كان هتلر واعيا، ذكيا، ديناميكيا، ومتعصبا إلى أبعد الحدود، وأدرك بشفافية ذهنية أنه قاب قوسين أو أدنى من الحرب الضروس، فبدأ يستعد لها تحت شعاره المعروف: الهجوم خير وسيلة للدفاع، وطالما كانت القاعدة الصناعية موجودة فقد حلت نصف المشكلة، ويبقى النصف الثاني، فيضرب عصفورين بحجر واحد: التسلح والقضاء على البطالة! فقط الشيء الوحيد الذي فات هتلر ونجا منه العالم، كان التركيز على إنتاج السلاح النووي، ولو امتلك هتلر السلاح النووي لامتلك العالم، خاصة وأن أقدار ما يزيد على 500 مليون من البشر كانت أصبحت تحت رحمته؛ حيث امتدت الحدود الألمانية من القوقاز حتى جبال البيريني في إسبانيا، وحول شعوب تلك المناطق إلى عبيد سخرة، وذَهَبها إلى مال للإنتاج، وعقولها إلى طاقة شغل.
وأرجع في الذاكرة إلى الجراح الطرابيشي الذي كنت أساعده في إحدى العمليات وهو يدمدم كعادته؛ بكلمات غير مفهومة ويلوكها بين أسنانه عن مصير الحرب العالمية الثانية: إن الذي هزم هتلر في الحرب كان في الواقع (الجنرال شتاء)، يعني بذلك هزيمته على الجبهة الروسية التي غيرت مجرى الحرب، فأخطاء موسوليني وإخفاقه في حرب اليونان، جعلا هتلر يقفز لمساعدة حليفه، وبالتالي تأخره في دخول عملية (بارباروسا) الرهيبة المقررة في الصيف، والتي حشد لها قرابة خمسة ملايين جندي لاجتياح الاتحاد السوفياتي، فدخلها متأخرا، مما قاد إلى دخول هتلر الحرب مع النظام البلشفي والشتاء يقترب. هل فعلا ما دفع هتلر إلى الانهيار هو الشتاء الروسي؟ هل كانت تعدد الجبهات، أم أن الحرب ذات طبيعة تكنولوجية ومن يملكها يملك مصيرها، كما ذهب إلى ذلك فيرنر هايزنبرغ، الفيزيائي الألماني المرموق «صاحب مبدأ الارتياب في الفيزياء النووية»؟
إن عظة التاريخ في النورماندي تذكرنا بالأفكار التالية:
أولا: إن الذي هزم النازية لم يكن (أحد) العناصر المذكورة ولا حتى (مجموعها)، وإن كانت كلها عناصر في اللعبة التاريخية، الشيء الذي كسر كفة الميزان من وجهة نظري هو (الفكر النازي)، فهو مثل السرطان الذي يحمل بذور فنائه في نفسه.
ثانيا: كانت الشعوب التي استقبلت طلائع الفتح الألماني مستبشرة مهللة، تماما كما روى لي المفكر الجزائري «مالك بن نبي» شخصيا، فهو كان يأمل بتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي من خلال التعاون مع الاستعمار الألماني، إلا أنهم اكتشفوا أمرين أحلاهما مر.
ثالثا: إن العالم ولد ولادة مشوهة بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال حق الفيتو، حيث تحول العالم إلى شريحتين، أقلية تملك القرار وأكثرية لا تملك شيئا، حتى أن التعديل الذي يريدون إدخاله اليوم، يكرس مرة أخرى وبعد مرور نصف قرن على تأسيس مجلس الأمن مفاهيم الحفاظ على هذه المزايا نفسها، باقتراح ضم المهزومين وأعداء الأمس أصدقاء اليوم، أعني ألمانيا واليابان.
رابعا: هذا التصدع في الوضع العالمي اعتبره المفكر الفرنسي «جاك أتالييه»، في كتابه «آفاق المستقبل»، أخطر من السلاح النووي والتلوث البيئي والمخدرات. حيث يتمتع 20 في المائة من سكان العالم بخيرات 80 في المائة من منتجات العالم، إلى درجة أن المؤرخ الأمريكي «باول كينيدي»، في كتابه «التحضير للقرن الحادي والعشرين»، يرى «أن أي إنسان يحمل ضميرا حيا، لا يمكن أن يشعر بالارتياح لهذه المعلومات».
خامسا: إن صراع الديناصورات الاستعماري ختم الحرب ببزوغ الفطر النووي فوق هيروشيما، وبذلك دخلت البشرية ولأول مرة في تاريخها انعطافا نوعيا لم تشهده من قبل في امتلاك قوة التدمير، فلم يعد بالإمكان تسمية الحرب (حربا)، ولم يعد هناك مستفيدون من الحرب، وبات هذه المرة الجنس البشري، بمن فيهم الفرقاء خارج النزاع مهددين بالفناء الشامل، باستثناء الصراصير والأعشاب والعقارب.
هذا الواقع الجديد أدركه قائد عملية (النورماندي Overlord) نفسه، أعني أيزنهاور، الذي أصبح في ما بعد رئيسا للولايات المتحدة، فسجل في مذكراته هذه الفقرة المهمة: «يجب على الطرفين المهتمين بالحرب أن يجلسا في يوم ما على طاولة المفاوضات، وهما مقتنعان أن عصر التسلح قد انتهى، وبأنه يتوجب على البشر الخضوع لهذه الحقيقة أو اختيار الموت»، أو على حد تعبير «روبرت أوبنهايمر»، العقل العلمي وقائد عملية تصنيع القنبلة الذرية الأولى: «كعقربين محبوسين تحت ناقوس زجاجي متحفزين يتربصان ببعضهما، كل منهما يمكن أن يلدغ الآخر، ولكن لن ينجو من الموت الذي سببه للآخر».
وهذا يعني بكلمة أخرى أن طريق القوة أصبح مسدودا، ولا يعني هذا أن الصراع البشري سيتوقف، ولكن أداته سوف تتغير من (إلغاء) الآخر، إلى التفاعل معه، بل (حمايته)، بل (إيجاده) إن لم يكن موجودا، لأن نمو الذات سيتم من خلال اكتشاف الآخر.
خالص جلبي