إعداد: النعمان اليعلاوي
بين السلطة الرابعة والسلطة الحاكمة خطوط تماس تضيق وتتسع حسب الحالة التي تطبع المناخ العام في البلد، غير أن هذه العلاقة الثنائية تهتز بشكل كبير نفورا أو تقاربا حد الرجة التي تعيد ترتيب الأوراق أو بعثرتها احتكاما لطبيعة العمل، ففي العلاقة بين القصر الملكي بالرباط وبعض الأقلام الصحافية التي يعتبر إيريك لوران، الصحافي والكاتب الفرنسي أحد وجوهها، يبرز ذلك التقارب البالغ مدى الصداقة وذلك التنافر الواصل حد الابتزاز.
وبين مرحلة كتابة “ذاكرة ملك” الذي كتبه الصحافي لوران ويحكي عن حياة الراحل الحسن الثاني على شاكلة حوار مطول كشف تفاصيل حياة الراحل الحسن الثاني، وبين مرحلة شبه النسيان والنكران من جانب الكاتب الفرنسي والتي انتهت بكتاب حمل انتقادات لاذعة، جعلت بعض المتتبعين والقراء يشككون في صحتها، عاد إلى الواجهة موضوع هذه العلاقة بعد حادث إيقاف الفرنسي لوران وصديقته كراسيي بتهمة ابتزاز الملك محمد السادس.
في هذه الورقة نعيد رسم خطى إريك لوران التى تركت أثرها على أبواب القصر الملكي في عهد الحسن الثاني، ونتتبع خطى أخرى لتحول وانقلاب في مواقف الصحافيين الفرنسيين اللذين سجلا سابقة بمحاولتهما ابتزاز الملك محمد السادس.
البداية بسيرة
لم يكن أحد يتوقع أن الصحفي الذي فتح له الملك الراحل الحسن الثاني باب قصره ليطلع على خصوصيات حياته، ليصير أعلم بخبايا البلاط الملكي للحسن الثاني من العديد من الشخصيات النافذة المغربية، سينقلب في مواقفه من المملكة وراعيها مباشرة بعد وفاته، فقد كان الصحفي الفرنسي إريك لوران، والذي أنهى مساره المهني بسقطة مدوية تجلت في ابتزازه الملك محمد السادس مقابل التراجع عن نشر كتاب يحمل انتقادات للمغرب، كان يقدم نفسه باعتباره محاور الملوك والرؤساء، حيث سبق لإريك أن حاور الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، والرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ليظل كتابه الشهير “ذاكرة ملك” الذي أنجزه عن الملك الراحل الحسن الثاني، أحد أهم إنجازاته التي جعلته يوصف بـ “صديق المغرب”، قبل أن ينقلب 180 درجة ويؤلف كتابا رفقة الصحفية كاترين كارسيي يهاجمان فيه الملك محمد السادس.
إيريك لوران “صديق الملك”، رسم لنفسه مسارا مميزا لو أنه خطه بيده فهو الطالب الذي تخرج من جامعة بيركلي الأمريكية وهي واحدة من أرقى جامعات العالم، ليحتل واجهة الاهتمام الإعلامي، بعد أن أصبح الوحيد من الصحافيين الأجانب الذين نالوا ثقة الراحل الحسن الثاني، ليفصح له عن أسراره الخاصة بنظام حكم المغرب، واختاره لمهمة خاصة ألا وهي تدوين سيرته الذاتية التي أوصى بألا تنشر إلا بعد وفاته بـ 10 سنوات، وربما هو الأمر الذي جعل لوران يقدم نفسه على أن الحسن الثاني أطلعه قبل رحيله، على العديد من القضايا ذات الحساسية العالية، مثل، المحيط الملكي، وعائلته الصغيرة، حول وريثه في العرش، ثم قضية الشهيد المهدي بنبركة وقصة أوفقير معه، ثم علاقاته المميزة مع الجسم السياسي الفرنسي، وهي القضايا التي لم يتحدث عنها لوران في السيرة الذاتية “الحسنية” بالتفصيل.
