هذه قصة الحرس الملكي الذي سرق الأضواء في استقبال ماكرون
أوراق منسية من أرشيف الموكب السلطاني قبل 4 قرون
يونس جنوحي
«اليوم، هم محسوبون على القوات المسلحة الملكية. أفراد الحَرس الملكي، الذين خلقوا الحدث أثناء الزيارة الأخيرة، بداية الأسبوع الجاري، للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هم في الحقيقة امتداد لقرون من التقاليد المرعية لمرافقة وخفر الموكب السلطاني. منذ قرون طويلة، كانت الدولة المغربية، مع الدول المتعاقبة، تهتم بمظاهر خروج الموكب السلطاني، لكن هذا الموكب لم «يتألق»، إلا مع الدولة العلوية، ومجيء السلاطين الذين استقبلوا الوفود الأجنبية، وفطنوا مبكرا إلى أن أقصر طريق للتأثير على أفراد البعثات الأجنبية التي جاءت إلى المغرب للتفاوض، يتمثل في إبهارهم بمدى أصالة نظام الحكم في المغرب وعراقته.. وهكذا بدأ الموكب السلطاني يتطور إلى أن وصل مرحلة «الحَرس الملكي»، الذي أحدثه الملك الراحل الحسن الثاني، وأشرف بنفسه على تنظيم صفوفه».
+++++++++++++++++++++++++++++++++
الصرامة والدقة.. ظهير 1963 الذي أحدث ثورة في موكب الملك
الصرامة والدقة أكثر ما كان يميزهم. وتحدث عنهم الوزير البريطاني الذي كان مبعوثا فوق العادة إلى القصر الملكي، في الفترة الشائكة من علاقات المغربية البريطانية، ما بين سنتي 1860 و1880، يتعلق الأمر بالوزير والسفير «السير دروموند هاي» الذي التقى السلطان الحسن الأول، وأثار انتباهه الموكب السلطاني المرافق للسلطان، والذي كان من بين أفراده في ذلك التاريخ، قارعو الطبول، وحملة الأعلام.
هذا الوزير كتب مراسلات إلى لندن أشاد فيها بمظاهر محافظة العرش المغربي على تقاليد من هذا النوع. لكن الحقيقة أن البريطانيين لم يفهموا وقتها أن هذه الطقوس، التي اهتم بها السلطان المولى إسماعيل، ثم حفيده المولى عبد الرحمن بن هشام، لم تظهر إلا مع العلويين، رغم أن الدول السابقة التي حكمت المغرب، خصوصا السعديين وقبلهم الموحدين، كانت لديهم مواكب خاصة لمرافقة السلاطين، لكنها لم تكن بنفس دقة «الحَرس» الذين رافقوا سلاطين الدولة العلوية لقرابة أربعة قرون.
«الحرس الملكي»، مصطلح لم يظهر إلا مع الملك الراحل الحسن الثاني في بداية ستينيات القرن الماضي، والذي تطرق إليه ظهير خاص يعود إلى سنة 1963، ويعد من أوائل الظهائر التي وقع عليها الملك الراحل الحسن الثاني، بعد جلوسه على العرش. وبموجب هذا الظهير أصبح لفرقة الخيالة والمشاة الذين يحرسون الموكب السلطاني، توصيف جديد وأصبح اسمهم «الحرس الملكي» وصاروا بموجب الظهير يتبعون للقوات المسلحة الملكية، بعد أن كان أفراد الحرس فرقة تابعة للقصر الملكي، مهمتها مرافقة السلطان في خرجاته والاستقبالات الرسمية.
الملك الراحل الحسن الثاني، فكر في تطوير الفرقة الملكية منذ أن كان وليا للعهد، سيما بعد سنة 1956، حيث اقترح على والده السلطان محمد بن يوسف، إدخال تعديلات كثيرة على مظاهر البروتوكول والاستقبالات في القصر الملكي. ومن بين أوائل مظاهر التغيير في البروتوكول، تأسيس الحرس الملكي بالشكل الذي يظهر عليه اليوم.
