هذه هي التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة
تواجه حكومة سعد الدين العثماني في صيغتها الجديدة، العديد من الرهانات والانتظارات، بعد الخطاب الملكي القوي والصريح بمناسبة الذكرى العشرين لعيد العرش، والذي أعلن من خلاله الملك عن تدشين مرحلة جديدة بعد 20 سنة من الحكم، ورسم ملامح هذه المرحلة الهادفة إلى تحقيق تنمية بشرية شاملة ومحاربة الفقر والفوارق الاجتماعية، من خلال قرار تشكيل لجنة ستنكب على إعداد النموذج التنموي الجديد، كما دعا الحكومة للشروع في إعداد جيل جديد من المخططات القطاعية الكبرى، تقوم على التكامل والانسجام، من شأنها أن تشكل عمادا لهذا النموذج في صيغته الجديدة.
ترأس الملك محمد السادس، يوم الجمعة الماضي، افتتاح السنة الرابعة من الولاية التشريعية الحالية، وهو بمثابة تدشين رسمي للدخول السياسي لهذه السنة. وخلافا للسنوات السابقة، ستكون هذه الدورة حاسمة في رسم المستقبل الاقتصادي والسياسي للمغرب، نظرا لأهمية القوانين والملفات التي ستعرض على غرفتي البرلمان، أبرزها قانون المالية الذي يأتي في ظل استمرار صعوبة الظرفية الاقتصادية، حيث رسم الملك محمد السادس خارطة الطريق لعمل الحكومة والبرلمان، من خلال تحديد مجموعة من الأولويات والقوانين التي يجب تفعيلها خلال هذه السنة. ومنح الملك للحكومة آجالا محددة لبلورة تصوراتها ومقترحاتها حول القضايا ذات الأهمية، ومنها على الخصوص إحداث اللجنة الخاصة بمراجعة النموذج التنموي الجديد، التي سيقوم بتنصيبها في الدخول الحالي. وأوضح الملك أن تركيبة هذه اللجنة ستشمل مختلف التخصصات المعرفية والروافد الفكرية، من كفاءات وطنية في القطاعين العام والخاص.
محاربة الفقر والحرمان المادي
أكد الملك محمد السادس، في خطاب العرش، أنه يتألم شخصيا ما دامت فئة من المغاربة لا زالت تعاني الفقر والحرمان المادي، رغم المنجزات والتقدم المحرز على عدة مستويات. وقال الملك: «يعلم الله أنني أتألم شخصيا، ما دامت فئة من المغاربة، ولو أصبحت واحدا في المائة، تعيش في ظروف صعبة من الفقر أو الحاجة»، وكما قال في خطاب السنة الماضية، أكد الملك أنه لن يهدأ له بال، حتى تتم معالجة كل المعيقات، وإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل التنموية والاجتماعية، مبرزا الأهمية الخاصة التي تم إيلاؤها لبرامج التنمية البشرية، وللنهوض بالسياسات الاجتماعية من أجل التجاوب مع الانشغالات الملحة للمغاربة. وأوضح الملك أن هذا الهدف يفرض توفر النظرة الشمولية، ووجود الكفاءات المؤهلة، والشروط اللازمة لإنجاز المشاريع المبرمجة، مثمنا جلالته النقلة النوعية المحققة على مستوى البنيات التحتية: الطرق السيارة، القطار فائق السرعة، الموانئ الكبرى، بالإضافة إلى الطاقات المتجددة وتأهيل المدن والمجال الحضري، كما قال الملك: «لقد قطعنا خطوات مشهودة في مسار ترسيخ الحقوق والحريات وتوطيد الممارسة الديمقراطية السليمة»، مضيفا أن «البنيات التحتية والإصلاحات المؤسسية، على أهميتها، لا تكفي وحدها».
وبالنسبة للملك، فإنه من منطلق الوضوح والموضوعية، فإن ما يؤثر على هذه الحصيلة الإيجابية هو أن آثار هذا التقدم وهذه المنجزات لم تشمل بما يكفي، مع الأسف، جميع فئات المجتمع المغربي، مشيرا إلى أن بعض المواطنين قد لا يلمسون مباشرة تأثير هذه المنجزات في تحسين ظروف عيشهم وتلبية حاجياتهم اليومية، خاصة في مجال الخدمات الاجتماعية الأساسية، والحد من الفوارق الاجتماعية وتعزيز الطبقة الوسطى.
