هذه أشهر الحملات التطهيرية بالمغرب
عندما تنتفض الدولة ضد النافذين وتبدأ «الحساب»
يونس جنوحي
«في سنة 1957، وصل إلى علم الملك الراحل محمد الخامس ما يفيد بأن بعض المقربين من القصر استغلوا مناصبهم ومسؤولياتهم وعرقلوا حصول بعض عائلات يتامى المقاومة بالإضافة إلى استغلال بعض الملكيات التي تركها المعمرون الفرنسيون وراءهم.
باشر الملك الراحل حملة تطهيرية سرية ومصغرة للتأكد أولا من صحة تلك المعلومات، ولم تتخلل الحملة أي إعفاءات إلا أنها كانت مزلزلة. وحسب المؤرخ الراحل عبد الكريم الفيلالي، فإن الملك الراحل محمد الخامس جمع بعض هؤلاء المتورطين بشكل منفرد ونصحهم في قلب قاعة العرش وبعضهم خروا متوسلين إليه للعفو عنهم ووعدوا ألا يعودوا لفعلتهم.
كانت الدولة المغربية وقتها بالكاد تتأسس ولم تكن هناك لجان حكومية لتتبع هذه الأمور ولا حتى تمثيليات قضائية تنسق مع الملك شخصيا لمعاجلة مثل تلك الملفات.
وكانت هذه بالضبط أول حملة رسمية سرية ضد الفساد الإداري والمالي في مغرب الاستقلال».
رجال أشهر الحملات التطهيرية.. من حملة 1996 إلى المحاسبات السرية
في سنة 1996 كان إدريس البصري هو البطل الأول للحملة التطهيرية التي أطلقها الملك الراحل الحسن الثاني ضد الفساد المالي واستغلال النفوذ والتهرب الضريبي والتلاعب بالأموال العمومية وعرقلة استخلاص الضرائب.
كانت الحملة في الحقيقة مناسبة اختار لها الملك الحسن الثاني أن تكون بداية لإعادة التوازن إلى الاقتصاد المغربي المنهك في أواسط التسعينيات بسبب التهرب الضريبي الذي مارسه رجال أعمال مغاربة نافذون. كان الأمر أكبر من غضب ملكي على مكونات الاقتصاد المغربي والسياسيين على حد سواء. بل كان الأمر يتعلق بقطع مع بعض الممارسات، خصوصا وأن الحملة سبقتها دعوة من الملك الحسن الثاني في أحد المجالس الوزارية، وجه فيها أمرا إلى وزيره القوي في الداخلية، إدريس البصري، لكي يعد له تقارير عن الأنشطة الاقتصادية لبعض السياسيين، خصوصا وأنه دعا في خطاب ملكي كافة المكونات إلى الاستثمار وترويج رؤوس أموال مغربية وأداء الضرائب بشكل قانوني للدولة ووضعت تسهيلات لذلك الغرض، لكن لم تكن هناك أية استجابة، وهو ما جعل الملك الراحل يباشر الحملة التطهيرية.
المؤسف أن الحملة استغلت سياسيا لتصفية حسابات كثيرة بين مختلف الأطياف. وحتى نكون أكثر دقة، فقد استغلها إدريس البصري شخصيا للضرب على أيدي الذين لم يكن يتفق معهم، وقدم الحماية الضرورية للذين كانوا يدينون له بالولاء التام والمطلق، رغم تورطهم في قضايا فساد، لكنهم انتشلوا منها ولم تطلهم أية متابعات رغم أنهم كانوا غارقين في التزوير والتلاعبات والتهرب الضريبي.
كان إدريس البصري بطل تلك السنة، لأن الصلاحيات التي كانت لديه خلال تلك العملية كانت كافية لتسديد ضربة موجعة وقاتلة للفساد الذي كان ينخر دواليب الاقتصاد المغربي. لكن الحسابات الضيقة والشخصية أحيانا جعلت الحملة التطهيرية الرسمية تخرج عن سياقها، وهو ما انتبه له الملك الراحل الحسن الثاني ليتدخل وينهي بعض الخلافات التي قامت على أنقاض تلك الحملة.