الحرس الملكي خطف الأضواء في الاستقبال الملكي الأخير للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزوجته ووزراء حكومته وشخصيات فرنسية، خصوصا المشاهد التي التقطت بكاميرات «الدرون»، والتي كشفت مدى دقة الاستعراض الذي قدمه «الحرس الملكي» عند استقبال الموكب في باب السفراء، أثناء طريقه إلى داخل قاعات القصر الملكي في الرباط، حيث جرى توقيع الاتفاقيات بين البلدين.
الحرس الملكي بالصورة التي ظهر عليها الآن، ما هو إلا نتيجة لمسار طويل من التحديثات، التي أطلقتها الدولة العلوية على مظاهر مرور الموكب السلطاني، قبل أزيد من أربعة قرون.
في البداية، كان مرافقو السلطان يشتغلون في صفوف الجيش، ويتم اختيارهم بعناية للالتحاق بفرقة الجنود الذين يتولون خفر الموكب السلطاني أثناء سفرياته، أو أثناء خرجاته الأسبوعية من القصر الملكي، خصوصا موكب صلاة الجمعة.
أدخل عدد من السلاطين تحديثات مهمة على شكل الموكب السلطاني، وأول مرة استعملت فيها العربة الملكية، كان عندما قدمتها بريطانيا هدية إلى القصر الملكي بفاس، أيام المولى محمد الرابع، وهناك حديث عن عربة ملكية أخرى تلقاها المغرب من فرنسا، أيام لويس الرابع عشر.
لكن قبل دخول العربات الملكية إلى الموكب السلطاني الرسمي، كان هذا الموكب يتكون من مرافقين ثابتين أمثال «المشاورية» والمخازنية الذين كانت المهام بينهم موزعة بدقة شديدة، ويتوارثون هذه المراكز والوظائف لتشكيل الموكب الرسمي الذي يتوسطه السلطان، قبل أن تدخل تعديلات كثيرة على الموكب، ويتأسس الحرس الملكي رسميا بأمر من الملك الراحل الحسن الثاني، ويصير بالصورة التي هو عليها اليوم.
جنود القصر قبل تأسيس «الحرس».. مهام لم يعد لها وجود ووظائف منقرضة
من أشهر المؤرخين المغاربة الذين تخصصوا في تاريخ القصور الملكية، نجد المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان الذي ولد داخل أسوار القصر الملكي في مكناس سنة 1878، وحظي بتقدير خاص من السلطان محمد بن يوسف، وكرس حياته للتوثيق لتاريخ القصر الملكي والتقاليد المرعية، وحتى نُظم الحياة داخل القصور الملكية لقرون خلت. وعندما توفي سنة 1946، ترك خلفه مئات الأعمال التوثيقية التي صدرت بعضها على نفقة المطابع الملكية، وأخرى تكلف بنفسه بإخراجها إلى الوجود، وتُعتبر، على نُدرتها، مراجع حصرية للدراسة التاريخية.
عبد الرحمن بن زيدان، تحدث في كتابه «العز والصولة»، عن بعض الوظائف التي تتوارثها بعض العائلات التي تعمل في القصور الملكية من خَدم وموظفين، اشتغل أفرادها في تأثيث وتكوين عناصر الموكب السلطاني، الذي كان خروجه من القصر يُعتبر استعراضا متكاملا، يتجمهر الناس لرؤيته، خصوصا عندما يكون السلطان في خرجاته الأسبوعية المنتظمة، وأشهرها خرجة صلاة الجمعة.
أغلب المعلومات التي استقاها المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان، كان مصدرها القصر الملكي في مكناس، الذي بناه السلطان المولى إسماعيل. وهكذا فإن أغلب التقاليد والمظاهر المخزنية التي تحدث عنها ابن زيدان، يبقى قصر مكناس مصدرها.