جيل جديد من المخططات القطاعية
دعا الملك محمد السادس الحكومة إلى الشروع في إعداد جيل جديد من المخططات القطاعية الكبرى، تقوم على التكامل والانسجام، من شأنها أن تشكل عمادا للنموذج التنموي، في صيغته الجديدة، مشيرا إلى أن تجديد النموذج التنموي الوطني ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو مدخل لمرحلة جديدة قوامها «المسؤولية» و«الإقلاع الشامل»، والتي نريد أن نقود المغرب لدخولها، مبرزا أنه «يظل طموحنا الأسمى هو أن يلتحق المغرب بركب الدول المتقدمة». وأبرز الملك أن المرحلة الجديدة، التي نحن مقبلون عليها، حافلة أيضا بالعديد من التحديات والرهانات الداخلية والخارجية، التي يتعين كسبها، مشيرا إلى أن الأمر يتعلق أولا برهان توطيد الثقة والمكتسبات، وثقة المواطنين في ما بينهم، وفي المؤسسات الوطنية، التي تجمعهم، والإيمان في مستقبل أفضل، ويتعلق الأمر أيضا، يضيف الملك، برهان عدم الانغلاق على الذات، خاصة في بعض الميادين التي تحتاج للانفتاح على الخبرات والتجارب العالمية، معتبرا أن الانفتاح يشكل عمادا للتقدم الاقتصادي والتنموي بما يتيحه من استفادة من فرص الرفع من تنافسية المقاولات والفاعلين المغاربة، وهو، أيضا، الدافع لتحسين جودة ومردودية الخدمات والمرافق، وتوفير المزيد من فرص الشغل.
وتطرق الملك، أيضا، لرهان التسريع الاقتصادي والنجاعة المؤسسية، مشددا جلالته على أن الرهان، أيضا، هو بناء اقتصاد قوي وتنافسي، من خلال مواصلة تحفيز المبادرة الخاصة، وإطلاق برامج جديدة من الاستثمار المنتج، وخلق المزيد من فرص الشغل. وفي السياق ذاته، أكد الملك على أهمية الرفع من نجاعة المؤسسات، وتغيير العقليات لدى المسؤولين، داعيا القطاع العام إلى القيام، دون تأخير، بثورة حقيقية ثلاثية الأبعاد تتمثل في التبسيط، والنجاعة والتخليق، وشدد على أنه «قد سبق أن دعوت إلى ضرورة تغيير وتحديث أساليب العمل، والتحلي بالاجتهاد والابتكار في التدبير العمومي»، وخلص إلى ضرورة رفع رهان العدالة الاجتماعية والمجالية لاستكمال بناء مغرب الأمل والمساواة للجميع، حيث لا مكان للتفاوتات الصارخة، ولا للتصرفات المحبطة، ولا لمظاهر الريع وإهدار الوقت والطاقات.
لجنة النموذج التنموي
قرر الملك محمد السادس إحداث اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، التي سيقوم بتنصيبها في الدخول الحالي. وأوضح الملك أن تركيبة هذه اللجنة ستشمل مختلف التخصصات المعرفية، والروافد الفكرية، من كفاءات وطنية في القطاعين العام والخاص، وقال: «لقد أبان نموذجنا التنموي، خلال السنوات الأخيرة، عن عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين، وعلى الحد من الفوارق الاجتماعية، ومن التفاوتات المجالية. وهو ما دفعنا للدعوة لمراجعته وتحيينه». وأضاف الملك: «إنني في الحقيقة، لا أميل شخصيا لإحداث اللجان الخاصة؛ لأنها أحسن طريقة لدى البعض، لدفن الملفات والمشاكل»، مشيرا إلى أن جلالته بادر لإحداثها في بعض القضايا، ذات البعد الوطني. وقال الملك، في هذا الصدد، «لقد حرصنا شخصيا على متابعة أشغالها؛ فكانت نتائجها إيجابية وبناءة». وأبرز الملك أن تركيبة هذه اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي ستشمل «مختلف التخصصات المعرفية، والروافد الفكرية، من كفاءات وطنية في القطاعين العام والخاص، تتوفر فيها معايير الخبرة والتجرد، والقدرة على فهم نبض المجتمع وانتظاراته، واستحضار المصلحة الوطنية العليا». وأكد الملك أن هذه اللجنة «لن تكون بمثابة حكومة ثانية، أو مؤسسة رسمية موازية؛ وإنما هي هيأة استشارية، ومهمتها محددة في الزمن»، وأضاف أنه على هذه اللجنة «أن تأخذ بعين الاعتبار التوجهات الكبرى للإصلاحات التي تم أو سيتم اعتمادها في عدد من القطاعات، كالتعليم والصحة والفلاحة والاستثمار والنظام الضريبي؛ وأن تقدم اقتراحات بشأن تجويدها والرفع من نجاعتها».