في المقابل، كانت هناك موجة محاسبات سرية أمر الملك الراحل الحسن الثاني بإطلاقها، سواء قبل الحملة التطهيرية الشهيرة سنة 1996 أو بعدها بفترة قصيرة. مثلا، في سنة 1992، طلب الملك الراحل الحسن الثاني من مستشاريه ومن وزير الداخلية تقارير عن الأنشطة الاقتصادية في مختلف المدن المغربية وعن الأسماء التي برزت في عالم الأعمال بهدوء بعيدا عن ضوضاء السياسة. تولى إدريس البصري القيام بجل تلك التقارير من خلال مكتب الشؤون السياسية التابع لوزارته، مستعملا الولاة والعمال في تلك التقارير، والنتيجة كانت إعداد لائحة اطلع عليها الملك الراحل الحسن الثاني بكثير من الاهتمام والحزم، خصوصا أن الداخلية اكتشفت وجود علاقات قرابة بين رجال الأعمال موضوع اللائحة وبعض الأسماء البارزة في دواليب الإدارات والمؤسسات.
وجه الملك الراحل الحسن الثاني مرات كثيرة، قبل 1996 بقليل، تحذيرات مباشرة لعدد من النافذين، وعاقب بعضهم بطريقة غير مباشرة وبشكل سري، خصوصا في الحالات التي كان واضحا فيها أن الثروة التي راكمها بعض المحيطين به لم تكن بوتيرة طبيعية.
ولعل أقدم حملة معلنة قام بها الملك الراحل الحسن الثاني قبل سنة 1996 كانت تعود إلى بداية السبعينيات، وبالضبط عندما توصل الملك الراحل بتقارير من الولايات المتحدة الأمريكية حملها إليه الكولونيل المذبوح، الذي أكد له في الأشهر الأولى من سنة 1970 أن مسؤولين أمريكيين ورجال أعمال كبارا يستثمرون في دول كثيرة، تعرضوا لمحاولات ابتزاز من مسؤولين مغاربة كبار مقابل التوقيع على تراخيص للاستثمار في الفنادق وبعض القطاعات الصناعية وبناء منشآت بمواصفات عالمية في المغرب. وكان رد الملك الراحل أن أمر فورا بسجن أولئك الوزراء بتهمة الفساد واعتبر الملف لاحقا خطوة ملكية لـ«فرك» آذان بقية المسؤولين. وتساءلت الصحافة الفرنسية وقتها عما إن كان الملك الحسن الثاني قد أطلق حملة على شاكلة حملات أمريكا اللاتينية، لإعدام المفسدين. وكانت بعض تلك المقالات متحمسة جدا. في حين أن الحملات التطهيرية على الطريقة المخزنية المغربية، كانت ضاربة في القدم، وتؤتي مفعولها على الطريقة المغربية أيضا، خصوصا بوجود وزراء في تاريخ المغرب أمثال رضا اكديرة وإدريس البصري.
عندما مارس النافذون حملات تطهيرية ضد بعضهم أيام «السيبة»
لن تكفي مئات الصفحات بالتأكيد لرصد كل المحطات التي حاربت فيها الدولة الفساد عبر التاريخ. لقد كانت الدولة على موعد طيلة القرنين الأخيرين، على الأقل، مع حملات تطهيرية، سرية وأخرى معلنة، للضرب على أيادي الفاسدين ومستغلي النفوذ والباحثين عن الاغتناء من المناصب المخزنية التي كانت تتأرجح بين القضاء وتمثيل السلطان. لكن المثير للاهتمام أن حملات تطهيرية أخرى لم يُسلط عليها الضوء الكافي، والتي تتمثل في الحملات التطهيرية التي قام بها النافذون والموظفون المغاربة ضد بعضهم. خصوصا عندما يتعلق الأمر بقياد المناطق الكبيرة في المغرب التي سيطرت عليها أسر بعينها لقرون من الزمن. أمثال عائلة الكلاوي في مراكش والريسولي في الشمال، وعائلة البغدادي التي انتقلت إلى الرباط في وقت لاحق بعد صراعات مريرة مع عائلات أخرى من وسط المغرب.