يقول ابن زيدان في مؤلفه، متحدثا عن الفرق التي تُشكل الموكب السلطاني والوظائف التي يشغلها الأفراد الذين يرافقون السلطان في خرجاته، أو أثناء الاستقبالات الرسمية التي يشرف عليها السلطان بنفسه في بعض المناسبات، وهو الذي عاصر بنفسه السلطان الحسن الأول، ثم المولى عبد العزيز، فالمولى عبد الحفيظ، والمولى يوسف، ثم السلطان محمد بن يوسف.
إن وظيفة السراة الذين كانوا ينتمون إلى الشرفاء والأعيان، كانت تتمثل في الذهاب إلى العدول ليقوموا بأداء البيعة في كافة مناطق المغرب، إذ كانت كل قبيلة تتوفر على جمهور من الشرفاء والأعيان والوجهاء الذين يختارون من بينهم فرقة من السراة، أو كما وصفهم في موسوعته المخزنية: «العز والصولة في معالم نظم الدولة»، بـ«الرهط»، أي الفريق.
يقول: «وإذا كانت البيعات التي عرفها التاريخ في مبايعة الخلفاء والملوك والأمراء منذ الصدر الأول من الإسلام، لا تتعدى أن تكون مبايعة شفهية تخرج من الأفواه، تحتمل أن تصبح بعد حين لغوا ملفوظا، فإن بيعات المغرب الأقصى لملوكه وسلاطينه هي مبايعة بلغت أسمى الغايات وأوفى المقاصد، فلا يمكن في حالة من الأحوال يتطرق إليها وهن، أو ينكث لها موثق. حيث إنها قائمة على رأس متين (..) يبادر أهل الحل والعقد في الأمة، وذوو الحيثيات فيها، وضمنهم رهط من السراة والشرفاء والأعيان والوجهاء فيذهبون توا إلى الاجتماع والإشهاد على أنفسهم أمام العدول بمبايعة الملك المطاع، وهكذا يجري في كل القبائل والمدائن، والبوادي والحواضر فلا يتخلف عن عقد البيعة في كامل القطر المغربي أية جمهرة أو فئة، ثم ينادى بذلك نداء يسمعه القريب والبعيد في صيغة الدعاء للملك الجديد، ويتلو ذلك قرع الطبول».
+++++++++++++++++++++++++++++++++
المولى عبد الرحمن.. السلطان الذي قرر إحداث ثورة في الجيش والحَرس
عرفه المؤرخون سلطانا مُصلحا، وأشهر من أطلق حملات تحديث الجيش السلطاني، قبل وفاته سنة 1859.
هذا السلطان العلوي، حث المغاربة على البحث عن مرشحين، لكي يبعثهم على نفقة الدولة المغربية، لإتقان استعمال المدافع وصناعتها، وكان أول من فكر في إحداث فرق من الجيش لحراسة أسوار القصور الملكية.
وأطلق سنة 1858 مبادرة أدخلت اسمه إلى التاريخ، عندما أرسل سفيره عبد الله فنيش السلاوي إلى بريطانيا، لاقتناء 17 مدفعا وتجهيزات عسكرية أخرى استُعملت في تسليح فرق الحراسة على أبواب القصر، ولتعزيز صفوف الجيش.
كان لدى السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام وزير شهير اسمه ابن إدريس. هذا الوزير كان بمثابة مستشار عسكري، اقترح على السلطان إحداث فرقة من الحرس، اكتسبت شهرة واسعة في ذلك الوقت، وكانت بداية تأسيس الحَرس السلطاني، وفق التقاليد المخزنية المرعية على عهد العلويين. وكان من أشهر ما يميز فريق الحَرس، سلالة الخيول التي يمتطيها الفرسان المرافقون لموكب السلطان، وهو ما أثار إعجاب الدبلوماسيين الأجانب الذين حلوا ضيوفا على المغرب في عهد المولى عبد الرحمن. إذ كان اهتمام الأجانب منصبا على أصالة الخيول التي يركبها الفرنسان من حراس موكب السلطان وسلالتها العربية النادرة، أكثر مما اهتموا بتفاصيل لباس أولئك الجنود. وهو للإشارة لباس مغربي لم تدخل عليه وقتها أي تعديلات أو تحسينات عسكرية.