وأكد الملك أنه يتعين على هذه اللجنة أن تباشر عملها بكل «تجرد وموضوعية»، وأن ترفع لجلالته «الحقيقة، ولو كانت قاسية أو مؤلمة، وأن تتحلى بالشجاعة والابتكار في اقتراح الحلول»، كما أكد على ضرورة «التحلي بالحزم والإقدام، وبروح المسؤولية العالية، في تنفيذ الخلاصات والتوصيات الوجيهة، التي سيتم اعتمادها، ولو كانت صعبة أو مكلفة».
الحماية الاجتماعية أولوية الأولويات
شدد الملك، في خطاب سابق، على أهمية «السجل الاجتماعي الموحد»، لأنه يشكل بداية واعدة لتحسين مردودية البرامج الاجتماعية، تدريجيا وعلى المدى القريب والمتوسط، وأوضح أنه «نظام وطني لتسجيل الأسر، قصد الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي، على أن يتم تحديد تلك التي تستحق ذلك فعلا، عبر اعتماد معايير دقيقة وموضوعية، وباستعمال التكنولوجيات الحديثة»، وأكد «أن الأمر يتعلق بمشروع اجتماعي استراتيجي وطموح، يهم فئات واسعة من المغاربة. فهو أكبر من أن يعكس مجرد برنامج حكومي لولاية واحدة، أو رؤية قطاع وزاري، أو فاعل حزبي أو سياسي». وأضاف الملك: «إن طموحي للنهوض بالأوضاع الاجتماعية، يفوق بكثير وضع آلية أو برنامج مهما بلغت أهميته». لذا، يضيف الملك، «أدعو الحكومة وجميع الفاعلين المعنيين، للقيام بإعادة هيكلة شاملة وعميقة، للبرامج والسياسات الوطنية، في مجال الدعم والحماية الاجتماعية، وكذا رفع اقتراحات بشأن تقييمها». ومن أجل ذلك، أكد الملك محمد السادس أن الأمر يتطلب اعتماد مقاربة تشاركية، وبعد النظر، والنفس الطويل، والسرعة في التنفيذ أيضا، مع تثمين المكاسب والاستفادة من التجارب الناجحة.
وفي انتظار أن يعطي هذا الإصلاح ثماره كاملة، حث الملك «على اتخاذ مجموعة من التدابير الاجتماعية المرحلية، في انسجام مع إعادة الهيكلة التي نتوخاها»، داعيا الحكومة إلى الانكباب على إعدادها، في أقرب الآجال، وإطلاعه على تقدمها بشكل دوري. وحتى يكون الأثر مباشرا وملموسا، شدد الملك على التركيز على المبادرات المستعجلة في أربعة مجالات: إعطاء دفعة قوية لبرامج دعم التمدرس، ومحاربة الهدر المدرسي، ابتداء من الدخول الدراسي الحالي، بما في ذلك برنامج «تيسير» للدعم المالي للتمدرس، والتعليم الأولي، والنقل المدرسي، والمطاعم المدرسية والداخليات، وإطلاق المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتصحيح الاختلالات التي يعرفها تنفيذ برنامج التغطية الصحية «RAMED»، بموازاة مع إعادة النظر، بشكل جذري، في المنظومة الوطنية للصحة، التي تعرف تفاوتات صارخة، وضعفا في التدبير، ثم الإسراع بإنجاح الحوار الاجتماعي.
مؤشرات مقلقة
دق إدريس جطو، رئيس المجلس الأعلى للحسابات، ناقوس الخطر بخصوص الصعوبات التي تواجه المالية العمومية في ظل تنامي عجز الميزانية وارتفاع المديونية الخارجية التي وصلت إلى مستويات قياسية. وأوضح التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات، أن تنفيذ قانون المالية لسنة 2018 عرف تسجيل عجز في الميزانية بلغ 41.353 مليون درهم، مقابل تقديرات أولية في حدود 33.274 مليون درهم، أي بفارق بلغ 8.079 ملايين درهم، ويعزى ذلك أساسا، حسب التقرير، إلى ارتفاع في النفقات الإجمالية (زائد 2.777 مليون درهم) وانخفاض في منتوج المداخيل العادية (ناقص 2.891 مليون درهم)، وفي الحصيلة الصافية للحسابات الخصوصية للخزينة (ناقص 2.411 مليون درهم). وأشار التقرير إلى أنه مقارنة بالناتج الداخلي الخام، فقد ناهز عجز الميزانية نسبة 3,7% مسجلا ارتفاعا بحوالي0,2 نقطة مئوية مقارنة مع سنة 2017 وتغييرا لمنحاه التنازلي الذي شهده خلال السنوات الفارطة، والتي عرف خلالها انخفاضا من مستوى 6,8 % من الناتج الداخلي الخام سنة 2012 إلى نسبة 3,5 % سنة 2017.