لن يتسع المجال لتعدادها جميعا، لكن سوف نورد هنا قصة حملة تطهيرية قادها الريسولي (وهو رجل نافذ اكتسب شهرة كبيرة في المغرب سنة 1907 عندما أصبح موضوع الصحافة البريطانية والفرنسية وحتى الألمانية والإيطالية لأن رجاله كانوا يهددون السلامة الجسدية للرعايا الأجانب في طنجة ويختطفونهم مقابل فدية من سفارات بلادهم في المغرب) ضد البغدادي، وكانت سببا في حرب كبيرة بين الرجلين دارت رحاها في طنجة والقصر الكبير والعرائش أيضا.
القنصل الأمريكي «هولت»، الذي اعتبر أول دبلوماسي أمريكي في المغرب، وثق تاريخيا لهذه الحرب بحكم أنه كان شاهدا عليها في نفس السنة، وكتب في مذكراته الدبلوماسية التي طبعت في نيويورك قبل قرن من اليوم: «القصر الكبير تشبه اسمها فعلا. رغم أن بعض منازلها مبني بطريقة غير أنيقة. بالإضافة إلى أن شوارعها فوضوية وبدائية وبها روائح نتنة. إنها أسخن منطقة مغربية زرتها حتى الآن. لم أر شتاءها نهائيا، لكني في هذا الجو المعتدل، أحس وكأن الشمس تركز على مدينة القصر الكبير لتجعل حرارتها مرتفعة. ما بين الربيع والخريف، يبقى الجو حارا دائما ولا يكون معتدلا نهائيا.
كانت هناك مساجد كثيرة في القصر الكبير. من سطح المنزل، كانت تبدو هناك عشرات القباب.
لحسن الحظ، لم يكن علينا أن نقيم في المدينة، وإنما مررنا عند الباشا، «القايد البغدادي». وحللنا بمنزل فخم بحديقة كبيرة، كان هدية من السلطان لهذا الباشا.
كان القايد البغدادي شخصا مثيرا للاهتمام بطريقة ما. لقد سبق له مرة أن جاء إلى مدينة طنجة فوق حصانه، واقتحم سوقها. كان يحمل في يده خنجرا وفي الثانية بندقية، وكان يصيح: أين الريسولي؟ أروني أين هو هذا الكلب ابن الكلب.
لم يعثر البغدادي على الريسولي، وإلا لكان عليّ أن أكتب عن أحدهما الآن بصيغة الماضي. لكن رجال البغدادي عثروا على أحد الحراس الشخصيين للريسولي، ومعه ثلاثون محاربا تحولوا فجأة من سوق طنجة إلى مكان عال. هناك آثار طلقات نارية لا تزال موجودة في باب الفندق الذي تركناه خلفنا في طنجة، ولا تزال شاهدة على تلك الواقعة».
لقد كانت كل الحملات التطهيرية الأخرى التي باشرها الأعيان ضد بعضهم في زمن السيبة على هذه الشاكلة، والمثير أن «المخزن» لم يكن يتدخل لإيقاف تلك الحروب، لأن المستفيد في الأخير هو الدولة، خصوصا وأن تلك المواجهات كانت تُنهي وجود فاسد واحد على الأقل على الساحة.
أقدم حملة ضد الفساد قام بها الملك الراحل محمد الخامس
في سنة 1957، وصل إلى علم الملك الراحل محمد الخامس ما يفيد بأن بعض المقربين من القصر استغلوا مناصبهم ومسؤولياتهم وعرقلوا حصول بعض عائلات يتامى المقاومة بالإضافة إلى استغلال بعض الملكيات التي تركها المعمرون الفرنسيون وراءهم.
باشر الملك الراحل حملة تطهيرية سرية ومصغرة للتأكد أولا من صحة تلك المعلومات، ولم تتخلل الحملة أي إعفاءات إلا أنها كانت مزلزلة. وحسب المؤرخ الراحل عبد الكريم الفيلالي، فإن الملك الراحل محمد الخامس جمع بعض هؤلاء المتورطين بشكل منفرد ونصحهم في قلب قاعة العرش وبعضهم خروا متوسلين إليه للعفو عنهم ووعدوا ألا يعودوا لفعلتهم.
كانت الدولة المغربية وقتها بالكاد تتأسس ولم تكن هناك لجان حكومية لتتبع هذه الأمور ولا حتى تمثيليات قضائية تنسق مع الملك شخصيا لمعاجلة مثل تلك الملفات.
