حسن البصري
يرى كثير من الفاعلين في الحقل الإعلامي أن الوضع السياسي المعقد في الجزائر، قد ساهم في وضع طبقات من الغموض على المشهد الإعلامي. ويفصل المشتغلون في هذا القطاع بين مرحلتين: الأولى اتسمت بالفكر الأحادي، ما جعل الخطاب الصحافي خطابا رسميا موجها. والثانية عرفت بحقبة التعدد الإعلامي الناتجة عن تعدد الأحزاب السياسية.
سمحت التعددية الإعلامية بهامش حرية قد يضيق وقد يكبر، حسب تقلبات المشهد السياسي. وتحتل الجزائر المرتبة 146 من بين 180 دولة في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، الذي أصدرته منظمة «مراسلون بلا حدود» في السنة الجارية. بل إن الحكومة الجزائرية طاردت العديد من الصحافيين الفارين من مقصلة النظام الحاكم، كما شهدت الفترة الأخيرة قرارات بإغلاق مؤسسات إعلامية خاصة في الجزائر، من بينها قناة «الجزائرية وان» والتي كانت من بين الأكثر متابعة في الجزائر.
وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قد وعد في شهر يونيو الماضي، بالإسراع في تسوية وضعية القنوات المستقلة العاملة في الجزائر، لكنه تراجع عن ذلك، وطلب من الحكومة إحالة قانون السمعي البصري الجديد إلى البرلمان، لتوسيع النقاش حول مضمونه، بسبب ما تعتبره الحكومة إكراهات المناخ السياسي والتطورات المجتمعية، لكنه يصر على «إيجاد ضوابط توازن بين الحق في الإعلام والأمن المجتمعي».
اختلفت أسباب شد الحبل بين الإعلام والنظام، لكن كلما خرج صحافي عن السرب الحكومي، إلا وظهرت قرارات تعيد التساؤل عن علاقة الجزائر المعقدة بالإعلام، في بلد ظل فيه القطاع محتكرا من قبل الدولة لعقود طويلة.
لم يكن المشهد الإعلامي الحاصل اليوم وليد الصدفة أو الارتجال، بل هو نتيجة لسلسلة من التراكمات التي أفضت في نهاية المطاف إلى إعلان حرب حقيقية على الصحافيين الهاربين من لهيب نظام، يريد أن يجعل من الصحافيين جنودا في خنادق المواجهة ضد المغرب.
في الملف الأسبوعي لـ«الأخبار»، رصد لأبرز الوجوه الإعلامية المتمردة على نظام يقتات من العداء، والتي اختارت الهروب خارج الجزائر اتقاء شر العسكر.
هشام عبود يعود إلى الجزائر ويطالب بمحاكمته بشكل علني
ولد هشام عبود في 15 يونيو 1955، ومنذ شبابه كان متابعا للمشهد الصحافي في الجزائر، والتحق بمعهد العلوم السياسية والإعلام بجامعة الجزائر، ليصبح صحافيا وهو في طور التكوين بالمعهد المذكور، ولأنه كان متميزا في الصحافة بشقيها العربي والفرنسي، فإن هشام برز كقلم واعد في مطبوعات تابعة للصحافة العمومية، في منتصف السبعينات.
كانت بدايته كمحرر في مجلة «الشباب والحركة» باللغة الفرنسية، وهي نشرة خاصة بالثقافة والرياضة، قبل أن ينتقل إلى يومية «الجمهورية» التي كانت لسان حال النظام، وكان مقرها بمدينة وهران بغرب الجزائر.
ولأنه كان عاشقا للكرة، فقد انتقل في سنة 1977 إلى الأسبوعية الرياضية «الهدف»، وحين لمس فيه النظام مشروع قلم نافذ، قرر ضمه سنة 1979 إلى المؤسسة العسكرية، في منصب رئيس تحرير الطبعة الفرنسية لمجلة «الجيش» إلى غاية سنة 1986.