لوران الذي ولج قصر الراحل الحسن الثاني عبر بوابة صحيفة لوفيغارو الفرنسية التي اختارته منتدبا بالقصر ضمن طاقمها سنة 1991، لإنجاز حوار مع الراحل الحسن الثاني، بخصوص قضية معتقل تازمامارت، قبل أن تتطور هذه المهمة الصحفية، ليطلب منه الراحل الحسن الثاني إنجاز كتاب عن ذاكرة الملك، فقبل الفكرة وشد الرحال إلى إفران لملاقاة الملك وتم الاتفاق على أن تكون صيغة الكتاب حوارا مطولا فيه سؤال وجواب، وتكلف المستشار الملكي أندري أزولاي بترتيب اللقاءات مع الملك، كما كشف لوران في كتاب “يوميات الملك”، والذي يقول فيه بأنه “كانت ثمة عدة أسباب وراء تطلع الحسن الثاني إلى ذلك الكتاب، ذاكرة ملك، أولا من أجل تمرير رسائل وتوفير المعلومات للرأي العام المغربي، الأمر الذي لم يفعله طيلة 36 سنة من حكمه. إنه أشبه ما يكون بمسار سياسي شامل يروم إضفاء نوع من التناغم والانسجام على فترة حكمه، وثانيا تقديم قراءة أوضح للماضي كما للحاضر والمستقبل. لقد كان ردا على كتاب “صديقنا الملك” لمؤلفه جيل بيرو”.
نقطة افتراس
مسار الكاتب الصحافي الفرنسي إريك لوران، يبدو متميزا وطبيعيا جدا، لواحد حظي بتجربة فريدة عن حوار حصري جدا مع زعيم دولة عرفت عنه الصرامة إلى أقصى الحدود، خصوصا أن الحوار المنشور على شاكلة اليوميات تطرق فيه الراحل الحسن الثاني لعدد من القضايا المختلفة، فإلى حدود هذه النقطة فالأمور كلها طبيعية جدا، والعلاقة بين المؤسسة الملكية الحاكمة والكاتب الفرنسي لا تعدو أن تكون أقرب بكثير إلى المهنية لصحفي أجرى حوارا ومقابلة مع الراحل الحسن الثاني لا أكثر، وليست خاصة كما كان يحلو لإريك تقديمها.
علاقة الود والصداقة التي سادت بين الحسن الثاني والصحافي الفرنسي لوران، ستجد منتهاها مع الملك محمد السادس، إذ سينقطع حبل الود وتغلق أباب القصر في وجه لوران، فبخلاف الذكريات الملكية التي كتبها عن الراحل الحسن الثاني وبأمر منه، وأمام الجفاء الحاصل أصدر سنة 2012 كتابا بعنوان “الملك المفترس” رفقة الصحافية كاترين غراسيي، تحدث فيه عما قال إنها سيطرة الملك على الاقتصاد المغربي، وهو الكتاب الذي وجه فيه لوران انتقادات لاذعة للنظام الحاكم في لحظة حساسة اتسمت بموجة الربيع العربي التي اكتسحت العديد من الدول العربية، مما طرح حينها السؤال العريض حول الغاية من نشر لوران لكتابه في تلك الظرفية الحساسة التي طبعة المنطقة العربية.
بنفس المنطق وبمعطيات مختلفة برز اسم كاترين غراسيي الصحافية الفرنسية المستقلة، زميلة إريك التي كانت شريكته في إصدار كتاب “الملك المفترس”، وقد سبق لها أن اشتغلت في المغرب بصحيفة لوجورنال التي أشرف على إطلاقها سنة 1997 الإعلامي أبو بكر الجامعي، قبل إقفالها سنة 2010 بقرار من المحكمة التجارية بالدار البيضاء، وساهمت كاترين غراسييه في تأليف عدة كتب من بينها “الملك المفترس” رفقة إيريك لوران، وكتاب “حاكمة قرطاج” الذي تحدث عن زوجة الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، رفقة نيكولاس بو، وكتاب “ساركوزي والقذافي: التاريخ السري للخيانة”، وكتاب “عندما سيصبح المغرب إسلاميا” رفقة نيكولاس بو أيضا.
ابتزاز
كتاب لوران وزميلته كاترين كراسيي السابق والذي أثار حولهما ضجة لكونه تضمن عددا من المعطيات المشكوك فيها من قبل المتابعين للشأن المغربي والإقليمي، لم يكن المفاجأة الأخيرة للكاتبين الصحافيين، فإلى حدود يوم الخميس 27 غشت الماضي أوقفت السلطات الفرنسية بباريس الصحافيين، بتهمة التورط في ابتزاز الملك محمد السادس، من خلال مطالبتهما بمبلغ 30 مليون درهم مقابل عدم نشر كتاب عن المغرب.