وبحسب ما أورده عدد من الباحثين والمؤرخين المغاربة، فإن «الثورة» التي أحدثها السلطان عبد الرحمن بن هشام في صفوف الجيش المغربي، أثارت حفيظة العثمانيين، خصوصا في الجزائر وتلمسان وتونس، ورغبوا في تقليد الخطوات التي أقرها السلطان المغربي. وما زاد من حنق العثمانيين، أن السلطان أطلق لقب «الباشا» لأول مرة على العسكري الذي ترأس فرقة من الجيش كانت تتكون من 1600 جندي مغربي، ارتأى السلطان أن يجعلهم نخبة الجيش وتكلفوا بحراسة عاصمة حكمه. ورأى العثمانيون في إحداث هذه الفرقة منافسة لهم، علما أن الجيش العثماني وقتها كان يعاني من ضعف كبير وتكبد هزائم متتالية.
للإنصاف التاريخي، فإن حملة المولى عبد الرحمن كانت في الحقيقة استئنافا لما كان قد أطلقه جده السلطان المولى إسماعيل، وهو الذي يُنسب إليه فضل تأسيس أشهر جيش مغربي على مر التاريخ، ويتعلق الأمر بجيش البخاري.
هذا الجيش، الذي يصنفه المؤرخون على أنه نواة أولى لتأسيس الجيش العسكري المغربي والحَرس المرافق للسلطان في رحلاته داخل المغرب.
اختار المولى إسماعيل نخبة هذا الجيش، وجعلهم في فرقة خاصة ترافقه في تنقلاته، وتشارك في الصفوف الأولى للمعارك.
لكن الحملة الإصلاحية للجيش التي أطلقها المولى إسماعيل، قبل وفاته سنة 1727، لم يكتب لها أن تستمر بعد ذلك لأسباب سياسية واقتصادية. وأعاد المولى محمد بن عبد الله إحياء هذه الإصلاحات، واشتغل تحت إمرته عسكري مغربي شهير اسمه محمد بن حدو الدكالي، كان أول من اعتمد في تكوين فرق الجيش على طلبة مغاربة درسوا الهندسة الحربية في أوروبا، وكان عددهم 100 طالب.
ولم يكن المخزن المغربي وقتها يفكر في تدريب فرقة للحرس السلطاني تشتغل في القصر الملكي، بل كان التركيز منصبا فقط على تكوين أطر الجيش. ولم يُكتب أن يتم تطوير فرق الحرس داخل القصر الملكي، إلا عندما اهتم السلطان الحسن الأول بعد 1880 باستقبال الوفود الأجنبية بما يليق بها من تقاليد الاستقبال وعزف المقطوعات الموسيقية، التي تؤدى من طرف الجيوش الأجنبية في مناسبات مماثلة.
لكن، لولا بدايات الإصلاحات العسكرية التي استمرت لقرابة 200 سنة، لما سُجل انفتاح مبكر في المغرب على التكوين الأجنبي لأطر الجيش وفرقه، وربما كان الأمر ليتأخر عقودا أخرى، ما كان الحرس السلطاني ليتأسس بالطريقة التي ظهر عليها في بداياته المبكرة.
قبل نفي السلطان محمد بن يوسف.. مشهد حرس القصر يأسَرَ ألباب السياح
كان مشهد السياح الأجانب، بآلات التصوير، أمام القصر الملكي بالرباط أيام السلطان محمد بن يوسف، في بداية خمسينيات القرن الماضي، يكاد يكون مألوفا لكل الذين يأتون، صباح يوم الجمعة، لرؤية السلطان وهو في طريقه إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة.
أحد هؤلاء السياح الأجانب، لم يكن عاديا. يتعلق الأمر هنا بالكاتب البريطاني برنارد نيومان، أثناء رحلته إلى المغرب، حيث كتب في مذكراته، التي سبق أن انفردت «الأخبار» بنشر ترجمة حصرية لها في مارس من السنة الماضية، وهو يصف الحرس السلطاني الذي كان يخلق الحدث في الرباط أثناء مرور موكب السلطان محمد بن يوسف من القصر إلى المسجد، مرورا بمقر الإقامة العامة الفرنسية.