لكن هشام لم يستمر طويلا في منصب لا يتلاءم وكفاءته، وما أن اندلعت الانتفاضة الشعبية في الجزائر خلال شهر أكتوبر 1988، حتى كان عبود في قلب الحدث، حيث خرج مع المحتجين الجزائريين إلى الشارع احتجاجا على واقع مرير، مطالبين بإصلاحات اجتماعية وسياسية واقتصادية، وانتهت بإقرار دستور جديد أنهى مرحلة الأحادية الحزبية، وفتح باب التعددية السياسية والإعلامية.
أسس هشام يومية «الأصيل» بتاريخ 3 نونبر 1993، في مدينة قسنطينة كأول يومية مستقلة بشرق الجزائر، كما أصدر عناوين أخرى كجريدة «الحر» الناطقة بالفرنسية، لكن السلطات بادرت بإغلاق مكتبها ومنعها من الصدور، فأصدر بعدها أسبوعية تحمل الاسم نفسه، لكن السلطات الجزائرية أغلقتها قبل صدور عددها الأول، وقامت بمتابعة هشام عبود بتهمة «المساس بأمن الدولة»، كما تعرض لعدة ملاحقات قضائية بسبب كتاباته الصحافية. بل إن المخابرات الجزائرية لاحقته، وطلبت من فرنسا تسليمه دون جدوى.
في سنة 1995 التحق هشام بيومية «لو كوتيديان دو باريس» كمراسل من الجزائر لمدة سنة ونصف السنة، قبل أن تسحب منه بطاقة الاعتماد، وأمام تعدد الأحكام القضائية ضده والتي بلغ عددها أربعة أحكام، اضطر إلى مغادرة البلاد في 17 فبراير 1997، رغم قرار منعه من مغادرة الجزائر.
طلب عبود اللجوء السياسي من فرنسا، حيث استقر هناك، ليواصل مشواره الصحافي وينشر سنة 2002 كتابا تحت عنوان «مافيا الجنرالات» لاقى شهرة كبيرة، وحول هشام إلى شخص مطلوب من حكام بلاده. وفي فاتح نونبر 2011 اغتنم عبود ما سمي بالربيع العربي ليعود إلى الجزائر، معترضا على كل الأحكام التي صدرت ضده، مطالبا بمحاكمة عادلة وعلنية، إذ عرض على القضاء في محكمة حسين داي، حيث أبدى تذمره من حكم غيابي صدر في حقه يقضي بحبسه عاما نافذا، لكن القضاء برأه من تهمة «الوشاية الكاذبة والمساس بهيئة نظامية».
بعد استخلاص براءته، حصل هشام على ترخيص بإصدار نشر صحيفتين «مون جورنال» باللغة الفرنسية و«جريدتي» باللغة العربية، لكنهما لم تعمرا طويلا، حيث قررت الحكومة الجزائرية إغلاق مقريهما ومتابعة الناشر هشام عبود بتهمة: «المساس بأمن الدولة والمساس بالوحدة الترابية والمساس بحسن تسيير مؤسسات الدولة، بسبب تصريحات أدلى بها لقنوات تلفزية دولية»، كما جاء في بيان النائب العام لمحكمة الجزائر. لكنه سيضطر إلى مغادرة الجزائر هاربا عبر الحدود التونسية سنة 2013، بجواز سفره رغم قرار المنع.
تبون يتهم الصحافي درارني بالتجسس للسفارات الأجنبية
عندما اعتقلت السلطات العسكرية الجزائرية الصحافي خالد درارني، مراسل قناة «تي في 5 موند»، وحكم عليه بسنتين حبسا نافذا، على خلفية تغطيته للحراك الجزائري، غضبت الخارجية الفرنسية وسخرت من اتهام مراسل صحافي بـ«التحريض على التجمهر غير المسلح والمساس بالوحدة الوطنية»، وهي التهمة الجاهزة التي مست العديد من الصحافيين الجزائريين.