لوران اتصل بالديوان الملكي ليعلن أنه بصدد التحضير لنشر كتاب حول المغرب بمعية كاترين غراسيي، لكنه أعرب عن استعداده للتخلي عن ذلك مقابل تسليمه مبلغ ثلاثة ملايين أورو، بينما تم توقيفه في حالة تلبس، رفقة كاترين غراسيي، بعد أن تسلما مبالغ مالية ووقعا على عقد خلال لقاء مع محامي القصر المغربي تحت مراقبة الشرطة والنيابة العامة لباريس التي فتحت تحقيقا في هذا الشأن.
وقد قامت الشرطة الفرنسية بتوقيف لوران بعد التحقيق معه حول محاولته ابتزاز المؤسسة الملكية ومواجهته بمقاطع الفيديو التي تم تصويرها من طرف الشرطة الفرنسية وهو يتفاوض مع المحامي المغربي على مبلغ 30 مليون درهم نظير عدم نشر كتاب عن الملك محمد السادس، كما قام الأمن الفرنسي بإيقاف كاثرين غراسيي والتي يشتبه في تورطها في عملية الابتزاز نظرا لكونها شريكة لإيريك لوران في تأليف الكتاب.
وتعود تفاصيل هذه القصة إلى يوم 21 يوليوز الماضي عندما قام الصحفي الفرنسي وهو صاحب الكتاب المثير للجدل “الملك المفترس”، بالاتصال بالديوان الملكي يخبرهم بأنه بصدد الإعداد لنشر كتاب جديد عن الملك محمد السادس وبأنه يطلب مبلغ 30 مليون درهم مقابل عدم نشره للكتاب، وبالفعل سيبعث له المغرب محاميا للقائه والتفاوض معه في العاصمة الفرنسية باريس يوم 11 غشت الجاري.
تطورات القضية
ابتداء من الخميس تاريخ إيقاف الصحافيين، تناسلت خيوط القضية تباعا وبدأت تتكشف أسرارها، حيث جاء بيان الموقف المغربي سريعا على لسان المحامي الفرنسي الذي وكله المغرب للترافع لصالحه في القضية، والذي صرح أن الملك محمد السادس ما إن علم بموضوع الابتزاز حتى أمر برفع دعوى قضائية ضد “إيريك لوران”، مضيفا بأن مثل هذه التصرفات قد يكون لها تأثيرات جيوسياسية خطيرة، واعتبر أنه ينبغي محاكمة الصحافيين الفرنسيين، إريك لوران وكاترين غراسيي، اللذين تم توقيفهما بتهمة ابتزاز الملك محمد السادس، على أفعالهما البالغة الخطورة التي يمكن أن تكون لها تداعيات جيوسياسية كبيرة، وأن “المغرب يشكل بانتظام موضوع كتب، بعضها ألفت من طرف إريك لوران، ولا تخفى مقاربتها المفرطة في السوداوية”، كما تساءل المحامي، في تصريح لإحدى المحطات الإذاعية الفرنسية، عن دوافع هذا الابتزاز، واسترسل: “هل هو الجشع؟.. ألم يتم توظيف هذا الرجل وهذه المرأة من قبل جماعة ما؟”.
وقال محامي المغرب موريتي إن قضية الصحافيين الفرنسيين تمثل “صاعقة في سماء صافية، على اعتبار أن أخلاقيات مهنة الصحافة هي على النقيض تماما مع مثل هذه الممارسات التي تعد من قبيل الممارسات المارقة” موضحا مجريات هذه القضية واعتقال الشرطة الفرنسية للصحافيين ايريك لوران وكاترين غراسيي، وقال “هناك مع ذلك عدد من العناصر تطرح تساؤلات حقيقية والتي سيتم إبلاغها، في الوقت المناسب، لقضاة التحقيق الثلاثة المكلفين بالملف”، وأشار إريك دوبون موريتي في هذا السياق إلى أن مختلف وسائل الاعلام الفرنسية تتساءل بشأن هذه القضية، مسجلا أنه “يمكن لأول وهلة اعتبار أن الأمر يتعلق بممارسات كلاسيكية غير ناضجة، لكن إذا نظرنا للأمر عن قرب نجد أن هناك عناصر تجعلنا نوجه شكوكا في اتجاه أمور أخرى”، وأبرز أن أحد رهانات التحقيق القضائي مع المتهمين يتمثل في معرفة “الدوافع الحقيقية لفعلتهما”.
