كريم أمزيان
في سنة 2013، تفجرت فضيحة اختلاس أموال الهيأة الوطنية للأطباء، التي كانت في بدايتها عبارة عن جمعية للأعمال الاجتماعية للأطباء، قبل أن تتحول إلى هيأة تتكفل بمنح تعويضات لمنخرطيها، في حالات الوفاة أو المرض وغيرها، من الأوضاع المشار إليها في قانونها الأساسي. اكتشاف اختلاس أموال الهيأة تزامن مع اختفاء أحد موظفيها الذي التحق بها محاسباً، لما كانت جمعية في سنة 1998، قبل أن يتقرر تغيير اسمها، فتحولت إلى الهيأة الوطنية للأطباء. وخلصت الأبحاث والتحريات إلى أنه هو المتهم الوحيد داخل الهيأة المسؤول عن ذلك، ما جعل عناصر الشرطة تحرر مذكرة بحث في حقه، ليجري اعتقاله بناءً عليها، بتعليمات من النيابة العامة، قبل أن يصبح متهما إلى جانب زوجته وصهره وبنكي.
في سنة 2013، طلب المحاسب (ج.ش) من رئيس الهيأة الوطنية للأطباء، إحصاء مداخيل واجبات الانخراط التي يؤديها الأطباء، خاصة المتأخرة منها، وذلك قصد تتبع زيادة المداخيل، ولمعرفة مدى نجاعة الإجراءات التي تم اتخاذها، على ضوء اتفاق جرى التوصل إليه في شهر شتنبر 2008، يفرض أداء الأطباء المتأخرين لواجبات الانخراط، عن الخمس سنوات الأخيرة فقط، غير أنه بعد ذلك بأيام بدأ يتهرب من الموضوع، ولم يمتثل لطلباته، ما أثار شكوك الرئيس وجعله يراجع الحسابات، بمساعدة موظفين آخرين، فاكتشف أن قيمة مداخيل الانخراط لا تتوافق مع عدد المنخرطين المسجلين، وأن هناك اختلالات مالية، تأكد من وجودها، بمجرد ما تراجع المحاسب الذي خشي أن يقع في «فخ» وهو يجري العملية الحسابية، التي سيضبط من خلالها مالية الهيأة.
وحتى يكون شكه مبنياً على اليقين، عمل رئيس الهيأة على مراسلة كل الهيآت الجهوية التابعة للهيأة الوطنية، وذلك قصد التأكد من واجبات الانخراط، التي عملوا على إرسالها للهيأة، وكذا من أجل موافاته بنسخ الشيكات البنكية التي بعثوها إلى المقر المركزي للهيأة، خصوصاً لما تفاجأ بأن الهيأة تتوفر على حساب بنكي ثان، تحت رقم R00007021210 446، دون أن يكون ذلك في علمه، قبل أن يتبين له أن المحاسب تعمد عدم إخباره بوجوده، على الرغم من أن فتحه كان في 1998، فسأل عن دواعي فتحه، فتبين له أنه حساب بنكي ثانوي، تضامني واجتماعي أحدث لغاية إنسانية.. بعد ذلك، تبين له أن الأموال المختفية جرى اختلاسها من الحساب نفسه الذي لم يكن له به علم.
شكاية بعد الشك
أول ما قام به الرئيس، بعدما تأكد من موضوع «الاختلاس» بطريقته الخاصة، قدم شكاية مباشرة إلى النيابة العامة، ضد المحاسب المذكور، من أجل اختلاس أموال عمومية، واستناداً إليها جرى فتح تحقيق في الموضوع.