وثق هذا الكاتب لمشهد مرور حرس القصر الملكي، قائلا:
«اقترب موكب من القصر الملكي. اتخذ أحد سلاطين الأزمنة القديمة، حارسا أسود البشرة، وقد تم الحفاظ على هذا التقليد.
كانت الفرقة النحاسية تتقدم طريق الموكب، وتعزف بشدة. ثم يليها الحراس المشاة. كانوا يلبسون سترات زاهية قرمزية اللون، وسراويل فضفاضة بشكل غير عادي.
لم أستطع تخمين، كم تحتاج خياطة كل زي من ملابس الحراس، من مادة الصوف. ولا بد أن ذلك الزي كان أكثر لباس غير مُريح يمكن ارتداؤه في الصيف المغربي!
يتبع هؤلاء، الحراس من فرسان الخيالة. كانوا أيضا يرتدون ملابس مماثلة. وكانوا يمتطون خيولا عربية، وكان كل واحد منهم يحمل في يده رمحا وراية خضراء.
اتخذوا جميعا مواقعهم. الحراس المُشاة وقفوا بالقرب من القصر. والفرسان في اتجاه المسجد. كانت الفكرة إبقاء الحشد بعيدا بحوالي خمسين ياردة عن طريق الموكب، حتى لا يفكر أحد ما في إظهار إخلاصه بشكل مبالغ فيه. ومع ذلك، فإن الناس كانوا يتجولون، إلى حدود اللحظة، بكل حرية، ويتحركون داخل وخارج الصفوف القرمزية التي شكلها الحراس.
فاجأتني واحدة من هذه الاستعدادات بالأمر التالي: كل واحد من الحراس كان يرتدي حزاما مصنوعا من الجلد، مع مشبك من النحاس الأصفر. أصبتُ بالدهشة، وأنا أرى نقشا على الحزام بالأذرع البريطانية، مختوما بعبارة فرنسية: «الله والحق».
اتجهت صوب الحارس الموالي، ولكن مشبك حزامه كان يحمل شارة فرنسية.
تفسير هذا الأمر سوف يأتي لاحقا.
بعد فترة من الترقب والفضول، علمتُ أن جهاز الحراس المكون من العبيد السود، تم إحياؤه من قبل ذلك المغامر الأسكتلندي «القايد ماكلين»، الذي كان في قلب الشؤون المغربية في بداية هذا القرن. وقد صمم زيا موحدا بخطوط تقليدية، لكن بسراويل زرقاء اللون، واشترى للحراس أحزمة وأقفال بريطانية. والفرنسيون بطبيعة الحال فرضوا أنماطهم الخاصة عندما استولوا على المغرب. لكن الأحزمة البريطانية كانت أفضل من أن تضيع، وبعضها ما زال قيد الاستعمال.. قدمت الفرقة لحنا عسكريا، كان يمزج ما بين الإيقاعات الغربية والعربية.
ظهر موكب صغير من بوابة القصر، يرافقون عربة. انضمت مجموعة من الحراس إلى المسيرة: السلطان كان ذاهبا إلى المسجد.
اصطف الأعيان في خط طويل. وانحنوا راكعين بمجرد ما أن مر السلطان أمامهم».
هذه الجزئيات التي نقلها الكاتب هنا، تحيل فعلا على مرحلة حاسمة غيرت أمورا كثيرة في ما يتعلق بلباس الحرس في القصور الملكية، وإدخال «التحسينات الأوروبية» عليها، وهو ما أكده كُتاب بريطانيون تناولوا الدور الذي لعبه القائد ماكلين في إدخال هذه التغييرات.