وأكد التقرير أن مالية الدولة تواجه صعوبات أخرى، تتجلى أساسا في عدم التحكم في ارتفاع ديون الخزينة والتي بلغت عند متم 2018 ما قدره 722,6 مليار درهم، بنسبة ارتفاع تناهز 4,4 % مقارنة مع سنة 2017 ، كما تضاعف جاري دين الخزينة أكثر من مرتين ما بين سنتي 2009 و2018 بمعدل ارتفاع سنوي نسبته % 8,6. ولمواجهة هذه الصعوبات، يؤكد التقرير، يتوجب إرساء حكامة جيدة على مستوى كل وظائف الدولة من تخطيط وبرمجة وتنفيذ ومراقبة وتقييم للبرامج والعمليات التي تنجزها الأجهزة العمومية.
وفضح التقرير تلاعب الحكومة بالأرقام والمعطيات، وأشار إلى أنه يتم إعداد التقارير حول تنفيذ ميزانية الدولة بناء على وضعية تكاليف وموارد الخزينة التي تنشرها مديرية الخزينة والمالية الخارجية وكذا النشرة الشهرية لإحصائيات المالية العمومية التي تصدرها الخزينة العامة للمملكة. وسجل المجلس غياب الانسجام على مستوى بعض المعطيات المتعلقة بالتوقعات والإنجازات الواردة في كلا البيانين، ويؤدي غياب هذا الانسجام إلى ضعف مقروئية وصعوبة استغلال المعطيات المتعلقة بميزانية الدولة، خصوصا وأن الفروق المسجلة، والتي تكون في الغالب غير مفسرة، تهم عدة مؤشرات، منها ما هو أساسي للقيام بتحليل سليم لنتائج تنفيذ الميزانية. وعلى سبيل المثال، حدّدت وضعية تكاليف وموارد الخزينة مجموع المداخيل العادية المنجزة خلال سنة 2017 في مبلغ 229.886 مليون درهم مقابل 222.724 مليون درهم تم تسجيلها في التقارير الصادرة عن الخزينة العامة للمملكة، أي بفارق بلغ 7.162 ملايين درهم، كما تم تسجيل الحالة نفسها بالنسبة للرصيد العادي الذي حدد في مبلغ 24.125 مليون درهم على مستوى وضعية تكاليف وموارد الخزينة مقابل مبلغ 15.826 مليون درهم الوارد في النشرة الشهرية لإحصائيات المالية العمومية، أي بفارق 8.299 ملايين درهم.
وخلص التقرير إلى أن مسعى خفض نسبة دين الخزينة على الناتج الداخلي الخام إلى 60 في المائة في أفق سنة 2021، والمحدد ضمن برنامج الحكومة للفترة 2017-2021، يبقى صعب المنال في حال تفاقم العجز واستمرار النهج التصاعدي للمديونية، بالمقابل استمرت تكلفة الدين التي بلغت ذروتها سنة 2013، في التراجع مسجلة سنة 2017، ما مجموعه 127.871 مليون درهم أي بانخفاض قدره 1.105 مليون درهم مقارنة مع سنة 2016 التي سجلت 128.976 مليون درهم. ويعزى هذا الانخفاض أساسا إلى تراجع تكاليف استهلاك أصل الدين التي انخفضت بمبلغ 1.247 مليون درهم مقارنة مع سنة 2016، في حين لم تسجل تكاليف الفوائد تغييرا ملحوظاً، إذ ارتفعت بمبلغ 142 مليون درهم، أي بنسبة 0,5 في المائة مقارنة مع سنة 2016.
الحكومة تواجه تحدي محاربة الفساد
يتزامن الدخول السياسي والاجتماعي لهذه السنة مع صدور تقارير عن مؤسسات دستورية وطنية، تحمل مؤشرات مقلقة حول وضعية الاقتصاد الوطني وكذلك حول تفشي الفساد، ومن أبرزها التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات الذي سلمه الرئيس الأول للمجلس، إدريس جطو، إلى الملك محمد السادس، والذي رصد وجود اختلالات خطيرة في تدبير المال العام. فرغم الأهمية التي تكتسيها هذه التقارير، فإن هناك قصورا في النصوص القانونية المتعلقة بإحالة هذه الملفات على القضاء، وتحريك المتابعة القضائية في حق المتورطين، وكذا محدودية الرقابة التي يمارسها قضاة هاته المحاكم لعدم توفرها على قوة الردع، مما تكرس معه نهب المال العام وسوء التدبير وتدبير الأموال العمومية. وتنضاف هذه التقارير إلى التقارير السوداء التي تصدرها هيئات دستورية أخرى، من قبيل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والمندوبية السامية للتخطيط وبنك المغرب وغيرها، لذلك يبقى التساؤل مشروعا حول مصير هذه التقارير.