المعطيات التي أفاد بها الرئيس عناصر الشرطة القضائية التابعة للمصلحة الولائية للشرطة القضائية، بولاية أمن الرباط سلا- تمارة- الخميسات، بتاريخ 06 ماي 2015 واليوم الذي يليه، أبرزت أن المتهم استغل الحساب المذكور، بحسب تأكيد الرئيس في أقواله، والذي شدد من خلالها على أن المتهم عمل على اختلاس أموال الهيأة المكونة من واجبات الانخراط، وكذا واجبات الاشتراك التضامنية، إذ أوضح الرئيس أن المتهم كان يدفع الشيكات البنكية الخاصة بواجبات الانخراط، بهذا الحساب، بدل دفعها بالحساب البنكي للهيئة المفتوح لدى البنك الذي يعرفه الجميع في الهيأة، والذي كان من المفروض أن يستعمله، وهو الأمر الذي كان يفعله، حتى لا يعلم أحد بعمليات الاختلاس، وحتى لا يحتاج الرجوع إلى الرئيس من أجل توقيع الشيكات.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وفق تصريحات الرئيس، بل تجاوزه إلى أمر آخر متعلق بإخفاء المحاسب أمر الصندوق البريدي المفتوح لدى شركة «بريد المغرب»، بوكالة مدينة العرفان، بحسب ما ذكره، وذلك حتى يتمكن المتهم من التوصل بمفرده، ودون غيره، بكشوفات الحساب البنكي التضامني المفتوح لدى وكالة بنكية أخرى.
وبمجرد اكتشافه هذه الاختلالات والتلاعبات المالية، راسل الرئيس المؤسسة البنكية التي يعرف الجميع أن الهيأة فتحت لديها حسابا بنكيا، وطلب منها موافاته بكشوفات حسابية، فتأكد بعد تفحصها، من أن المحاسب قام بسحب جميع المبالغ المالية، باستعمال شيكات بنكية تصل إلى حوالي 20 شيكا في اليوم الواحد، أو عن طريق السحب المباشر، ولا تستثنى من ذلك سوى التعويضات الممنوحة لمستحقيها بموجب الملفات الطبية، التي جرت معالجتها بطريقة قانونية، ومبلغ 5332.63 درهما، الذي بقي في الحساب.
وأوضح الرئيس أن المتهم عمل قصد إخفاء ما اقترفه من اختلاسات، على دفع شيكات بين الفينة والأخرى، فيها مبالغ تهم واجبات الانخراط، في الحساب البنكي الرسمي للهيأة، لأنه كان هو الوحيد الذي يتوصل بها، وكان واجبا عليه دفعها في حساب الهيأة بالبنك، فضلا عن دوره في استقبال الملفات التضامنية، سواء الطبية منها أو المتعلقة بالوفاة، أو بالمشاكل المالية للمنخرطين أو لذويهم، إذ هو من كان يعد شيكات المساعدات التي يتكلف بتوقيعها طبيبان منتخبان وطنيا كأميني صندوق التضامن.
التطور المثير الذي لم يكن في حسبان الهيأة، هو اختفاء المحاسب عن الأنظار، خلال فترة التحري والبحث في الموضوع من قبل مسؤولي الهيأة، فانقطع الاتصال به، ولم يعد يحضر إلى مقر الهيأة، قبل أن تظهر زوجته، وسلمت مفاتيح المكتب للإدارة، وأكدت لأحد المسؤولين أنه سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، قبل أن ينتهي إلى علم الرئيس أن المتهم فوض لزوجته بيع كل ممتلكاته العقارية، قبل لحاقها به هناك، حيث تقيم إحدى أخواته.
اعتقال بعد العودة
مباشرة بعد عودة المتهم، استمعت إليه الشرطة القضائية، بأمر النيابة العامة، في حالة اعتقال، فصرح لها بأنه مكلف بالمحاسبة لدى الهيأة الوطنية للأطباء، ومسؤول عن استقبال ملفات المنخرطين فيها، والرامية إلى الاستفادة من التعويض عن المرض، والمرض المزمن والإعاقة، وملفات التعويض عن الوفاة.
