هذه قصة تأسيس أول المساجد بفرنسا
بعد مسجد باريس.. هكذا بنى عمال ومهاجرون دور عبادتهم
كان الملك الراحل الحسن الثاني قد كلف المكي الناصري لكي يتولى بشكل شخصي التنسيق مع بعض المتنورين، المغاربة والعرب، لقطع الطريق على بعض المتطرفين الذين كانوا يخططون لسحب البساط من أسفل أقدام مؤسسي تلك المساجد، خصوصا منها المساجد الصغيرة.
وحسب المصدر الذي أورد المعلومة لـ «الأخبار»، فإن المكي الناصري اجتهد كثيرا سنة 1978، سنة تكليف الملك الراحل له بهذه المهمة، لكي ينسق مع معارفه من الفقهاء والمتخصصين في العلوم الشرعية، لكي يؤطروا مسألة إلقاء الخطب وتأطير أبناء الجالية في المساجد في أزيد من ثمان مدن فرنسية كبرى، وقطع بالتالي الطريق على محسوبين على التيار المتشدد من الشرق الأوسط لكي يسيطروا على إدارات تلك المساجد.
كان المغرب دائما المدبر الأول لملف المساجد في فرنسا. حضر السلطان المولى يوسف سنة 1922 إلى باريس لوضع الحجر الأساس لمسجد باريس، أول مسجد للمسلمين في فرنسا، وعاد إلى زيارته سنة 1926 لكي يؤدي به الصلاة مباشرة بعد انتهاء الأشغال داخله ليفتتحه شخصيا، ومن يومها ومساجد فرنسا تعيش تحولات وموجات مد وجزر..
قدّور بن غبريط.. العلبة السوداء لكواليس بناء مسجد باريس
بسبب قدور بن غبريط، كان بعض الجزائريين في فرنسا يتوجسون من ارتياد مسجد باريس بعدما وُضع حجره الأساس سنة 1922. كان المولى يوسف حاضرا في عملية التدشين التي جاء في الأرشيف الفرنسي أنها أقيمت على شرفه شخصيا.
لكن بعد بدء المسجد في العمل، كان مُقاطعا من طرف شريحة واسعة من الجزائريين، والسبب أن الصور التي تؤسس لبناء المسجد ظهر فيها قدور بن غبريط، المخزني صاحب الأصول الجزائرية، والذي يعتبره الجزائريون من جملة الخونة التي تحالفوا مع الاستعمار الفرنسي. والحقيقة أن بن غبريط كان دبلوماسيا مغربيا وكان من الذين ساعدوا الألمان ثم الإنجليز على التفاوض في المغرب. وبعد 1912 بقي يلعب دورا سياسيا كبيرا في دولة المولى يوسف.
ارتباط أرشيف هذا المسجد بشخصية قدور بن غبريط الذي كان من بين أهم مرافقي المولى يوسف بن الحسن الأول، جعل بعض الجزائريين على الخصوص يشككون في نوايا بنائه، إلى أن جاءت أجواء الحرب العالمية الثانية سنة 1939، أي بعد وفاة بن غبريط بسنوات، لكي تزول تلك الذكرى ويصبح الواقع السياسي للمغرب والجزائر مغايرا، ولا مكان فيه للجيل القديم من المخزنيين الذين كانوا يربطون علاقات وطيدة مع الاستعمار، رغم أنهم كانوا شيوخا محافظين للغاية.
وقبل أن يتوفى سنة 1925، كان قدور بنغبريط، والذي تناولنا مساره السياسي والمخزني في «الأخبار» أكثر من مرة، يجلس في فنادق مدينة الدار البيضاء، ويتحدث مع كبار الموظفين الفرنسيين عن ضرورة تأسيس نوع جديد من المدارس في المغرب، بل وضرورة هدم الكتاتيب القرآنية.
نقل هذا الكلام في أرشيف «لو بوتي ماروكان»، في حوار مع ملحق عسكري في الإقامة العامة الفرنسية في الرباط، وهو يستحضر الأسماء المغربية التي استعانت بها فرنسا في بداية تأسيس الإدارة. ومن جملة الذين ذكرهم: عباس بلقاضي.