القائد ماكلين.. العسكري الأسكتلندي الذي عهد إليه الحسن الأول بتحديث الحرس
بعد سنة 1870، رغب السلطان الحسن الأول في إدخال تعديلات كثيرة على نظام الحرس الخاص في القصر الملكي بفاس، خصوصا وأن المغرب في عهده صار يستقبل وفودا أجنبية من جنسيات مختلفة، سبق لسفراء مغاربة أن زاروها وعادوا منها منبهرين بحداثة وأناقة جنود الحراسة في قصور أوروبا.
وفي هذا الوقت، كان العسكري الأسكتلندي «السير ماكلين» قد قرر الاستقرار نهائيا في المغرب، متجها إليه من مضيق جبل طارق، حيث أدى الخدمة العسكرية، قبل أن يقرر الاستقالة، ويبحث عن بداية جديدة لنفسه رغم أن سنّه في ذلك الوقت قد تجاوزت الستين.
جمعت صداقة متينة بين هذا الخبير العسكري، وبين الصحافي البريطاني والتر هاريس. المرة الأولى التي التقيا فيها، كانت في القصر الملكي بفاس، عندما كان والتر هاريس يرافق وفدا وزاريا بريطانيا حل في المغرب للقاء المولى الحسن الأول سنة 1892، ومن هناك انطلقت الصداقة بين الرجلين. وقد كتب والتر هاريس في مذكرات رحلته الأولى إلى قصر فاس، في السنة نفسها، حيث التقى المولى الحسن الأول، نُترجم هنا المقطع الذي تحدث فيه عن دور «السير ماكلين» في تدريب الحرس السلطاني والجيش المغربي عموما، وقد نجح ماكلين في المهمة، بدليل أن السلطان قرر أن يمنحه لقب «القايد»:
«في ما يتعلق بموضوع الجيش المغربي، فهناك بعض التفاصيل التي قد تكون مثيرة للاهتمام. الجيش المغربي ينقسم إلى قسمين، هناك العسكر، أي النظاميون، وهناك المخازنية، وهم وحدات من الجنود، أو على الأصح يشبهون وحدات «اليومانري» عند الإنجليز.
وتحت قيادة القائد ماكلين، تغيرت الأمور بسرعة – لقد تغيرت بسرعة كبيرة جدا مقارنة مع وتيرة التغيير في قطاعات أخرى في المغرب- وتحولت من حشد غير منظم، إلى مجموعة من الرجال المدربين جيدا نسبيا. ازدادت أعدادهم، وربما في الوقت الحالي فإن السلطان لديه حوالي خمسة وثلاثين ألف جندي نظامي يوجدون تحت تصرفه وإمرته، وستون أو سبعون ألفا أخرى غير نظاميين (غير نظاميين جدا) بإمكانه استدعاؤهم للحرب، كلما استدعت الضرورة ذلك.
العسكريون مُسلحون في الغالب ببنادق من نوع «وينشيستر».
أما زيهم العسكري الموحد فيتكون، أو يفترض أنه يتكون، من سترات حمراء مع جديلة صفراء، وسراويل فضفاضة زرقاء مصممة على الطراز التركي يصل طولها إلى الركبتين، وتبرز أرجلهم عارية ويلبسون أحذية صفراء، و«طربوشا» قرمزيا، أو ما يسمى طربوش فاس. ومع ذلك فإن هذا الزي يعرف تنوعا واختلافا.
لقد سمعت قصصا كثيرة عن بطولات هؤلاء الرجال، ولديهم فعلا فرص كثيرة لإظهار مهاراتهم. ففي كل صيف ينخرطون في الخدمة الفعلية لمواجهة قبيلة ثائرة، يقاتل رجالها بنوع من اليأس».
صحيفة «التايمز» البريطانية أشادت بحَرس السلطان سنة 1892
لم يفت الصحافي البريطاني الشهير والتر هاريس، أن ينشر عددا من كتاباته عن المغرب، في صحيفة «التايمز». وبعض تلك المقالات المنشورة والتي تحمل توقيعه، كُتبت قبل أن يشتغل رسميا لصالح «التايمز».