ونشر المجلس الأعلى للحسابات تقريره السنوي برسم سنة 2018، والذي يقدم بيانا عن جميع أنشطة المجلس والمجالس الجهوية، تضمن تسجيل العديد من الخروقات المالية والإدارية شابت تسيير مؤسسات وإدارات عمومية وكذلك الجماعات الترابية. وفي ما يخص الاختصاصات القضائية، وفي إطار اختصاص التدقيق والبت في الحسابات المقدمة من طرف المحاسبين العموميين، أصدر المجلس الأعلى للحسابات، بعد القيام بالتدقيق والتحقيق اللازمين وانعقاد جلسات الحكم، 181 قرارا قضائيا، فيما أصدرت المجالس الجهوية للحسابات 1963 حكما. وبخصوص اختصاص التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، فقد عرف هذا الاختصاص الزجري للمحاكم المالية، بعد متابعة النيابة العامة للمعنيين بالأمر وسلوك كل المساطر القضائية المعمول بها، إصدار المجلس الأعلى للحسابات لـ 15 قرارا قضائيا، فيما أصدرت المجالس الجهوية للحسابات 53 حكما في هذا الإطار.
وحسب التقرير، أحالت النيابة العامة لدى المحاكم المالية 114 متابعا على هذه المحاكم في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، كما أحال الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات ثماني (8) قضايا تتعلق بأفعال قد تستوجب عقوبة جنائية على الوكيل العام لدى محكمة النقض، بصفته رئيسا للنيابة العامة، وذلك قصد اتخاذ المتعين بشأنها. وفي ما يخص الاختصاصات غير القضائية، فقد همت مراقبة التسيير وتقييم البرامج العمومية، وهو اختصاص يعد من أهم اختصاصات المحاكم المالية من حيث الموارد المخصصة لممارسته، كما تعد خلاصات التقارير المتمخضة عنه أهم مكون للتقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات.
وأنجز المجلس الأعلى للحسابات، خلال سنة 2018، ما مجموعه 50 مهمة رقابية في هذا الإطار، فيما نفذت المجالس الجهوية للحسابات 224 مهمة، مضيفا أنه تم عرض خلاصات للتقارير الخاصة للمهام الرقابية المذكورة في التقرير السنوي للمجلس مرفوقة بتعقيبات مسؤولي الأجهزة التي خضعت للمراقبة. وهمت هذه المهمات الرقابية، بالنسبة للمجلس الأعلى للحسابات، مهمة حول جاهزية المغرب لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة، وأخرى حول المعطيات الأولية لتنفيذ ميزانية 2017، إضافة إلى إنجاز أربع مهمات تهم القطاع المالي متمثلة في مراقبة تسيير صندوق الإيداع والتدبير، وتسيير فرعين تابعين له (فيبار القابضة وشركة ميدزيد) إضافة إلى الوديع المركزي (Maroclear) . كما عرف ميدان الفلاحة والصيد البحري والمياه والغابات إنجاز خمس مهمات منها 4 مهمات تقييم برامج عمومية، هي مخطط «أليوتيس» وبرنامج توسيع الري وتقييم إنجازات سلسلة الزيتون، وبرنامج تخليف غابات الفلين، تضاف إليها مهمة مراقبة تسيير المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية (ONSSA).
وشهد ميدان الصحة إصدار تسعة تقارير خاصة لتسع مهمات رقابية، خصصت اثنتان لتقييم تدبير التأمين الإجباري الأساسي عن المرض، في حين انصبت مهمة واحدة على مراقبة تدبير الوكالة الوطنية للتأمين الصحي، إضافة إلى مراقبة تسيير ست بنيات استشفائية. أما ميدان التربية والتكوين، فقد عرف إنجاز عشر مهمات خصصت واحدة منها للأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة سوس- ماسة، في حين انصبت تسع مهمات على مؤسسات للتعليم العالي.
وبخصوص ميدان الثقافة والاتصال، فقد شملته أربع مهمات رقابية، تخص اثنتان شركة الإذاعة والتلفزة الوطنية، في حين همت الثالثة شركة «صورياد M 2»، أما المهمة الرابعة فهمت برنامج تشجيع الصناعة السينمائية. وأضاف البلاغ أن ميدان الطاقة والمعادن عرف إنجاز مهمة لمراقبة النشاط المعدني للمكتب الشريف للفوسفاط وأخرى لتقييم تدابير النجاعة الطاقية، مسجلا أن ثلاث مهمات أخرى شملت كلا من الملك العمومي المائي، والمؤسسات السجنية ومركزي تسجيل السيارات بتطوان وطنجة.