كان هذا الأخير على علاقة مع ابن غبريط الذي كان صديقا للألمان، والوجه المغربي الأول الذي أدخل البعثة الألمانية إلى القصر الملكي سنة 1908. كان عباس بلقاضي صديقا لابن غبريط وأخذ عنه أفكاره. وإلى حدود ما قبل 1912 بقليل، كان بلقاضي يتبنى أيضا آراء أستاذه ابن غبريط، ويدافع بدوره عن الألمان ويعتبر أنهم الأجدر بالفوز بالمغرب، حتى أنه نقل للفرنسيين لاحقا أن أستاذه كان يتمنى في صلاته أن تتمكن ألمانيا من استعمار المغرب لكي تقضي على أصحاب الجلابة والبلغة. وكان يقصد بهم العلماء الذين كانوا يهيمنون على المشهد، حيث كان وقتها شائعا أن يصل هؤلاء إلى إدارات مثل الجمارك واستخلاص الضرائب، ومستشارين كبار في الدولة، وكان تيار التجار و»البرجوازيين» المغاربة لا يفضلون كثيرا التعامل مع هؤلاء المنحدرين من القرويين. ولهذا السبب كان ابن غبريط يتمنى أن يقضي الألمان على التيار المحافظ في المغرب، والرافض للوجود الأجنبي والتوغل الاستعماري في الدولة.
جرت أحداث كثيرة بعد ذلك التاريخ ولا أحد يعلم ماذا حل بآراء ابن غبريط، ولا تبعات وقوفه مع الألمان الذين لم يفوزوا دبلوماسيا ولا عسكريا بالمغرب.
ارتباط مسجد باريس بقدور بن غبريط، كان في الحقيقة مناورة من المعارضة الجزائرية في فرنسا، لكن الحقيقة أن المسجد بني بنفس مغربي وبحضور المولى يوسف وانتقاله شخصيا إلى باريس لحضور عملية التدشين ووضع الحجر الأساس. كانت وقتها المعارضة السياسية المغربية لم تولد بعد، فنحن نتحدث عن سنة 1922 إلى صيف 1926، التي قام فيها الرئيس الفرنسي دوميرغ بتدشين المسجد برفقة السلطان مولاي يوسف الذي زار المسجد مرة أخرى لإطلاق أول صلاة به. وقتها لم تكن هناك أنشطة للحركة الوطنية التي لم تبدأ إلا في سنة 1937 بعد اجتماع أولى أقطاب إنشاء عمل سياسي في المغرب معارض لفرنسا. لذلك لم تكن هناك أية حملة ضد ابن غبريط الذي كان منسقا بين السلطان مولاي يوسف وبين الإدارة الفرنسية في موضوع إنشاء مسجد باريس الأعظم.
الخارطة السرية لتوزيع مساجد فرنسا خلال ثمانين سنة
تجربة مسجد باريس تختلف كثيرا عن التجارب الأخرى اللاحقة لإنشاء مساجد للجالية المغربية على الخصوص في أكثر من مدينة وقرية فرنسية.
الجيل الثاني من مغاربة فرنسا اعتبر الأمر حقا دستوريا، إذ إن القوانين الفرنسية تنص على حرية المعتقد، إلا أن اليمين الفرنسي استعمل ورقة تقييد المغرب لتحركات الرهبان والراهبات أثناء قيامهم بالتبشير الذي يجرمه القانون المغربي، وطالب بإلغاء تراخيص بناء المساجد في التراب الفرنسي. لكن المدافعين عن الحريات في فرنسا ناضلوا لاستمرار قوانين استصدار تراخيص إقامة المساجد.
البداية كانت مع التجمعات العمالية بعد الحرب العالمية الثانية. إذ أن آلاف العمال المغاربة توزعوا على مدن فرنسية وقرى وكان أمنهم الروحي من أولى الأولويات التي طالبوا نقابيا بتوفيرها.