من جانبه، لم ينف المتهم أنه عمل على سحب أموال بواسطة شيكات بنكية صادرة في اسمه كمستفيد، وعددها 57 شيكاً، تبلغ قيمتها الإجمالية 2.785.000.00 درهم، لكنه أكد أنه سلمها للأطباء المستفيدين منها أو ذويهم نقداً، مقابل التوقيع له على وثائق تثبت توصلهم بالتعويض الذي تم سحبه، غير أنه قال إن هذه الوثائق ضاعت منه في ظروف غامضة.
والمثير في العمليات أن الأشخاص الذين أكد المتهم أنهم تسلموا تلك المبالغ، نفوا علمهم بها، أو استفادتهم من أي مبلغ، بل ومنهم من نفوا وجود علاقة تربطهم بالهيأة الوطنية للأطباء، على الرغم من تسجيلهم أسماءهم وأرقام بطائقهم الوطنية.
وكان من الضروري أن تكشف التحقيقات سبب مغادرة المحاسب المتهم أرض الوطن، وبالضبط في 04 يونيو 2013، وهو اليوم نفسه الذي وقع فيه لصهره المدعو (ع.إ.ر)، والبالغ من العمر 63 سنة، وكالة مفوضة لبيع جميع ممتلكاته، وتسليم جميع المبالغ المتحصل عليها من ذلك لزوجته (س.ر)، من أجل أداء أقساط منزل كانا يسكنان فيه، فيما سافر لرؤية شقيقته التي كانت مقبلة على إجراء عملية جراحية.
واكتملت التحقيقات بالاستماع إلى المتهمين، وإلى شهود داخل الهيأة وبعض من جرى تسجيل أسمائهم على أنهم استفادوا، فقرر قاضي التحقيق بالغرفة الخامسة، المكلف بجرائم الأموال، إحالتهم على غرفة الجنايات الابتدائية، من أجل عرضهم على أولى جلسات محاكمتهم.
المتهمون الأربعة
قبل نطق المحكمة بأحكامها في الملف في حق المتهمين الأربعة، شرعت الهيأة القضائية، في إحدى الجلسات، بعد تجهيز الملف، في الاستماع إلى مرافعات دفاع الأطراف، والوكيل العام للملك، بمحكمة الاستئناف، بشأن هذا الملف الذي يتابع فيه المتهم الرئيسي؛ (ج.ش) بتهمة «اختلاس وتبديد أموال عمومية والتزوير في محررات بنكية واستعمالها»، وموظف البنك (ع.م.ب) بـ«المشاركة مع المتهم الأول في اختلاس وتبديد أموال عمومية»، فيما تابع قاضي التحقيق في الغرفة الخامسة بالمحكمة ذاتها، زوجة المتهم (س.ر) التي تشتغل خياطة بـ«إخفاء أشياء متحصلة من جنايات مع علمها بظروفها»، وهو صك الاتهام نفسه الذي يتابع به أبوها (ع.إ.ر) القاطن في مدينة مكناس، قبل أن تؤجل المحكمة الملف إلى آخر جلسة، لإعطاء المتهمين فرصة للإدلاء بآخر كلمة.