وبالنسبة للمجالس الجهوية للحسابات، أنجزت المجالس 224 مهمة رقابية في إطار مراقبة التسيير واستخدام الأموال العمومية من طرف الجمعيات المستفيدة من الدعم العمومي، موضحا أن هذه المهمات الرقابية تتوزع ما بين 204 جماعات، ومهمتين على مستوى مؤسستين عموميتين محليتين، ومهمتين لمراقبة استخدام الأموال العمومية، و14 مراقبة لعقود التدبير المفوض للمرافق العمومية المحلية، ومهمتين تتعلقان بمجموعتين للجماعات.
هكذا رسم الدستور الحدود بين الحكومة والبرلمان
منح الدستور الجديد للبرلمان عدة صلاحيات في مجال الرقابة على العمل الحكومي، كما تم منح المعارضة بالبرلمان وضعية متميزة وحقوقا متعددة، ويبقى الهدف الأساسي من ذلك هو النهوض بالعمل البرلماني، والرفع من جودة القوانين والسياسات العمومية التي يتولى البرلمان تشريعها، ورد الاعتبار للبرلمان كمؤسسة دستورية لازمة لتحقيق الديمقراطية التمثيلية الحقة وليس الشكلية، كما نص الدستور على تنظيم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، على أن «تخصص بالأسبقية جلسة في كل أسبوع لأسئلة أعضاء مجلسي البرلمان و أجوبة الحكومة». والحكومة ملزمة بالجواب عن أسئلة أعضاء البرلمان خلال العشرين يوما الموالية لإحالة السؤال إليها.
وتتعلق هذه الأسئلة الأسبوعية أساسا بالقطاعات الحكومية المختلفة، ويتولى كل وزير أو من ينوب عنه من أعضاء الحكومة، في حال غياب الوزير المعني لسبب ما، تقديم الجواب في جلسة عامة علنية يتم نقلها عبر أمواج الإذاعة والتلفزة العمومية، وذلك بهدف إطلاع الرأي العام الوطني على ما تقوم به كل من الحكومة و البرلمان في مجالي عملهما كل على حدة، أما الأسئلة المتعلقة بالسياسة العامة للحكومة، فالدستور المغربي الجديد ينص في الفقرة الثالثة من المادة 100 على أن «تقدم الأجوبة على الأسئلة المتعلقة بالسياسة العامة من قبل رئيس الحكومة، وتخصص لهذه الأسئلة جلسة واحدة كل شهر، وتقدم الأجوبة عنها أمام المجلس الذي يعنيه الأمر خلال الثلاثين يوما الموالية لإحالة الأسئلة إلى رئيس الحكومة».
ورسم الدستور حدود العلاقة بين المؤسسة التشريعية (البرلمان) والمؤسسة التنفيذية (الحكومة)، وحسب الفصل 101، يعرض رئيس الحكومة أمام البرلمان الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة، إما بمبادرة منه، أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس النواب، أو من أغلبية أعضاء مجلس المستشارين، وتُخصص جلسة سنوية من قبل البرلمان لمناقشة السياسات العمومية وتقييمها، ويمكن للجان المعنية في كلا المجلسين أن تطلب الاستماع إلى مسؤولي الإدارات والمؤسسات والمقاولات العمومية، بحضور الوزراء المعنيين، وتحت مسؤوليتهم، ويمكن لرئيس الحكومة أن يربط، لدى مجلس النواب، مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها بتصويت يمنح الثقة بشأن تصريح يدلي به في موضوع السياسة العامة، أو بشأن نص يطلب الموافقة عليه، ولا يمكن سحب الثقة من الحكومة، أو رفض النص، إلا بالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب، ولا يقع التصويت إلا بعد مضي ثلاثة أيام كاملة على تاريخ طرح مسألة الثقة، ويؤدي سحب الثقة إلى استقالة الحكومة استقالة جماعية.