أنشئت بعض المساجد الصغيرة التي كانت قبل الحرب العالمية الثانية سنة 1945 عبارة عن مخازن للسلع والبضائع، وتم منح تراخيص استثنائية لهؤلاء العمال لاستغلالها في العبادة، وتطور الأمر أكثر حينما تم السماح لهؤلاء العمال المغاربة بأداء صلاة الجمعة. وسرعان ما تطور الأمر بعد حصول المغرب على الاستقلال وإنشاء وزارة الأوقاف إلى مطالب بإرسال فقهاء لتأطير مغاربة فرنسا دينيا داخل تلك المساجد، ومنها من عرفت أشغال توسعة بعد جمع تبرعات من العمال أنفسهم، وتم جلب أئمة من المغرب لإلقاء خطبة الجمعة والتفرغ للإمامة، بعد أن نشبت في السابق خلافات بين العمال المغاربة حول أهلية بعض العمال الذين كُلفوا بالإمامة.
بعض تلك المساجد التي كانت في الأصل مخازن سابقة، وقع مُسيروها في مشاكل مع السلطات البلدية خصوصا في ليون وليل، حيث عرفت خارطة إعادة استغلال العقارات المتضررة بعد الحرب، وهو ملف فرنسي شائك، إجراء تعديلات كثيرة خصوصا في سنوات السبعينيات ثم في تسعينيات القرن الماضي، حيث تم إشعار عدد من التجمعات بضرورة الإفراغ، وكانت من بينها جمعيات تدبير هذه المساجد الصغيرة.
والنتيجة أن هؤلاء العمال المغاربة على الخصوص، في مقابل جمعيات أخرى لعمال جزائريين، جمعوا تبرعات مهمة وطالبوا السلطات بمنحهم تراخيص لشراء عقارات واسعة وإنشاء مساجد لائقة بها، ليخرج اليمين الفرنسي مجددا ليطالب بوقف أشغال البناء حتى أن الأمر تطور إلى مظاهرات بين الطرفين في عدد من المدن خصوصا منها التي كانت تعرف تجمعات عمالية كبرى، في مجال المناجم وصناعة السيارات.
وهكذا انتقل ملف بناء المساجد في فرنسا إلى مرحلة تأسيس مساجد بمعايير مختلفة تماما عن المعايير السابقة التي كانت تقوم على منح باحات خلفية لتجمعات عمالية لممارسة الشعائر الدينية، لتصبح تلك المساجد هي الوجه الجديد لفرنسا التي بُنيت على أكتاف هؤلاء الناس، والتي أصبح معظمها اليوم يعرف تجمعات خطابية تؤثر في الانتخابات الفرنسية ويقصدها عشرات الآلاف سنويا في عموم أوربا وليس فرنسا فقط لترديد الشهادتين واعتناق الإسلام.
قصة تبرعات عمال «ليل» لبناء مسجد مغربي
جرى ما بين سنوات 1948 و1954 عمليات اتصال بين قيادات سياسية مغربية من الحركة الوطنية وممثلين للعمال المغاربة في فرنسا، خصوصا في مدينة «ليل». هؤلاء الذين كانوا قد شكلوا نواة الجيل الأول لتجمعات العمال المغاربة في فرنسا، ساهموا في جمع تبرعات اختلف متابعون لتاريخ المغرب في تتبع خيوط صرفها.
بعض المصادر، من داخل الحركة الوطنية، أمثال الحاج الحسين برادة تحدثوا عن دور عبد الكبير الفاسي وتحركاته في إسبانيا للتواصل مع تمثيلية هؤلاء العمال، حيث حصل منهم على تبرعات منتظمة صُرفت لتمويل أولى عمليات المقاومة بشكل سري لم تكن تعلم تفاصيله حتى المخابرات الفرنسية. بل حتى الملك الراحل محمد الخامس لم يعلم بأمره إلا عندما عرضت عليه تفاصيله عبر علال الفاسي والدكتور الخطيب وهو بمنفاه.
