بيار عقيقي
شكلاً، أي نوع من أنواع التسوية التي توقف القتال مؤقتا في أي ساحة معركة تهدف إلى إبعاد المدنيين الواقعين بين خطوط النار. وأكثر المصطلحات تداولا في مثل هذه التسويات هي «الهدنة». وللهدنة إيجابيات معينة، مثل إخلاء تجمعات مدنية كبيرة من ناسها، على قاعدة «الحفاظ على الحياة هو الأساس»، سواء نزحت داخل بلادك أو لجأت إلى دول أخرى. في النهاية، يتصرف الإنسان وفقا لغريزة البقاء.
أما أسوأ الهدن فتلك المرتبطة بالمناسبات، وكأنه لا يجوز الإعلان عن هدنة قبل حلول مناسبة ما. الخميس الماضي، أوعز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوقف إطلاق النار في أوكرانيا، مدة 36 ساعة، بين الجمعة المنصرم الساعة 12 ظهرا وحتى الساعة 12 من مساء السبت الماضي، وعلل ذلك بحلول عيد الميلاد لدى المسيحيين الأرثوذكس، الذي يتم الاحتفال به في 6 و7 يناير من كل عام. طبعا، لم يبال بوتين بطلبات لإعلان الهدنة في عيد الميلاد لدى الطوائف المسيحية الغربية، في 25 دجنبر الماضي. وهو ما يطرح إشكالية أخرى في علاقته مع الغرب المسيحاني. وهذا موضوع آخر.
قد تكون فكرة ربط الهدنة بمناسبات دينية ووطنية من أخبث الأفكار في تاريخ الحروب، ذلك لأن أطراف القتال يَدَّعُونَ عنوانا إنسانيا للهدنة التي ينوون البدء بتطبيقها في وقت وساعة محددين. قبل ذلك، حلالٌ قتل البشر وتدمير مساكنهم وارتكاب الإبادات والمجازر، على اعتبار أن «الهدنة ستبدأ، وعلينا الاستعجال في الحصول على مكاسب ميدانية، قبل إسكات المدافع». الإسرائيليون أمثلة دموية في هذا السياق، تشهد عليهم الساحات العربية في فلسطين ولبنان.
ويسعى طالبو الهدنة في مناسبات دينية ووطنية إلى الإيحاء بأنهم «ضنينون» بالتمسك بأولويات المجتمع، وهي أولويات تتباين أو تتناسق بين مجتمع وآخر. بين روسيا وأوكرانيا قاسم مشترك، من بين قواسم عدة، وهو انتماء الأكثرية الشعبية في البلدين إلى الطائفة الأرثوذكسية. ويريد بوتين، من إعلانه هذا، تصوير نفسه على أن انتماءه «المسيحي الأرثوذكسي» يشكل «بارقة أمل» للشعب الأوكراني، في حال قَبِلَ الشروط الروسية للاستسلام. حتى أن بطريرك موسكو وعموم روسيا للطائفة نفسها، كيريل، عبد الطريق أمام سيد الكرملين من أجل الهدنة، مستخدما مصطلح «المناشدة» من «أجل وقف الصراع المهلك». وكان البطريرك نفسه قد اعتبر في 25 شتنبر الماضي، في عظة ألقاها في قداس الأحد: «إذا مات شخص في أثناء أداء هذا الواجب (غزو أوكرانيا)، فإنه قد عمل بلا شك عملا يعادل التضحية. وبالتالي، نعتقد أن هذه التضحية تغسل كل الذنوب التي يرتكبها الإنسان». في حينه، كان الروس متوجسين من قضية «التعبئة الجزئية»، وبدأ بعضهم بالفرار إلى خارج البلاد، لكن البطريرك رمى ثقله خلف بوتين، ومؤيدا القتال في أوكرانيا، مانحا المقاتلين المؤمنين «صك غفران» يتيح لهم القتل والتدمير وارتكاب الانتهاكات.
لم يعد بوتين هذا «الرجل القوي الاستعراضي»، الذي سحر الكوكب في مطلع عام 2000، وكان أسرع من قطار سيبيريا السريع، في محاولة اللحاق بالغرب. والهدنة التي أرادها تفعيلا لـ«سحر ديني وقومي» لدى الشعوب الروسية، لن تؤدي سوى إلى تسريع سقوطه شخصا أراد الاستمرار من حيث توقف بطرس الأكبر. التاريخ إن تكرر لن يصب في صالح من اعتبر نفسه قادرا على تصحيحه. كأنها تراجيديا سوداء.