أعربت فرنسا عن قلقها ومخاوفها من سلامة الصحافيين، ووجهت خطابا شديد اللهجة إلى حكام الجزائر، قبل أن تقرر الجارة الشرقية إغلاق مكتب القناة الفرنسية لدواعي أمنية، على حد تعبير بلاغ وزارة الاتصال.
وفي باريس، تجمع العشرات من الصحافيين الفرنسيين أمام السفارة الجزائرية للمطالبة بالإفراج عن زميلهم الجزائري خالد درارني المحكوم عليه بالحبس ثلاث سنوات في بلاده، علما أن السلطات تصدت لمحاولة مغادرته الجزائر صوب فرنسا، فبادر قاضي التحقيق بمحكمة العاصمة الجزائرية إلى سحب جواز سفر خالد.
لأول مرة يجتمع ممثلو قنوات فرنسية في وقفة تضامنية، حيث حضر صحافيو القناة السادسة والقناة الفرنسية الأولى وتلفزيون فرنسا الرسمي و«إم 6»، ووقف في الصف الأول لمسيرة الغضب أبرز الأسماء الصحافية في فرنسا، على غرار هاري روسيلماك وبيرنارد دي لافيلارديير ودافني بوركي، وغيرهم من الأقطاب الذين نددوا بالمقاربة العسكرية في التعاطي مع الإعلام في الجزائر، في الوقت الذي تجاوب خالد مع هذه المبادرة من سجن القليعة الرهيب، واضعا كمامة على فمه وأنفه، معلنا تصديه لما أسماه «ترهيب السلطات الجزائرية للصحافيين».
اعتقل درارني على هامش تغطية مظاهرة من مظاهرات الحراك الشعبي، وتبين من خلال التحقيقات معه في مركز الشرطة، أنها تناولت طبيعة عمله الصحافي ومواقفه السياسية من الرئيس والحراك الشعبي.
ولد خالد في العاصمة الجزائرية سنة 1980، وسط عائلة ثرية، ودرس القانون والعلوم السياسية في كلية بن عكنون وقرر أن يصبح صحافيا، فبدأ مساره في درب «صاحبة الجلالة» كمقدم برامج تلفزيونية، فاكتسب شهرة قبل أن يتحول إلى رمز للنضال من أجل حرية الصحافة في بلده، ومن أجل القطع مع زمن يريد فيه النظام من صحافيي بلده توجيه أقلامهم وأصواتهم صوب المغرب.
كانت بداياته في وسائل الإعلام العامة، إلا أن خالد درارني أصبح مقدم برامج بارزا على محطات خاصة اعتبارا من 2013، واشتهر خصوصا بخرجاته على محطة «دزاير تي في»، وحظي باحترام زملائه لمهنيته ورصانته، قبل أن يقرر في 2017 إنشاء موقع «قصبة تريبون» الإخباري، الذي يغطي أخبار الجزائر، لكن السلطات الجزائرية منعته اعتبارا من دجنبر 2020. وعمل في الوقت نفسه مراسلا في الجزائر لقناة «تي في 5 موند»، إلا أن الرئيس عبد المجيد تبون لمح إلى أن خالد «جاسوس في خدمة السفارات الأجنبية».
عبدو سمار: حكام الجزائر تسكنهم نوايا تخريبية ضد المغرب
حين شعر الصحافي الجزائري عبدو سمار بحبل يلف عنقه، فر في مطلع سنة 2019 من الجزائر إلى فرنسا، وقضى قرابة عام كامل، قبل أن تحاصره جائحة كورونا وتمنحه فرصة للتأمل الهادئ في مستقبله المهني، فيقرر التقدم بملف للحصول على اللجوء السياسي إلى المصالح المختصة بفرنسا، وقد تلقى الموافقة بشكل رسمي وسريع.