هذه التبرعات التي جمعها العمال المغاربة الأوائل في المعامل والقطاعات الصناعية الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية وُجه جزء منها إلى تجهيز مسجد كان في الأصل مخزنا للسلع تابعا لأحد المعامل التي أفلست خلال القصف النازي لبعض المواقع الفرنسية. تعرضت الشركة مالكة المخزن وكان اسمها «لو فيرنيي» للإفلاس في جل فروعها في فرنسا، وتحول المخزن حسب ما أشار إليه بحث أكاديمي «إيستوار دو ليل» سنة 1978، إلى منطقة مهجورة غير بعيدة عن عمارات تجمعات العمال التي كانت تكتريها وزارة التجهيز بعقود سنوية من مالكيها. وكان من بين المطالب التي رفعها العمال المغاربة، والذين كان يتجاوز عددهم وقتها 5400 مواطن مغربي من طالبوا بمسجد لتمكينهم من أداء الصلوات المفروضة في ذلك المكان.
ورغم أن السلطات كانت في طريقها نحو الترخيص لهم، إلا أن بعض الحساسيات العمالية كانت تعتبر الأمر خطورة غير مسبوقة، خصوصا وأن الأمر كان يقتصر على تمثيلية عمالية، كانت هناك مخاوف سياسية، حسب نفس المصادر، من أن تتحول إلى كتلة سياسية للتشويش.
الصحافة العربية أسمت مولاي يوسف «جالب الإسلام لباريس»
في المذكرات الجريئة لصاحبها كريستيان هويل، تتوفر شهادات مهمة لشخصيات عسكرية فرنسية عايشت فترة تحول الحكم من المولى عبد الحفيظ إلى المولى يوسف مباشرة بعد توقيع فرنسا لمعاهدة الحماية مع المغرب.
كانت الأوضاع محتقنة جدا، حتى أن بعض مقربيه نصحوه بتأجيل يوم تنصيبه إلى أن تهدأ الأوضاع، لكنه فضّل، بعد تطمينات فرنسية، أن يخرج إلى الساحة، حيث اجتمع الآلاف في انتظار أول ظهور علني له سلطانا على المغرب.
كانت الأجواء داخل القصر مشحونة، لأن المولى يوسف كان ابنا لمحمد بن عبد الرحمن ولم يكن ابنا مباشرا من أبناء الحسن الأول. وهذا المعطى لوحده كان كافيا لكي تصبح الأجواء بذلك الاحتقان.
من جملة ما يُروى أن بعض حاشية القصر كانوا قد جمعوا أمتعتهم استعدادا للمغادرة، بما أنهم جاؤوا إلى القصر مع المولى عبد الحفيظ، وكانوا يستعدون للخروج بعد مغادرته، حتى يعودوا إلى مراكش التي جاؤوا منها معه. لكن بعض الحراس كانوا قد تلقوا تعليمات بعدم السماح لأي أحد بالمغادرة في يوم التنصيب. وهكذا كان عليهم أن يبقوا داخل أسوار القصر في انتظار ما قد تُسفر عليه الأيام التي تلت التنصيب من مفاجآت.
لم تكن الحركة تهدأ داخل القصر، وسرعان ما تم تداول أخبار تقول إن بعض الأسماء الجديدة ستتوافد على القصر. لم يكن في الأمر أي مفاجأة، خصوصا وأن المولى يوسف، كان محاطا ببعض أصدقائه المقربين، بحكم تكوينه الديني، وعلاقاته وأيضا لأنه في عز مرحلة الشباب. لهذه الأسباب كان قادرا على تشكيل محيطه الجديد وبسرعة.
كان المولى يوسف بعمر الثلاثين بالضبط عندما تُوج سلطانا على المغرب. فقد وُلد سنة 1882. وكان محيطه الجديد بنفس عمره تقريبا، وكان من بينهم بعض الفقهاء الذين تتلمذ على يدهم بالإضافة إلى فقهاء كانوا مقربين من والده.
كان بناء مسجد باريس الذي انتهت أشغاله سنة 1926، بمثابة انتصار شخصي للمولى يوسف لأنه كان من أوائل الذين دُعوا إلى زيارة باريس، كما أن ابنه سيدي محمد، استدعي لاحقا لوضع الحجر الأساس لمسجد آخر أثناء أولى زياراته إلى فرنسا بداية ثلاثينيات القرن الماضي. وهو ما جعل صحيفة لبنانية كان اسمها «اللبناني»، تفرد على صدر صفحتها الأولى في عدد مارس 1930، أي بعد أربع سنوات على افتتاح مسجد باريس، مقالة تصف فيها السلطان المغربي المولى يوسف بجالب الإسلام إلى العاصمة الفرنسية باريس.