وساعات بعد اعتقاله أوضحت السلطات الفرنسية أن الصحافي إيريك لوران، اعترف خلال فترة الحراسة النظرية، بأنه طلب أموالا من المغرب، مقابل عدم إصدار كتاب حول المملكة، حسب ما ذكرت صحيفة (لوموند) الفرنسية واسعة الانتشار، والتي قالت استنادا إلى ما وصفته بمصدر مقرب من الملف، أن إيريك لوران اعترف خلال مدة خضوعه للحراسة النظرية التي بدأت مساء الخميس، أنه “قدم عرضا من ثلاثة ملايين ثم مليوني يورو للمغرب، مقابل تخليه عن نشر كتاب حول المملكة أنجزه بالاشتراك مع الصحافية كاثرين غراسيي، وإنّه لم يقم بابتزاز ملك المغرب وإنّما قبل بأموال القصر القادمة من المملكة الشريفة بعدما “عرضت عليه”.
لوران تراجع مرة أخرى عن تصريحاته، وقال لمنابر إعلامية فرنسية “إن رسولا للملك محمّد السادس قد اقترح عليه أموالا قبلها لأسباب شخصيّة وحتّى لا يخلّ باستقرار المغرب”، وفق تعبيره، مضيفا أنه “سيستكمل تأليف الكتاب موضوع القضية الفضائحية التي أزيح عنها الستار بحر الأسبوع الماضي، وأنه سيقدم على نشر مؤلفه دون أي تراجع”.
رافانيلو: “الجزائر وراء قضية الابتزاز”
من جهته، اعتبر أوليفيي رافانيلو، وهو محلل فرنسية متخصص في القضايا الدولية أنه من الوارد أن تكون هنالك يد جزائرية في قضية ابتزاز الصحافيين الفرنسيين “كاترين غراسيي” و”إيريك لوران” للملك محمد السادس، موضحا أن الجزائر هي أكبر مستفيد من تفجر القضية باعتبارها من أشد خصوم المغرب كما هو معلوم.
في المقابل أشار رافانيلو إلى وقائع سابقة تؤكد تعمد الصحافية “كاترين غراسيي” باعتبارها متخصصة في الكتابة عن بلدان المغرب العربي ابتزاز النظام السابق في تونس مهددة بنشر كتاب حول أسرة الرئيس التونسي السابق زين العابدين بنعلي في حال عدم تسليم مبلغ مالي وهو ما تم رفضه قبل أن ينشر الكتاب.
ضد الكل مع المال
تفاعلات القضية لن ولم تكن لتقف عند حدود اعتقال الصحافيين المبتزين بل تتواصل، حيث كشف مقطع من التسجيل السري لمحادثة تمت بين الصحافية الفرنسية المتهمة إلى جانب شريكها في الجريمة، إريك لوران من جهة، ومحامي المغرب (صاحب التسجيلات) من جهة ثانية، داخل مطعم باريسي يوم الخميس الماضي، عن تحامل الصحفية الفرنسية كاترين كراسيي على أصدقائها وزملائها في المهنة الذين وصفتهم بأبشع الأوصاف.
المقاطع المسجلة، اعتبرت فيها كراسيي الصحفي بيير توكوى قد انتهى، في رأيها، ولا يمثل شيئا، فيما قالت عن الصحفي الإسباني إنياس سومبريرو إنه يعتبر نفسه نجما عالميا، ولكنه في واقع الأمر لا يعدو أن يكون مجرد “برميل فارغ”، كما قالت في ذات التسجيل أن أبو بكر الجامعي ووالده خالد، ليسا سوى “معارضين مزيفين، إنه كلام تافه!”، حسب كاترين التي هاجمت زميلها الصحفي نكولاس بو، شريكها في تأليف كتابها السابق، والذي لم ينج من سهامها.
في المقابل كالت كاترين كراسيي، في ذات التسجيل، المديح للمملكة المغربية وما حققته من تقدم، والذي تقول بدون مواربة إنها ندمت حقا على الحملة التي شنتها خلال مسارها الصحفي ضد المغرب.