وكانت الهيأة القضائية المكلفة بقسم جرائم الأموال، بغرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بالرباط، خصصت جلسات سابقة لمناقشة كل فصول الملف، حيث استمعت إلى إفادات المتهم الرئيسي المتابع في حالة اعتقال، بسجن سلا، والذي رفضت تمتيعه بالسراح المؤقت، وتصريحات المتهمين الثلاثة الآخرين، المتابعين في حالة سراح، مذكرة إياهم بأنه بالرجوع إلى معطياته التفصيلية، يتبين أن الملف تفجر بعد شكاية للهيأة الوطنية للأطباء، بعدما ظهر لمسؤوليها أن المتهم الرئيسي الذي ولج جمعية الأعمال الاجتماعية للأطباء، سنة 1998، والتي غيرت اسمها في سنة 1984، وتحولت إلى الهيأة الوطنية للأطباء، وتتكفل بمنح تعويضات لمنخرطيها، في حالات الوفاة أو المرض وغيرها من الأوضاع المشار إليها في قانونها الأساسي، يشتبه في تورطه في اختلاس أموالها، وأخذ مستحقات منخرطين دون علمهم، ودون أحقيتهم فيها في بعض الأحيان، ما جعل قاضي التحقيق، بعدما فرغ من إجراءات التحقيق بمرحلتيه الإعدادي والتفصيلي، يوجه إليه تهمة سحب مبالغ مالية كبيرة، عبر شيكات، من خلال عمليات يومية وصلت في بعض الأحيان إلى 20 عملية في اليوم، على الرغم من نفيه ذلك، مؤكداً، خلال مناقشة الملف، في جلسة علنية، أنه كان يقوم بذلك باتفاق مع المعنيين بالأمر، وأنه يعمل فقط على مساعدتهم، وأن بعضهم كان يأتي إليه إلى مكتبه ويتكلف له بعملية سحب تعويضاته، في الوقت الذي شدد هؤلاء (الأسماء التي يسحب أموالها)، خلال استجوابهم في كل مراحل البحث والتحقيق، على أنهم لا يعرفون مقر الهيأة الوطنية للأطباء أصلاً ولم يزوروها قط، ومن بينهم شخص يدعى (م.و) وهو متقاعد أكد، خلال البحث معه، أنه متقاعد بالقوات المسلحة الملكية، ولا تربطه أي صلة بالأطباء. ومن أجل تنوير المحكمة، اضطرت الهيأة القضائية المكلفة بقسم جرائم الأموال، بغرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بالرباط، إلى استدعاء شاهدين، هما مسؤولة سابقة في مكتب الهيأة، والسائق الذي كان المتهم الرئيسي يرسله إلى الوكالة البنكية، واللذان أدليا بشهادتهما في الملف، خصوصاً السائق الذي أكد أن المتهم الرئيسي أرسله أكثر من مرة، لأخذ مظروف مغلق لا يعرف محتواه، من الوكالة البنكية. ولم تغفل المحكمة الاستماع إلى المتهم (ع.م.ب) المستخدم البنكي، وساءلته عن الأسباب التي جعلته يمنح قيمة شيكات إلى المحاسب المتهم، على الرغم من عدم حضور المعنيين بها، وهو ما لم ينفه، غير أنه أكد أن ذلك لم يتعد مرة أو مرتين، في حين أن الشاهد أوضح أنه انتقل غير ما من مرة، بأوامر من (ج.ش) المحاسب المتهم، إلى مقر الوكالة البنكية، وأخذ مظروفاً لا يعلم محتواه، وقدمه إليه، قبل أن تنادي على زوجة المتهم وأبيها، اللذين اعترفا بأنهما تكلفا ببيع عدد من ممتلكات زوجها، لما سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أياماً قليلة قبل صدور مذكرة بحث عنه، غير أنها أكدت أن ذلك كان بغرض أداء ديون متراكمة عليه، ومساعدة أخته من أجل إجراء عملية جراحية خارج البلد، وليس لأي هدف آخر، فيما نفى أبوها علمه بأي تفاصيل من هذا النوع، وجهله بها، إلى حين تفجر الملف واستدعاء زوج ابنته من أجل التحقيق معه، ثم اعتقاله بأمر من النيابة العامة والشروع في إجراءات البحث التمهيدي معه من قبل عناصر الشرطة القضائية، قبل إحالة الملف على الغرفة الخامسة باستئنافية الرباط، ثم تعيين أول جلسة لمحاكمته بمعيّة المتهمين المتورطين معه.
وبعدما استوفت الهيأة القضائية المكلفة بقسم جرائم الأموال، بغرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بالرباط، كل مراحل الملف، طوته مساء 14 مارس الماضي، وحكمت على المتهم الرئيسي (ج.ش) بأربع سنوات حبساً نافذاً، فيما قررت الحكم على زوجته (س.ر) وأبيها (ع.إ.ر) بسنتين حبساً موقوف التنفيذ لكل واحد منهما، وبرأت المتهم الرابع موظف البنك (ع.م.ب).