الجزائريون تضايقوا من هيمنة المغاربة على مساجد فرنسا
مؤخرا فقط، كانت بعض الأصوات الجزائرية في الصحافة متهمة بتزوير التاريخ عندما نسبوا مسجدا بني في ليون قبل ستين سنة، إلى مجموعة من جزائريي فرنسا، فين حين أن طراز البناء يعود لعمال مغاربة بل وكانت هناك صور توثق لعملية تدشين المسجد التي كان جل من حضروها مغاربة.
ورغم «الزليج» المستعمل في التزيين والنافورة المغربية التي تتوسط ساحة صغيرة في المسجد، إلا أن بعض الأوساط الجزائرية روجت في الإعلام بأن المسجد جزائري الطراز والبناء وأن من قام ببنائه جزائريون من النواة الأولى للجالية الجزائرية في «ليون». وكانت مشادات كلامية كبيرة قد وقعت بين ممثلي الجاليتين، خصوصا وأن المسجد كان هدفا لهيمنة من أفراد الجالية الباكستانية، والذين عرف ملفهم بعد رحيلهم من بريطانيا بعد أحداث شتنبر 2001، تعبيرا عن رفضهم لبعض الإجراءات التي سنتها السلطات الأمنية في بريطانيا في أحياء سكنية ذكر بعض الشبان الذين ولدوا أو ترعرعوا داخلها في لوائح مطلوبين في الإرهاب.
وبما أن ممثلي الجالية الجديدة الوافدة على الحي، والذين اشتغل أغلبهم في افتتاح محلات تجارية مثل المراكز التجارية الصغرى والمتوسطة، فإنهم حاولوا التحكم في إدارة المسجد عن طريق استعمال المال.
كانت المخابرات الفرنسية تتابع الموضوع عن كثب، واتضح أن الأمر يتعلق بتنافس بين الجاليات للهيمنة على إدارة المسجد.
لكن الملف طوي في الأخير وصدرت ورقة تعريفية بتاريخ المسجد الصغير الذي انطلقت أشغال بنائه سنة 1957، وساهم في البناء عمال ومهاجرون مغاربة، وشكل إلى حدود السبعينيات نقطة تجمع أغلب أفرادها مغاربة قبل أن ينفتح المسجد على جزائريين دخلوا لجنة التسيير ليقاسموا المغاربة تلك المسؤولية. في حين كانت الجاليات العربية الأخرى، بعد سنوات، تتوزع على مساجد قام مغاربة ببنائها سابقا، خصوصا وأن تراخيص بناء المساجد، كان يخضع لرقابة شديدة بعد سنة 2001، حيث صودرت حسابات بنكية عبر العالم، لعدم وجود ما يثبت أصول تلك الأموال ليتم حجزها بشبهة أن تكون من أموال تمويل الجماعات الإرهابية، والتي استعملت لتنفيذ هجوم القاعدة في 11 شتنبر.
الناصري.. سفير متنور عرف خارطة الأمن الديني للمهاجرين
عندما تأسست السفارات المغربية بعد تأسيس وزارة الخارجية سنة 1956، كانت هناك مساع خفية في أوساط بعض المعارضين للمهدي بن بركة داخل حزب الاستقلال، لاقتراحه في لائحة السفراء الذين سيمثلون المغرب في عدد من العواصم، لكنهم فشلوا في تمرير اسمه لإبعاده عن الأجواء السياسية، بعد أن تدخل الملك الراحل محمد الخامس شخصيا. كانوا يعلمون أن اقتراح بن بركة سفيرا للمغرب قد يبعده عن مناقشة القرارات الداخلية لحزب الاستقلال، ويدركون أنه لن يستطيع رفض قرار التعيين سفيرا، لأن أمر مناقشة التعليمات الملكية ليس متاحا. لكن، وفي ظروف خاصة، لم يتم اقتراحه أصلا.