أما الذين أسند إليهم الملك الراحل محمد الخامس مهمة التأكد من تلك المعلومات أو «الوشايات» التي وصلت إليه، فقد كانوا من مستشاريه المقربين وجلهم كانوا من ناشطي المقاومة، لكنهم اشتغلوا في دوائر المخزن أو نشؤوا داخلها وكانوا بعيدين تماما عن السياسة، لم يكونوا ينتمون إلى حزب الاستقلال ولا إلا لائحة الذين اقتُرحوا للمناصب. بمعنى آخر، لم تكن لهم أية صلة بالمعنيين.
كانت، إذن، حملة تطهيرية مصغرة، لكنها تركت رسالة لدى بقية المسؤولين مفادها أن الملك الراحل لم يكن يتساهل مع استغلال النفوذ وجمع الامتيازات بطريقة غير شرعية أو استغلال القرب من الملك. ورغم أن الملك الراحل وقتها كان يعيش على إيقاع خلافات سياسية بين ممثلي الحكومة المغربية الأولى الذين تم اقتراحهم عليه، وبين ممثلي الحركة الوطنية، حزب الاستقلال على وجه الخصوص، والذين كانوا يطالبون بإصلاحات ولم تعجبهم تركيبة الحكومة وضغطوا لكي يتم تعديلها قبل حتى أن تتم ستة أشهر على بداية أشغالها.
وعندما تدخل الملك الراحل محمد الخامس لإيقاف استغلال النفوذ، كانت مصادره المقربة تنقل إليه معلومات دقيقة عن قيام بعض المسؤولين باقتناء عقارات وحيازة رخص للنقل ورخص احتكارية في الجمارك، تركها معمرون فرنسيون خلفهم عندما غادروا المغرب في ظروف متباينة. فكان أول إجراء عقابي قام به الملك الراحل هو تجميد بعض تلك الرخص وإرجاعها إلى الإدارة في انتظار إعادة توزيعها على من يستحقها.
وقتها اكتشف الملك الراحل أن بعض الذين عفا عنهم بعد تورطهم في الخيانة عندما تعلق الأمر بشرعية عودته إلى العرش، كانوا في الحقيقة لا يزالون يحملون جينات «المكر»، وهو ما اضطره إلى اتخاذ إجراءات عقابية ضد بعض القياد وسحب منهم صلاحياتهم لأشهر، لكنهم رفعوا إليه ملتمسات بالعفو فعفا عنهم الملك الراحل في عيد الأضحى لسنة 1957 ثم في الذكرى الرابعة لعودته من المنفى، على ألا يعودوا لاستغلال نفوذهم مجددا.
قصة حملة محاربة فساد سرية أطلقها الحسن الثاني ودفنها أقرب مقربيه
لم يكن الأمر يتعلق هنا سوى بالمستشار رضا اكديرة الذي كان وزيرا للداخلية سنة 1963، بعد أن مر من منصب مدير ديوان ولي العهد عندما كان الملك محمد الخامس سنة 1957 قد أطلق حملته السرية غير الرسمية للضرب على أيادي أوائل المستغلين لمناصبهم في المغرب.
كان اكديرة، وهو وزير للداخلية، يقف على كواليس أول انتخابات في المغرب، ولسنا هنا بصدد إطلاق حكم قيمة على تاريخ الرجل ولا في مساره كرجل دولة. لكننا أمام رصيد تاريخي صاغته المعارضة ممثلة في تيار المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد، وآخرين أسسوا حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المُعارض منذ 1959. وهؤلاء جميعا اتهموا رضا اكديرة، وهو وزير للداخلية، بالوقوف وراء موجة إدخال الأعيان إلى السياسة وحثهم على منافسة المعارضة في الانتخابات، وبينهم أسماء كانت ذمتها المالية والسياسية موضوع مُساءلة، خصوصا وأن جل أولئك الأعيان كانوا من أعوان الاستعمار.