هرب عبدو صوب فرنسا مباشرة بعد مغادرته السجن، إذ اعتقل في سنة 2018 وأفرج عنه من قبل المحكمة، بعد أن تبين غياب قرائن الإدانة ضده، لكن فكرة الهروب راودته وهو خلف القضبان، سيما وأن النظام قرر متابعته في عدة ملفات بالمحاكم الجزائرية، وصدرت بحقه أحكام قضائية غيابية في قضايا وجهت إلى المتهمين فيها تهم عديدة، من قبيل «ابتزاز رجال أعمال وشخصيات»، بل إن السلطات أحضرت رجل أعمال ليدلي بشهادته أمام المحكمة وإطار في وزارة المالية، حتى لا يعتقد الناس أن التهمة تتعلق بقضية رأي بل بجناية. حينها أيقن عبدو أن رحلته مع القضاء لن تنتهي، علما أن منطوق الاتهام يتحدث عن سمار كوسيط في عملية ابتزاز، وتارة عن مشارك، وهي القضية التي ساهمت في إغلاق قناة «بور تي في».
رفض سمار الانضمام إلى اللوبي المعادي للمغرب المدعوم من رئاسة الجمهورية الجزائرية، والذي يتزعمه الصحافي أرسلان شيخاوي، المعروف في الأوساط الإعلامية في الجارة الشرقية بـ«حمال الحطب»، من خلال إطلالاته في صحيفة «ليبرتي». لكن سمار صاحب موقع «ألجيري بار» نبه المواطنين الجزائريين إلى هذا اللوبي، وقال إن حكام بلاده يسعون إلى تغليط الشعب، مؤكدا أن «للشعب الجزائري ما يكفي من الذكاء ليتفطن إلى أن مشكله ليس هو المغرب، بل فساد ولا مشروعية حكامه، وانتهاكاتهم للحقوق والحريات الأساسية للمواطن الجزائري».
ونوه عبدو بالظروف الممتازة التي يعيش فيها الجزائريون المقيمون بالمغرب دون أن يمسهم أي سوء أو تضييق، على الرغم من سلسلة الإجراءات العدوانية المتخذة ضد المغرب من قبل الطغمة العسكرية الحاكمة بالجزائر، مشيرا إلى أن الانتقام من المغاربة المقيمين بالجزائر قد مارسه من قبل نظام هواري بومدين سنة 1975، عندما قام بأكبر عملية طرد تعسفي وترحيل جماعي لنحو 45 ألف أسرة مغربية.
وما زاد من غضب النظام الجزائري ما كتبه سمار عن تجييش «لعمامرة» لسبعة مبعوثين، من أجل مطاردة الصحافيين الذين ينتقدون احتضان جيراننا للبوليساريو، حيث تقدم الجزائر تنازلات بالجملة للدول، مقابل الحصول على مواقف داعمة للقضية الصحراوية، مشيرا إلى أن للجزائر عقيدة تخريبية في مواجهة كل ما تشيده الرباط، وأن إنجازات الرباط يراها النظام الجزائري الحالي إهانة شخصية مرفوضة، «وجبت محاربتها بكل الجهد والإمكانيات، حتى وإن كانت على حساب الخبز اليومي للمواطن الجزائري البسيط».
وليد كبير: قطع العلاقات مع المغرب إقرار بهزيمة الديبلوماسية الجزائرية
وجه وليد كبير، الصحافي السياسي الجزائري، ورئيس الجمعية المغاربية للسلام والتعاون والتنمية، سؤالا إلى رمطان لعمامرة، وزير الخارجية الجزائري، حيث قال: «كيف سيتمكن الرعايا المقيمون في المغرب من زيارة الجزائر مستقبلا؟».
وأضاف المتحدث ذاته في تدوينة قصيرة في صفحته على «فيسبوك»، «لقد قلتم إن مصالح الرعايا في البلدين لن تتضرر.. هذا مجرد كلام»، مقترحا حال عدم إعادة تشغيل الخط الجوي الرابط بين الجزائر أو وهران مع الدار البيضاء، فتح ممر بري إنساني للرعايا المقيمين.
وأشار كبير إلى أن «المعبر البري كان مفتوحا للرعايا المقيمين خلال فترة قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والتي امتدت من سنة 1976 إلى 1988. من حق الرعايا المقيمين زيارة وطنيهم برا، إذا تعذر إعادة تشغيل الخط الجوي، غير ذلك هو إضرار بليغ بمصلحة الرعايا».