لم ينج الفقيه محمد المكي الناصري من الأمر، وعُين سفيرا في ليبيا. بعض المصادر تقول إنه اقتُرح على الملك الراحل الحسن الثاني ليكون سفيرا في ليبيا حتى يبتعد عن المواجهات، من خلال مؤلفاته في الحقل الديني، مع أنصار الزوايا والطرق الصوفية. فقد كان الناصري معروفا في أوساط القائمين على الشؤون الدينية في المغرب، بشراسة كبيرة في مواجهة فكر التصوف والزوايا عموما. ورغم أن أمر تعيينه سفيرا لهذه الظروف لم يكن مؤكدا، إلا أن ما حدث معه في مساره داخل دهاليز السلطة، يؤكد أن أفكاره ومواجهاته مع القائمين على أمور الزوايا في المغرب، كلّفته منصبه في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية عندما فكّر في إغلاق الزوايا لأنها حسبه، كانت تنشر البدع والشرك في أوساط المجتمع.
لكن قبل هذا كله، فقد كان هذا العلامة المغربي أحد أوائل الذين تمت استشارتهم في عهد الملك الحسن الثاني بخصوص ملف المساجد في فرنسا، خصوصا تلك التي كانت معروفة بكونها سفارة غير رسمية للمغرب هناك. إذ إن تلك المساجد التي أسس أغلبها في فترة ما بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، تحولت إلى ما يشبه مراكز للجوء يلجأ إليها المغاربة الذين تقطعت بهم السبل أو من يمرون بظروف عصيبة. وعندما فرض نظام التأشيرة لتقنين الهجرة والتحكم فيها، أصبحت هذه المساجد أول الاتجاهات التي يقصدها المقيمون بطريقة غير شرعية في التراب الفرنسي.
والنتيجة كانت أن مباحثات مغربية فرنسية في الموضوع نتج عنها طلب فرنسي بضرورة إحاطة المغرب علما من الناحية الأمنية بما يحدث في تلك المساجد، التي أطلق على بعضها لاحقا توصيف جديد هو «المراكز الإسلامية».
كان الملك الراحل الحسن الثاني قد كلف المكي الناصري لكي يتولى بشكل شخصي التنسيق مع بعض المتنورين مغاربة وعرب، لقطع الطريق على بعض المتطرفين الذين كانوا يخططون لسحب البساط أسفل أقدام مؤسسي تلك المساجد، خصوصا منها المساجد الصغيرة.
وحسب المصدر الذي أورد المعلومة لـ «الأخبار»، فإن المكي الناصري اجتهد كثيرا سنة 1978، سنة تكليف الملك الراحل له بهذه المهمة، لكي ينسق مع معارفه من الفقهاء والمتخصصين في العلوم الشرعية، لكي يؤطروا مسألة إلقاء الخطب وتأطير أبناء الجالية في المساجد في أزيد من ثمان مدن فرنسية كبرى، وقطع بالتالي الطريق على محسوبين على التيار المتشدد من الشرق الأوسط لكي يسيطروا على إدارات تلك المساجد.
وربما كانت تلك أول حرب غير معلنة على التطرف، قادها هذا العلامة المغربي الذي غادر الحياة سنة 1994، تاركا خلفه أسرار كثيرة لم تعرف إلى اليوم رغم أنه أسدى كثيرا لمسيرة الاعتدال الديني في العالم العربي وليس في المغرب فحسب.