لعب اكديرة دورا كبيرا في إدخال عشرات الأسماء ويفرضها بالقوة خلال تلك الانتخابات، سواء الجماعية أو التي تتعلق منها بالبرلمان لسنة 1963، لمواجهة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. نفوذ اكديرة كان يستمد واقعيته من المنصب الوزاري وأيضا من قربه الكبير من الملك، ثم من «الفديك» أو الجبهة السياسية التي كان يترأسها والتي كان يمثل نفوذه على الأرض. وقبل ذلك جرّب الرجل قوته سنة 1962 عند أول استفتاء تاريخي في المغرب على دستور رسمي للمملكة، سنة واحدة فقط تقريبا بعد وفاة الملك الراحل محمد الخامس.
كان اكديرة يرتشف فنجان قهوته المسائية في أفخم فنادق الرباط، حيث كان ينتظر التحاق بعض الوزراء التابعين له، والذين كان أغلبهم ينتمون لأسر فاسية عريقة، ليعطيهم التوجيهات الجديدة لخوض غمار المنافسات البرلمانية، وكان، بحسب بعض الروايات التاريخية، يحذرهم من إعطاء أي تلميح لأحد حتى لو كانوا يثقون به، مخافة أن يصل الخبر إلى صحافة المعارضة ومنها إلى الصحافة الدولية التي كانت تراقب المغرب بغير قليل من الاهتمام.
هكذا كانت جلسة اكديرة مع المقربين منه تكتسي طابع السرية والحذر، لأنه كان يهيئهم لمرحلة مقبلة يصبحون فيها برلمانيين، وكان طموحه السياسي وقتها أن يهيمن على الحياة السياسية عموما ويقصي معارضيه، مستغلا منشآت الدولة وآلياتها في حملته الانتخابية، وهو الأمر الذي نتجت عنه مواجهات كبيرة مع منافسيه الذين لم يتقبلوا أن يكون اكديرة ومن في حزبه مرشحين فوق العادة في مناطق كثيرة.
لكن النتائج العكسية لكل هذا، كانت وصول عدد من الأعيان الذين كانت لهم طموحات تجارية وليس سياسية إلى دوائر القرار، وبدل أن يمارس الوزير توصيات الملك الراحل الحسن الثاني بخصوص براءة ذمة بعض المرشحين (وهنا تتجلى سرية الحملة التطهيرية) دعمهم فعليا وجعلهم تحت تصرفه لما كانوا يقدرون عليه من مراكمة الأصوات خصوصا في البوادي التي كانت تطغى عليها القبلية، ورغم ذلك اكتسحت المعارضة نتائج الانتخابات، ولا يزال الموضوع إلى اليوم مصدر سجال سياسي في صفحات مذكرات اليساريين الذين اختاروا كتابة مذكراتهم عن تلك الفترة التي عاشوها بكثير من الترقب، وخيبة الأمل أيضا.
برلمان 1963.. أول فرصة لتعرية النافذين وفضحهم
في ظرفية تأسيس أول برلمان مغربي، كان الملك الراحل محمد الخامس قد غادر الحياة وترك خلفه مغربا في طور تأسيس مؤسساته السيادية والتشريعية. في زمن محمد الخامس، لم تكن هناك آليات عقابية تستند إلى الدستور لكي يحاسب بها الرعاة الأوائل للفساد الإداري والسياسي في المغرب. كان قد مارس ضدهم سياسة شد الأذن والإعفاءات بعد إثبات التهم عليهم بطبيعة الحال.
عندما تقرر أن يُؤسس برلمان مغربي، يلجه نواب مغاربة، جرت تحركات غير عادية في أوساط الأعيان والنافذين في مختلف الأقاليم، عند بداية الستينات. فقد كان الملك الراحل الحسن الثاني قد أعطى وقتها انطلاقة لمغرب آخر، من الناحية الدستورية والتشريعية، ولم تكد سنة 1963 تلقي بظلالها على المغرب، حتى كانت البلاد قد حسمت في أمر أول دستور للمملكة، رغم الأصوات المعارضة، اليسارية خصوصا، والتي عارضت الاستفتاء عليه. لكن المسار استمر وتم تأسيس أول برلمان مغربي، مباشرة بعد الحسم في أول انتخابات جماعية في تاريخ المغرب، وهكذا كانت الأنظار كلها موجهة نحو الانتخابات التشريعية الأولى من نوعها في هذا الباب.