كما يمكن لرئيس الحكومة حل مجلس النواب، بعد استشارة الملك ورئيس المجلس، ورئيس المحكمة الدستورية، بمرسوم يتخذ في مجلس وزاري، ويقدم رئيس الحكومة أمام مجلس النواب تصريحا يتضمن، بصفة خاصة، دوافع قرار الحل وأهدافه، وكذلك لمجلس النواب أن يعارض في مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها، بالتصويت على ملتمس للرقابة، ولا يقبل هذا الملتمس إلا إذا وقعه على الأقل خُمس الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس، ولا تصح الموافقة على ملتمس الرقابة من قبل مجلس النواب، إلا بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم، ولا يقع التصويت إلا بعد مضي ثلاثة أيام كاملة على إيداع الملتمس؛ وتؤدي الموافقة على ملتمس الرقابة إلى استقالة الحكومة استقالة جماعية، وإذا وقعت موافقة مجلس النواب على ملتمس الرقابة، فلا يقبل بعد ذلك تقديم أي ملتمس رقابة أمامه، طيلة سنة.
ولمجلس المستشارين أن يُسائل الحكومة بواسطة ملتمس يوقعه على الأقل خُمس أعضائه؛ ولا يقع التصويت عليه، بعد مضي ثلاثة أيام كاملة على إيداعه، إلا بالأغلبية المطلقة لأعضاء هذا المجلس، ويبعث رئيس مجلس المستشارين، على الفور، بنص ملتمس المساءلة إلى رئيس الحكومة؛ ولهذا الأخير أجل ستة أيام ليعرض أمام هذا المجلس جواب الحكومة، يتلوه نقاش لا يعقبه تصويت.
قوانين «محتجزة» داخل البرلمان
حسب أجندة اللجان البرلمانية، هناك حاليا 154 مشروع نص قانوني معروض على اللجان، بعضها يعود إلى سنة 2012، دون إخضاع هذه القوانين للمناقشة والدراسة، ما جعل بعضها يدخل طي النسيان، بعدما تم تجميدها فوق الرفوف، بينها مشاريع قوانين عرضتها الحكومة على البرلمان بعد المصادقة عليها داخل المجلس الحكومي، ومقترحات قوانين قدمتها مختلف الفرق البرلمانية، وأمام غزارة هذه القوانين، سيكون مكتب المجلس، واللجان البرلمانية الدائمة أمام تحدي كبير، يتعلق بإخراج هذه القوانين من «ثلاجة» التشريع وإدخالها إلى المسطرة التشريعية.
ومع دخول الولاية التشريعية سنتها الرابعة، يواجه كل من البرلمان والحكومة تحدي إخراج مجموعة من النصوص القانونية، لأن هناك العشرات من مشاريع ومقترحات القوانين مازالت «محتجزة» داخل اللجان البرلمانية الدائمة، وهناك أكثر من 40 مشروع قانون و110 مقترحات موضوعة برفوف البرلمان دون استكمال مساطرها التشريعية، بالإضافة إلى النصوص المتبقية من الولاية السابقة، والتي يتجاوز عددها حوالي 200 مشروع ومقترح قانون، منها قوانين مرت عليها أزيد من خمس سنوات دون إخضاع هذه القوانين للمناقشة والدراسة، وفق ما تنص عليه المسطرة التشريعية قبل المصادقة عليها، ما جعل بعضها يدخل طي النسيان، من بينها قوانين مثيرة للجدل، ما يطرح أسئلة حول مصير هذه القوانين.
وهناك لوبيات تتحرك داخل غرفتي البرلمان المغربي للدفاع عن مصالحها الشخصية، ففي الوقت الذي توجد قوانين لم يقدر المشرع على تعديلها، وهناك العديد من مقترحات القوانين ومشاريع القوانين التي بقيت منذ سنوات مجرد حبر على ورق داخل رفوف مكاتب غرفتي البرلمان أو القطاعات الحكومية المعنية، مقابل ذلك هناك قوانين تتم دراستها والمصادقة عليها في وقت قياسي، لأنه بكل بساطة، تكون وراءها جماعات ضغط تتحكم في دواليب الآلية التشريعية من خارج مؤسسة البرلمان، كما تتحكم في صنع القوانين التي تخدم مصالحها وتعرقل القوانين التي تمس مصالحها أو تخدم مصالح منافسيها، ويتوفر أصحاب المصالح الاقتصادية داخل البرلمان على كل الإمكانيات والآليات والوسائل لعرقلة كل مبادرة يمكن أن تؤثر على مصالحهم، وتتحرك على شكل جمعيات مهنية أو نقابات، ويستعملون كافة وسائل الضغط، بما فيها استمالة البرلمانيين.