وقف بناء المساجد بفرنسا ردا على منع التنصير بالمغرب
تاريخ وقف الحركات التبشيرية في المغرب يحفل بعدد من التفاصيل، إلا أن اليمين الفرنسي حاول خلال فترات متفرقة، خصوصا خلال الخمسينيات ثم في الثمانينيات، استثمار بعض المعطيات التاريخية لتجريم المغرب لحركات التنصير، لكي يدعو اليمين المواطنين الفرنسيين للتظاهر ضد إقامة المساجد في فرنسا، واستمرار تشييد بعضها بدعوى الانتقام أو تحقيق «العدالة». إلا أن بعض المدافعين الفرنسيين عن الحريات أطلقوا حملة مضادة عبر الصحافة قالوا فيها إن التنصير يختلف تماما عن تأسيس المساجد، لكن الأمر لم يكن مقنعا لليمين المتطرف، والذي استعان بأرقام اعتناق الفرنسيين للإسلام واعتبر أن المساجد، والتي كانت في الحقيقة تُسير من طرف مغاربة جلهم حاملون للجنسية الفرنسية، تمارس دعاية للإسلام فوق التراب الفرنسي.
اعتمادا على تقارير استكشافية، مثل تقرير إدمون دوتي، قبل سنة 1880، فإن حقائق كثيرة بخصوص الخارطة الدينية في المغرب قد تمت قراءتها بشكل سري على يد الجيش والمخابرات العسكرية الفرنسية.
حلت في المغرب أولى وفود الراهبات الفرنسيات اللواتي قدمن من الجزائر. وتوجد في الأرشيف، خصوصا أرشيف الدولة الفرنسية لسنة 1890، إشارات إلى أن بعض الراهبات الفرنسيات جئن من الجزائر، واستقررن في نواحي مدينة فاس، في القرى التي كانت منتشرة على طول الطريق إلى تازة، وفي اتجاه الشمال الشرقي أيضا. الأرشيف الفرنسي بقي متكتما ولم يفسر بطبيعة الحال دواعي رحلة الراهبات من الجزائر في اتجاه المغرب، واكتفى بالتأريخ لعمليات الانتقال ووضعها في سياق استعماري كان يعتبر المغرب ملحقة بفرنسا، شأنه شأن الجزائر التي كانت في ذلك التاريخ، رسميا تحت الاستعمار الفرنسي.
يصعب تحديد ما إن كانت منطقة نواحي فاس، الأولى التي استهدفتها عمليات التنصير، لكن بدا أن الأمر منطقي، خصوصا وأن الجنوب المغربي لم يتم اختراقه من طرف القوات الفرنسية إلا بعد فرض معاهدة الحماية على المغرب بسنوات، وكان التوغل في الجنوب عسكريا، ولم يدخل الفرنسيون المدنيون إلى المناطق الجنوبية إلا في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات.
جاء في بعض مقالات الأرشيف الفرنسي أن الراهبات الفرنسيات كن يقمن بأعمال اجتماعية في البوادي التي كانت في محيط مدينة فاس. لكن مراجع أخرى، بريطانية هذه المرة، تحدثت عن استحالة اختلاط الأجانب بالمغاربة خصوصا في القرى، وتحدثت عن محاولات اعتداء جسدي على الأجانب فقط لأنهم نصارى، وحسب مقالات نُشرت في صحف بريطانية سنة 1905، فإن عمليات الاعتداء على الأجانب كانت بتوصية من بعض الفقهاء المتشددين الذين كانوا يرفضون بالمطلق وجود الأجانب في المغرب، وسُجلت في ذلك الوقت عمليات ذبح وقتل لأجانب كانوا يتجولون في المغرب قبل أن يتم استهدافهم.
ملف الراهبات هذا، كان من بين الملفات الشائكة في فرنسا، حيث حاول اليمينيون استعماله سياسيا للضغط على الرأي العام الفرنسي بشكل ناعم لكي يرفض استمرار بناء المساجد فوق التراب الفرنسي، خصوصا وأن بعض الراهبات قد تم ترحيلهن من المغرب والجزائر أيضا، بتهمة نشر الدين المسيحي في المداشر والقرى. لكن الذين كانوا يدافعون عن مكتسبات الدستور الفرنسي القائم على الحريات والمساواة، قالوا إن الدول التي يبني مهاجروها مساجدهم في فرنسا، تضم فوق أرضها هي الأخرى كنائس قديمة، يمارس فيها المقيمون الفرنسيون في المغرب خصوصا شعائرهم الدينية بدون مشاكل، وبالتالي يتعين على فرنسا السماح للمغاربة ببناء مساجد إضافية بدون حساسيات.