لم تكن سنة 1963، إذن، سنة عادية، وكانت أيضا مقدمة لـ«المأساة» الديموقراطية التي عاشها المغرب، والتي هدمت كل ما تم التأسيس له في بداية الستينات. إذ لم تكد سنة 1965 تودع المغرب، حتى أعلن الملك الراحل حالة الاستثناء في المملكة، وحل البرلمان. ما الذي وقع؟
لا بأس هنا أن نعيد استحضار بعض الكواليس المتعلقة بانطلاقة البرلمان، للوقوف على السياق العام لانطلاق انتقاد الفساد بشكل مُعلن تابعه المغاربة بكثير من الاهتمام.
يقول المؤرخ المغربي الراحل، عبد الكريم الفيلالي، إن البرلمان المغربي كان مخيبا للآمال بعدما ولجته ثلة ممن وصفهم بالانتهازيين والأميين والأعيان الفاسدين، في مقابل قلة فقط من الواعين والغيورين على البلاد، بالإضافة إلى بعض السياسيين الذين لم يكونوا يتوفرون على تجربة كافية لخوض العمل السياسي من قبة البرلمان. وهكذا غضب الملك الراحل الحسن الثاني من ضعف أداء النواب وقرر أن يحل البرلمان والحكومة أيضا ويعلن أنه سيتكلف شخصيا بالإشراف على جميع الوزارات المغربية والتنسيق مع موظفيها، ويستغني عن الوزراء وممثلي الأمة.
في موسوعته التاريخية الشهيرة، خصوصا في الجزء الأخير، يذكر عبد الكريم الفيلالي بعض الكواليس المتشعبة التي رافقت تأسيس البرلمان المغربي وكيف كانت النخب السياسية تنظر إلى هذه المؤسسة التي كان جل الذين يمثلون نخبة البلاد في الاقتصاد والسياسة، يطمحون في دخولها.
لم تكن بناية البرلمان في البداية، بالشكل الذي نعرفها به اليوم. كانت البناية في البداية عبارة عن قاعة مليئة بالكراسي، ومنصة يعتليها مسير المجلس تليها منضدة يصعد إليها النواب لإلقاء الكلمات والمداخلات ومساءلة الوزراء. حتى أن الفيلالي نفسه كان وراء طرح السؤال الشهير داخل البرلمان في أكثر سنواته قتامة، وتساءل بصوت مرتفع: «من أين لك هذا؟» في دعوة منه إلى محاسبة المسؤولين المغاربة الذين كان قاسيا على أكثرهم، وكال لهم الاتهامات و«السب» أحيانا لأنه كان يرى أنهم الرعاة الرسميون للفساد. أسماء كثيرة بلغها غضب عبد الكريم الفيلالي، الذي كان يرى من منصبه كمؤرخ مقرب جدا من الملك الراحل محمد الخامس، كيف كان بعض السياسيين والنافذين يؤسسون ثروتهم الخاصة انطلاقا من مناصبهم في الدولة ولم يعجبه أن يبقى صامتا عن الوضع لينفجر في وجوههم في البرلمان ويطالب بمساءلة الجميع عن مصدر الثروات التي راكموها سنوات قليلة بعد حصول المغرب على الاستقلال.
من هذا المنطلق كان عبد الكريم الفيلالي، ناقما جدا على الأعيان الأوائل الذين وصلوا إلى البرلمان بعد الانتخابات التشريعية، ولعل غضب الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1965، بغض النظر عن الأحداث الاجتماعية العصيبة التي وصل إليها المغرب في نفس السنة، إلا أن «استهزاء» البرلمانيين وقتها بمهامهم وضعف أدائهم، سهّل على الملك الراحل مهمة تبني قرار حلّ البرلمان، وتنفيذه على الفور، ليكون البرلمان المغربي بذلك قد عاش بداية متعثرة، لم يكتب الاستمرار إلا سنوات قليلة، ليُريح القصر المغاربة من البرلمان والنواب والوزراء، لخمس سنوات، ولم يفتح البرلمان من جديد إلا بعد انتهاء السنوات الخمس لحالة الاستثناء، ويبدأ المغرب مرحلة أخرى، كانت تشبه الأولى في بعض التفاصيل.
