنا.
برناديت داوو سانو
BERNADETTE SANOU شاعرة من بوركينا فاسو، ولدت في باماكو سنة 1952. تعمل أستاذة ومهتمة بالشأن السياسي في بلادها، من أعمالها: عروق الآلام، وعطش وشمس، وجواهر…
لو فقط
لو فقط، لا يتعبكم صوتي
أشعاري
ابحثوا عنها
هناك
***
بعيدا عن اللعب بالكلمات العالمة
بعيدا عن الصورة الأشد قوة
حتى لو وجدت
ابحثوا عن أشعاري
في السوق المركزي
في الشارع
وفي العيون المتعبة
عيون الطفل الجائع
لكن بالضرورة وقبل كل شيء
لو فقط صوتي لا يتعبكم
أبدا.
جورجي ريبيلو
Jorge Rebelo شاعر ومحام وصحافي من الموزمبيق، ولد سنة 1940، كان من أشهر ثوار بلده الذين ساهموا في تحرير بلادهم، ويحظى بمكانة خاصة لدى الشعب الموزمبيقي ومثقفيه.
أخي
أخي
ليس هو من ولدته أمي.
أخي هو من كبرت وإياه
في الثورة
هو الذي
ولد في عالم معاكس
لا ينتمي إلى شمس،
لا ينتمي إلى أرض
لا ينتمي إلى قُوته،
زوجته
لا ينتمي إليها.
***
أخي
هو الذي لا يرضخ أبدا
ولا يستسلم أبدا.
هو الذي في وجهتنا الحرة
يشرب معي اليوم، من ماء النهر ذاته،
ينام تحت سماء واحدة معي،
يغني أناشيد الحرب معي.
***
أخي
هو الذي
ينسى نفسه
للشعب تنتمي حياته.
***
أخي
هو هذا الذي
يحارب
بجانبي.
وارسان شاير
Warson Shire شاعرة ومناضلة نسائية صومالية ولدت سنة 1988 من أشهر أعمالها: رجالنا لا يؤمنون بنا، ألقن أمّي درس الولادة.
الديار
لا أحد يرحل عن دياره
إلّا إذا أصبحت الديار في فم قرش
لا تركض في اتّجاه الحدود
إلّا إذا ركضت المدينة أيضا
برفقة الجيران الذين يركضون أسرع منك
برفقة الطفل الذي كنت ترافقه إلى المدرسة
الطفل الذي قبّلكِ وأدهشك حين أمسك بالسلاح
الطفل الذي حمل سلاحا أكبر من جسمه
خلف المصنع القديم.
لا ترحل من بيتك إذا ما زال ممكنا البقاء فيه
إذا لم تطاردك النيران تحت قدميك
والدم الساخن في بطنك
هي أشياء لا يمكن التفكير فيها إلّا عندما يوضع السكين
على رقبتك
ورغم ذلك تضع النشيد الوطني في صوتك
حين يكون عليك أن تمزق جواز سفرك في مرحاض المطار
وأنت تجهش بالبكاء عند اقتلاع كل ورقة
عليك أن تفهم بأن لا أحد سيقذف بأطفاله في قارب
إذا لم يكن الماء أكثر أمانا من اليابسة
لا أحد يحرق أصابعه بين عربات القطارات
لا أحد يقضي أيامه ولياليه يأكل ورق الصحيفة في أمعاء
شاحنة
إلّا إذا كانت المسافة أطول من السفر.
***
لا أحد يبيت تحت شباك الحديد
لا أحد يريد الهزيمة
مقيّدا بالشفقة
لا أحد يختار مخيمات اللاجئين أو السجن
إلّا إذا كان السجن أكثر أمانا من مدينة تحترق
إلّا إذا كان حارس ليلي واحد يكفي كأنّه حشدُ
رجالٍ يشبهون أباك
لا أحد سيعيش هذا ولا أحد سيتحمل
لا أحد يملك هذا الجلَدَ الصلب.
***
عودوا إلى دياركم أيّها السود
أيّها اللاجئون
المهاجرون المتسخون
طالبو اللجوء
الذين يشربون دم بلادنا
إنّهم غرباء ومتوحشون
لقد أفسدوا بلدهم ويريدون إفساد بلادنا.
***
كيف لهذه الكلمات والنظرات الخبيثة
أن تخترق ظهرك
ربما لأنها ألطف من أطراف منزوعة
ومن كتيبة تحوم حول رجليك
أو لأنّ هذه الشتائم أسهل بكثير
كي تمضغها مثل عظم في قطعة خبز
لأن لك جسد طفل.
***
أريد أن أعود إلى الديار
لكن بيتي مثل فم قِرْش
لأنّه مثل فوهة مسدس
ولا أحد يرحل عن بيته
إلّا إذا طرده إلى الساحل
إلّا إذا قال لساقيك اهربا بعيدا
واترك ثيابك خلفك
واذرع الصحراء
واعبر المحيطات
غريقا
طريدا
جائعا
متسولا
انس فخرك
حياتك أهمّ
لا أحد يرحل عن دياره
حتّى يصير البيت هذا الصوت الصغير
داخل أذنه.
***
ارحل
انج بنفسك، وقل:
لا أعرف ماذا سأصير،
لكنني في أيّ مكانٍ
سأكون أكثر أمانا.