البرلمان والحكومة.. رهانات تشريعية ثقيلة خلال الدورة الحالية
افتتح الملك محمد السادس، يوم الجمعة الماضي الدورة الخريفية للبرلمان بغرفتيه، في بداية السنة التشريعية التي تأتي بعيد التعديل الحكومي الذي هم عددا من القطاعات وقلص عدد وزراء حكومة سعد الدين العثماني إلى 24 وزيرا، وفي هذا السياق قال عبد الحفيظ أدمينو، أستاذ القانون العام بجامعة محمد الخامس بالرباط، إن «أهم الملفات المطروحة على المؤسسة التشريعية خلال الدورة الخريفية الحالية، هو مشروع قانون المالية، الذي يجب أن يستجيب للتوجيهات التي أعلن عنها الملك في خطابي العرش وثورة الملك والشعب»، مشددا على أن «البرلمان مطالب بأن يجعل من مشروع قانون المالية آلية قادرة على ترجمة التوجه نحو الجهوية المتقدمة واللاتمركز الإداري»، مضيفا أن الدورة التشريعية الحالية ينتظر أن تعرف «إنهاء القوانين المتعلقة بالتربية والتكوين وعلى رأسها التنزيل للقانون الإطار، والخطة الاستراتيجية التي سبق وقدمها الوزير الوصي أمام الملك».
في السياق ذاته، أشار أدمينو إلى أن مشاريع القوانين الموضوعة لدى البرلمان تتطلب اعتمادات مالية مهمة من أجل تفعيلها «وهذا هو الرهان الموضوع على قانون المالية لسنة 2020 ومدى قدرته على الاجابة على هذا الجانب»، مبينا أنه من الانتظارات المطروحة أمام الدورة البرلمانية الحالية «استكمال الورش التشريعي، خصوصا القانون التنظيمي المتعلق بالفصل 133 المرتبط بالدفع بعدم الدستورية، والذي كان قد قطع أشواطا قبل أن يتعثر مساره التشريعي، بالإضافة إلى مشروع القانون التنظيمي للإضراب، وهو بدوره من القوانين المهمة، وهو من مخلفات الولاية السابقة»، مضيفا أن من رهانات الولاية التشريعية الحالية «تنفيذ البرنامج الحكومي بناء على الهندسة الحكومية الحالية، على اعتبار أن الهندسة الحكومية السابقة كانت تعيق عمل الحكومة في عدد من القطاعات، أما الهندسة الجديدة فقد ضمت عددا من القطاعات التي كانت في حاجة للتنسيق والالتقائية وقد تم تجميعها في وزارة واحدة».
وأشار أدمينو إلى أنه من بين التحديات التي تواجه المؤسسة التشريعية والحكومة في هذه الولاية هو «إحداث القوانين المتعلقة بالمنظومة الانتخابية، إذ لا يمكن تكرار عدد من التجارب التي تم تسجيلها في الولاية السابقة وانتظار اللحظات الأخيرة قبل الانتخابات وإغراق البرلمان بعدد من النصوص التي لا يتم اتخاذ الوقت الكافي من أجل الاشتغال عليها»، مبينا أنه «على الحكومة أخذ الوقت الكافي من أجل الاشتغال على التعديلات التي تهم المنظومة الانتخابية من قبيل مدونة الانتخابات وتعديلات قوانين الجماعات الترابية، وهي المشاريع التي يجب أن تشتغل عليها الحكومة بشكل مبكر وتفتح النقاش بين البرلمانين خارج ضغط الانتخابات»، كما يرى أدمينو أن الحكومة والبرلمان مطالبان بالاشتغال على تعزيز التنسيق والتجانس، حيث إن «عددا من مشاريع القوانين التي كانت في الولاية السابقة أظهرت عدم التجانس الحكومي وأيضا لدى أحزاب الأغلبية البرلمانية، كما هو الشأن في الخلاف الذي وقع حول القانون الإطار للتربية والتكوين، والمفروض اليوم أن تستحضر الهيكلة الجديدة للحكومة جانب التجانس السياسي بين مكوناتها، لتسريع وتيرة العمل الحكومي والعمل التشريعي».
ومن جانب آخر، اعتبر أدمينو أن «الأجندة السياسية للعمل الحكومي والتشريعي للبرلمان ستكونان مرتبطتان بشكل كبير بالمصادقة على قانون المالية وهو الأمر الذي لن يتم إلا في دجنبر القادم»، مضيفا أن «مشروع قانون المالية من المنتظر أن يحظى باهتمام البرلمانيين على اعتبار السياسية العمومية التي سطرتها الدولة، والتي يجب أن يستجيب لها»، وبالتالي حسب أدمينو فإن «مشروع قانون المالية يهيمن على دورة أكتوبر، فيما ستبقى الدورة الربيعية، التي فيها تحديات مهمة من قبيل استكمال الورش التشريعي، يعتبر من بقايا الولاية السابقة، وكذلك النصوص القانونية المرتبطة بتنفيذ البرنامج الحكومي، مع استحضار تدبير العملية الانتخابية ومنح الوقت الكافي للحكومة والبرلمان.