هكذا كان «المخزن» يؤدب الفاسدين و«يُطهّر» دواليب الدولة قبل قرن ونصف
عندما جاء المولى الحسن الأول إلى السلطة قام بتنقية محيطه سنة 1873 من بعض الذين كانوا يستغلون قربهم من والده في القصر الملكي بفاس، وكان هو في سنوات شبابه الأولى يعرف عنهم بعض التفاصيل. لكن تركيبة الدولة وقتها لم تكن تسمح بفتح تحقيقات ضد الأعيان والوزراء وكتاب الدواوين وحتى ممثلي المخزن في مناطق بعيدة عن المركز. بالمقابل كان ممكنا «تقريع» أو شد آذان الولاة والقضاة وحتى القياد وصغار المخزنيين عبر رسائل سلطانية لثنيهم عن استغلال نفوذهم أو ظلم الرعايا الذين كان بعضهم يرفعون المظالم إلى القصر في طقوس خاصة حُددت لها مواعد أشرف عليها السلطان شخصيا.
كان محمد الرابع، والد المولى الحسن الأول، قد مارس موجة من الإعفاءات والعقوبات ضد بعض موظفي المخزن الذين اتهموا باستغلال مناصبهم وثقة السلطان فيهم لكي يمارسوا ابتزازات واسعة لعدد من التجار المغاربة والأجانب أيضا خصوصا في المدن المغربية التي كانت تتوفر على موانئ، وعلى رأسها الجديدة والصويرة وآسفي.
هؤلاء المسؤولون تم إعفاؤهم عقابيا، لكن بعض المؤرخين المغاربة أكدوا عودة أخرى لأولئك المسؤولين بعد أن أعلنوا توبتهم ليعيدهم المولى محمد الرابع إلى مناصبهم، ومنهم من كانوا في سلك الضريبة أو القضاء، ومنهم من كانوا نوابا عن السلطان في مناطق نفوذهم ويُعهد إليهم في الغالب بجمع الضرائب أو اقتراح أسماء القضاة أو موظفي المخزن المستقبليين على مستشاري السلطان.
مراجع تاريخية، مثل جمع المؤرخ الضعيف الرباطي للأحداث التي عرفها المغرب بين سنوات 1850 و1873، كلها تؤكد أن الدولة مارست عقوبات قاسية ضد بعض الوزراء والمستشارين والقضاة وجامعي الضرائب، وكلها مناصب مخزنية كانت بغاية الأهمية، وتم توقيفهم وتجميد أنشطتهم السياسية والمخزنية. الفرق في التجارب يكمن في أن البعض التزموا منازلهم من فرط الإحراج الذي وقعوا فيه ولم يغادروها نهائيا إلى أن ماتوا منسيين، أو الذين كانوا يلحون في طلب العفو واستعملوا علاقاتهم وواصلوا الإلحاح إلى أن استفادوا من فرصة أخرى لـ«تبييض» سيرتهم، على ألا يعودوا بعد ذلك إلى التورط في ما اعتُبر وقتها خيانة للأمانة.
وقبل تلك الفترة، كان عهد المولى إسماعيل، أحد أشهر من حكموا المغرب قبل حوالي 5 قرون من اليوم، بادر إلى تعيين أبنائه، على اعتبار أنه أنجب الكثير من الأبناء، كمكلفين بمهام محاسبة بعض الأعيان والنافذين المغاربة الذين كانوا يمثلون سلطة المولى إسماعيل في مناطق نفوذهم. وهكذا كان أبناؤه ينوبون عنه ويشغلون تلك المناصب في كل حالة اكتشاف غش أو خيانة من طرف أحد الموظفين، والنتيجة كانت وصول عدد من أبناء المولى إسماعيل إلى مناصب المسؤولية. لكن المفاجأة كانت عندما بدأ المولى إسماعيل يُحاسب أبناءه، إذ كانت طريقته مثيرة للغرابة وصادمة في أحيان كثيرة. إذ كان يرسل أحد أبنائه لكي يؤدب ابنا آخر، أي يرسل الأخ لكي يؤدب أخاه، وأحيانا يصل الأمر حد المواجهات كما وقع لابنيه في مراكش ثم في نواحي تازة، عندما سالت دماء كثيرة لاستعادة بعض المناصب من أبنائه بعد اكتشاف أنهم لم يكونوا في الحقيقة أهلا لها. وهكذا طوي تاريخ كامل من الحملات التطهيرية القديمة التي حاربت الفساد عبر التاريخ.