وتصدى وليد كبير للخطوة التي أقدمت عليها الجزائر بقطع علاقاتها مع المغرب، مشيرا إلى أن النظام الحالي في الجزائر «لا يمتلك نية صادقة تجاه المغرب». وأضاف كبير ضمن تصريح صحافي، أن قرار قطع العلاقات يؤكد أن النظام الجزائري أقر بهزيمته الدبلوماسية في ملف الصحراء المغربية، وأنه فاشل على المستوى الداخلي. هذا القرار، بحسب المعارض الجزائري، كان متوقعا، مضيفا أن العلاقات الدبلوماسية هي أصلا شبه مقطوعة، والحدود مغلقة برا، إضافة إلى التراشق الإعلامي اليومي بين البلدين، وفق تعبيره.
وسبق لوليد أن وجه رسالة مفتوحة إلى عبد القادر بن قرينة، رئيس حركة البناء الوطني بالجزائر، ردا على ما كتبه حول معاهدة إفران بين المغرب والجزائر جاء فيها:
«يبدو أن جيل المحترمين قد انتهى، ويبدو أيضا أن من يعرف القيمة التاريخية للمغرب، البلد الجار الذي ناصر الثورة التحريرية لا وجود لهم داخل دواليب الحكم في الجزائر، وأن من آلت إليهم المسؤولية حاليا، هم ذلك الجيل الذي تربى على خطابات الراحل هواري بومدين عن المغرب بعد استرجاع صحرائه، تلك الخطابات التي كان ملؤها الأحقاد في حق جار التزم دوما بسياسة حسن الجوار والصداقة، طبقا لمضامين وروح اتفاقية إفران».
العربي زيتوت.. ديبلوماسي جزائري لجأ لإنجلترا فأنشأ قناة فضحت حكام الجزائر
منذ أن اختلى بنفسه وقطع الخيوط التي ربطته بالعمل الديبلوماسي، قرر السفير الجزائري السابق التحول إلى عالم الصحافة، فأنشأ قناة جعل منها لسان حال منظمة «رشاد»، قبل أن تتهمه الخارجية الجزائرية بالموالاة للمغرب. قال العربي زيتوت ردا على بلاغ الخارجية الجزائرية: «أتحدى المدعو لعمامرة المسمى وزير خارجية، أن يأتي بربع دليل على علاقة منظمة «رشاد» بالنظام المغربي، أو أي نظام سياسي قائم في العالم. اتهاماتكم تافهة سخيفة وقبيحة، قبح الله أعمالكم الإجرامية في حق الشعب والوطن، تتجهون بالجزائر نحو الهاوية».
وأضاف الديبلوماسي الجزائري الذي قضى فترة طويلة في سفارة الجزائر بطرابلس، في فيديو نشره على موقعه، قائلا إن «أكاذيب تبون لا تتوقف، ما عمق مشاكل البلاد التي ابتليت به»، داعيا الرئيس إلى «الإسراع بالعلاج النفسي».
وأكد زيتوت أنه «ديبلوماسي سابق وسياسي يعرف شروط العمل السياسي وأهميته، وأنه لن يتخلى عن موقفه الداعي لقيام الدولة المدنية وأن يعود العساكر إلى ثكناتهم ومهماتهم الأصلية التي بموجبها قاموا، وهي حماية حدود البلاد وسيادتها».
ونظرا لمواقفه الجريئة، تلقى زيتوت إشعارا من فريق محققين تابع للشرطة البريطانية، بحكم إقامته في شقة بإنجلترا، حول خطر يتهدد حياته ما يستوجب منه الحذر والانتقال الفوري إلى مسكن آخر، ونصحوه بمغادرة بيته إلى مكان مغاير حماية لنفسه، لكنه رفض ذلك مؤكدا تمسكه بالبقاء في بيته. «لقد أعلمتهم أنني لا أستطيع مغادرة البيت، الذي أستأجره منذ عدة أعوام وأشعر فيه بالأمن والاستقرار، ومنه أقود نضالي السلمي والمدني من أجل الإسهام في تحرير الجزائريين من ويلات الحكم العسكري إلى الدولة المدنية»، يقول زيتوت.