ومنها هذا الربورتاج الذي نُشر أولا في كتاب «The Land of an African Sultan»، والذي انفردت «الأخبار» بترجمته حصريا. وبعد صدور الكتاب الذي تدور أحداثه في سنة 1887 و1889، أعاد والتر هاريس نشر مضامين منه في صحيفة «التايمز»، ومنها هذا المقطع الذي وصف فيه، بشكل دقيق، الحرس السلطاني، وطقوس الموكب الملكي الذي رافق الوفد البريطاني للقاء السلطان الحسن الأول، في القصر الملكي بمراكش.
ومن بين أقوى ما جاء فيه: «قبل أن نتجه إلى «القبة الصغيرة»، حيث كان مقررا أن تتم مراسيم الاستقبال، قدم لنا فطور خفيف، وقبل الثامنة صباحا بربع ساعة، ركبنا على ظهر الخيول. كان المنظر في الحديقة مبهرا. كان مشهد أشجار الزيتون يبدو مختلفا عن منظر اليومين، اللذين قضيناهما في الحديقة. كما أنها كانت تغص بالرجال المسلحين، ليس فقط الذين أعطيناهم لباس الحرب لدينا، بل أيضا بعض المغاربة الذين كانت مهمتهم خفر موكبنا إلى لقاء السلطان، وكانوا يرتدون بدورهم جلابيب ناعمة ناصعة البياض مثل الثلج، ومن خلال ثنايا الجلابيب، كانت تظهر الألوان الفاقعة لقفاطينهم الموزعة بين القرمزي والأخضر والأصفر اللامع. في حين أن خيولهم التي لم تتوقف عن الصهيل كانت تضيف تأثيرا خاصا للمشهد، وكان يمسك بلجام كل حصان منها، جندي من المشاة يقودها إلى الأمام، ويرتدي جلبابا متدرجا بين اللونين القرمزي والأزرق.
.. كانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحا، قبل أن نبدأ المسير. عند بوابة قصر المامونية، وجدنا صفا طويلا من جنود الخفر إلى القصر في انتظارنا، وما أن مررنا أسفل أقواس البوابة، حتى أطلق عازفو الأبواق ضجة عارمة. وبعد دقيقة من التوقف، عدنا مرة أخرى إلى استئناف طريقنا في اتجاه القصر، بعد أن صار صف القوات الجديدة التي تخفرنا في اتجاهه، في ذيل الموكب.
لم تكن الطريق إلى قصر السلطان طويلة، رغم أن مدة قطع تلك المسافة كانت كافية، لكي تغطينا بطبقة لا بأس بها من الغبار، قبل أن نصل إلى وجهتنا إلى «القبة الصْغيرة».
وبعد عبورنا عبر قنطرتين جميلتين نوعا ما، تم الإعلان عن اقترابنا، عند كل واحدة منهما، بإطلاق الأبواق، إلى أن دخلنا ساحة القصبة الكبيرة التي يطل عليها القصر. وهي الساحة التي وجدناها مليئة عن آخرها، بقوات الجيش. وكان المُشاة يحيطون بنا من اليمين، بينما الخيالة يرافقوننا من جهة اليسار، بعد أن ترجلوا من فوق خيولهم، ووقف كل واحد منهم عند رأس فرسه.
بدا لنا أنه من غير المعقول، تقريبا، أن يتمكن المغرب من إرسال هذا العدد الكبير من الجنود إلى هذا المكان، لأننا علمنا بعد ذلك من مصادر موثوقة، أن ساحة القصر كان تعج بما لا يقل عن اثنين وعشرين ألف رجل.
في قلب تجمع القوات العسكرية، كانت هناك مساحة مفتوحة تُركت فارغة، جُمعت فيها البغال التي كانت تحمل هدايا الحكومة البريطانية إلى السلطان. وأمام أحمال الهدايا، يقف زوجان من المهور الصغيرة من سلالة «شاتلاند». أحدهما يقوده الخادم الألباني التابع لـ«السير ويليام»، بينما المُهر الثاني يقوده واحد من المغاربة».