مفدي زكرياء.. أول صحافي جزائري هارب من غضب بومدين
غضب هواري بومدين كثيرا من الصحافي الملقب بشاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء، على خلفية قصيدة مدح للملك الحسن الثاني، وأخرى في حق الحبيب بورقيبة، في عز التوتر الدبلوماسي بين الجزائر والمغرب عام 1975، واتهمت بعض الصحف الجزائرية الشاعر الجزائري بالحصول على امتيازات، مثلما كان يفعل شعراء البلاط.
في بداية 1956 طلب من مفدي زكرياء كتابة نشيد وطني تجسد مضامينه الثورة الجزائرية، وخلال يومين فقط جهز شاعر الثورة نشيد «قسما بالنازلات الماحقات». انتقل الشاعر إلى مصر لتلحينه، وتبرع الموسيقار المصري الراحل محمد فوزي بتلحين النشيد «هدية إلى الشعب الجزائري»، واقتنعت جبهة التحرير باللحن، لكن مفدي ظل مهمشا. ومع تأسيس الإذاعة الجزائرية تم توظيفه كمقدم برنامج صباحي، بعد الاستقلال، خاصة بعد أن رفض كتابة قصيدة حول الثورة الزراعية، كما اصطف إلى جانب المغرب في قضية الصحراء.
دفع «الغبن» بشاعر الثورة إلى التمرد على وضعه والانتقال إلى تونس، بوصفه شاعر المغرب العربي، وحل ضيفا على الملك الحسن الثاني، وقد شكل هذا الاهتمام «المغاربي» بمفدي زكرياء قلقا للرئيس الجزائري الأسبق بومدين، دفع به سنة 1966 إلى اتخاذ قرار بتغيير النشيد الوطني الجزائري، فكلف مستشاره المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم بإجراء مسابقة للشعراء الجزائريين، لوضع نشيد وطني آخر للبلاد، بدلا من نشيد «ذلك الخائن الذي بات يمدح أعداء البلاد في تونس والمغرب»، على حد قول بومدين. ولكن مولود قاسم الذي كانت تجمعه علاقة صداقة بمفدي زكرياء، تمكن من إقناع هذا الأخير بدخول المسابقة، وهو ما حدث بالفعل، ليكتشف مستشار الرئيس بومدين في النهاية أن النشيد الفائز ليس إلا لشاعر الثورة مفدي زكرياء، وهو ما دفع بالرئيس بومدين إلى قول جملته المشهورة: «اتركوه.. اتركوا النشيد الأول».
استقبل مفدي من طرف الملك الحسن الثاني في قصره بالصخيرات سنة 1975، في غمرة الاستعداد لانطلاق المسيرة الخضراء، واطلع على وضعه الاجتماعي واقترح عليه الإقامة في المغرب، قبل أن يساعده الملك على امتلاك مدرسة خصوصية «ثانوية الحسن الداخل» بالدار البيضاء، وهي مصدر عيشه، كما عاش في تونس، حيث استأجر سينما «المونديال»، وهو ما جعل القراءات تلف الموضوع، بل إن بعض المقربين من الرئيس الجزائري أوهموه بأن إهداء مطعم إلى شاعر جزائري يعيش على الهامش، هو إشارة إلى إطعام عزيز قوم. «شكلت هدية الحسن الثاني هاجسا للرئيس الجزائري الأسبق بومدين، الذي كان يسميه بـ«الشاعر الذي بات يمدح أعداء البلاد في تونس والمغرب»، ومع هذا الموقف المستفز، فإن الرئيس بومدين لم يأمر إطلاقا بالتضييق على مفدي، ولا ملاحقته بأي شكل من الأشكال، لكن هناك من أدار الظهر للرجل، خوفا من غضب السلطة»، يقول محيي الدين عميمور، الناطق الرسمي باسم بومدين، لجريدة «الشروق» الجزائرية.
استقر زكرياء في المغرب لفترة قبل أن يعود إلى تونس، حيث توفي بسكتة قلبية، ونقل إلى الجزائر ليوارى الثرى في مسقط رأسه بغرداية.
محمد خيضر.. عارض بن بلة وبومدين فتمت تصفيته بمدريد ودفن بالبيضاء بقرار ملكي
رغم أنه من مواليد القصبة بالعاصمة الجزائرية، إلا أنه قضى سنوات طويلة في المغرب، بل إنه دفن في مقبرة الشهداء بالدار البيضاء، بناء على توصية من زوجته، بعد مقتله في مدريد يوم 3 يناير عام 1967، على يد جزائري في أحد أشهر الاغتيالات السياسية.
من المفارقات الغريبة أن يولد خيضر أثناء توقيع معاهدة الحماية، التي جعلت فرنسا تضع يدها رسميا على المغرب، لكنه تعلم دروس النضال بالقاهرة، حيث التقى هناك بمناضلين مغاربة يحملون الهموم نفسها، قبل أن ينتقل إلى المغرب ليقضي فترة طويلة بين الرباط ووجدة، وظل خلال فترة المقاومة أمينا لماليتها، وكان له ركن إذاعي في إذاعة «الناظور»، الناطقة بلسان الثورة الجزائرية من التراب المغربي.
عندما حصلت الجزائر على استقلالها عام 1962، ظهر خلاف بين الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة، وخيضر فاضطر هذا الأخير إلى مغادرة الجزائر، فاتهمه بن بلة بأنه نهب أموال «صندوق التضامن»، وظل مطاردا حتى بعد أن انقلب بومدين على بن بلة عام 1965.
كانت الخرجات الإعلامية لخيضر كافية لجره نحو قضية أخرى فاتهم بـ«سرقة أموال الدولة» ودفعها في حسابه، في وقت أتى التأكيد منه قبل وفاته، بأن وضعه للأموال باسمه هو حل مؤقت حتى تتم تصفية الاستعمار بالكامل، وبأن هذه الأموال من حق المعارضة الجزائرية.
تحكي زوجته عن ذلك اليوم الذي قتل فيه خيضر: «في الثالث من يناير، كنت أركب إلى جواره في سيارتنا بأحد شوارع مدريد، فجاءه مواطن جزائري وألح في طلب نزوله من السيارة كي يحدثه في أمر عاجل، غير أن محمد كان مستعجلا وطلب منه تحديد موعد في وقت آخر، وبعد نقاش قصير معه بدأت الشكوك تساور محمد، وفي الوقت نفسه، أخرج عدة أشخاص مسدساتهم وأمطروا جسد الراحل بالرصاص».
عاشت العائلة بضع سنوات في سويسرا، إلى غاية عام 1975 تاريخ انتقالها إلى الرباط، وهي في وضعية مادية سيئة، حيث استقبلها الراحل عبد الكريم الخطيب وتكفل بأسرة الفقيد طيلة عدة أشهر، حتى حصلت العائلة على مساعدة ودعم من الحسن الثاني، الذي سبق له أن أصر على دفن خيضر في مقبرة الشهداء بالدار البيضاء، قريبا من قبر المناضل محمد الزرقطوني.
يقيم طارق خيضر، نجل الفقيد، في المغرب، وهو شاهد على عملية التصفية، ويتأبط دليل براءة والده من تهمة «سرقة مال الثورة» كما نسجها بومدين، من خلال التحقيق الأمني للسلطات الفرنسية في عملية التصفية الجسدية التي تمت بتنسيق تام مع سفارة الجزائر بمدريد، وبمباركة من الجنرال فرانكو الذي جعل من هذه الجريمة ورقة ضغط على هواري بومدين. كما جاء في كتاب «قضية خيضر.. الجريمة غير المعاقب عليها».