هؤلاء المهاجرون الذين ينقذون العالم
بينما تتفاقم الإصابات بفيروس كورونا عبر العالم، ويرتفع عدد الوفيات، وخصوصا في أوروبا وأمريكا، وجد الكثير من المؤدلجين في ما يحدث مناسبة للترويج لمواقفه السياسية، بدءا من أقصى اليسار ووصولا إلى أقصى اليمين. فالجميع يدَّعي أن الأحداث تعزز أطروحته، سواء تعلق الأمر بأطروحة اليسار التي تعتبر نجاح الصين ذات الحزب الواحد في التصدي لانتشار الفيروس دليلا على فعالية النظام الشيوعي، وصولا إلى أطروحة اليمين المتطرف الذي يستغل قرارات إغلاق الحدود في وجه الأجانب للدفاع عن عنصريته، قصد طرد الأجانب وتأسيس مجتمعات ما بعد كورونا تكون خالية من غير عرقه “الأبيض النقي”.
صحيح أن النازيين الجدد ليسوا تيارا جديدا، لكن وصول بعض المتعاطفين معهم إلى الحكم في أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا بالتزامن مع انتشار كورونا قد أجج حضورهم بشكل لافت، حيث ظهرت في مختلف دول أوروبا وأمريكا بيانات منسوبة لجماعات عرقية متطرفة، بعضها معروف لدى السلطات، والبعض الآخر تم إحداثه للتو، تشجع الأتباع على شن هجمات أثناء جائحة كوفيد-19، لبث الذعر، والتحريض على استهداف الأقليات والمهاجرين، والاحتفال بوفاة أعدائهم، والأمر لم يقف عند هذا النوع من الجماعات السرية بل شمل أيضا أحزابا تمارس السياسة في العلن تطالب باستبعاد الأقليات العرقية من الحصول على الرعاية الصحية لمواجهة الوباء، وتركها تموت.
هكذا فاليساريون يعتقدون أن كورونا صنعته الرأسمالية المتوحشة وفشلت أيضا في تدبير انتشاره، واليمينيون يعتقدون أن كورونا صنعته الصين. بل وفي الهند تروج طائفة الهندوس لفكرة أن الفيروس صنعه المسلمون. والسؤال المطروح هو كيف يمكننا أن نفهم استخدام أقصى اليمين العنصري لوباء عالمي أصاب ملايين الناس في كافة الدول والأقاليم على وجه الأرض كسلاح لمهاجمة الأجانب والتحريض عليهم؟
ولأن الأمر إيديولوجي تماما، وبالتالي لا يخلو من أوهام ومصالح خفية، فإن ترامب الذي جعل من كراهية الأجانب ماركة مسجلة باسمه، وما فتئ منذ دخوله البيت الأبيض يضع مواطني دول تلو أخرى في لائحة الممنوعين من دخول الولايات المتحدة، هو نفسه ترامب الذي وجد نفسه مضطرا إلى أن يفتح باب توظيف الأطر الطبية في وجه كل الجنسيات عندما رأى أن النظام الصحي في بعض الولايات كنيويورك قد انهار تماما بسبب قلة الأطر الطبية.
ترامب نفسه، الذي يعتبر نفسه أعظم رئيس في تاريخ أمريكا من جهة القوة الاقتصادية والمالية لبلده، وجد نفسه مضطرا إلى أن يغلق الولايات الخمسين بشكل كامل، ويشرع في توزيع الإعانات المالية على عشرات الملايين من الأمريكيين في خطوة لم يكن أكثر الليبراليين المحافظين تشاؤما ليتخيلها. بل وها هو يواجه اليوم تمرد عشرات الجماعات اليمينية التي دعمته في الانتخابات، هذه الجماعات التي ترفض الطوارئ والآلاف من المنتمين إليها نزلوا إلى الشوارع بأسلحتهم في عدة ولايات، مما دفعه إلى حثهم على الانتفاض في وجه الحجر الصحي وتكسيره.
والأمر نفسه في إيطاليا، ذلك أن تأخر السلطات هناك في التصدي لانتشار الفيروس راجع إلى كون الحزب اليميني المتطرف والمشارك في الحكومة كان منشغلا بالسجال حول جنسية “الحالة صفر” في إيطاليا، هل هي صينية أم ألمانية. وانضم الأطباء لهذا السجال، لذلك اعتبر الإيطاليون أن مطالبة السلطات لهم بالتباعد الاجتماعي ما هي إلا مزايدات سياسية، ولم يمر إلا أسبوع حتى بدأ الرعب يدب في القلوب عندما بدأ الفيروس يطيح بالمئات يوميا. وعندما رأوا أن الوضع لم يعد يحتمل المزايدات العرقية أو الإيديولوجية، بدؤوا في استجداء المساعدات من الخارج. والغريب هو أن المساعدات لم تأت من الجيران الأوروبيين ذوي “العرق الأنقى”، بل من صينيين وكوبيين .
في بريطانيا، حيث اليمين المتطرف هناك يستغل هو أيضا الموقف، خصوصا وأنه منتش تماما بنجاحه في “بريكست”، لم يجد رئيس الحكومة اليميني بوريس جونسون، بعد أن عاش تجربة المرض، وكان على مشارف الموت، إلا أن يتخلى عن أطروحته المعادية للأجانب ويخصص جزءا هاما من كلمة موجهة للبريطانيين بعد تعافيه يشكر فيها ممرضين أجنبيين لكونهما ساعداه على التغلب على المرض، حيث اعترف جونسون بأن كثيرين تجنبوا التعامل معه خوفا من العدوى، فيما بقي هذان الممرضان معه 24/24 طوال الأيام التي قضاها في المستشفى. ويتعلق الأمر بممرضة اسمها “جيني ماكجي” من نيوزيلندا، وممرض اسمه “لويس بيتارما” من البرتغال.
هذا الاعتراف، سمح لمناهضي العنصرية بالتصدي العلني لتحريضات العنصريين. بالاستناد إلى أرقام الأطباء والممرضين الذين يوجدون في الخطوط الأمامية في المستشفيات لإنقاذ الأرواح. فجونسون السياسي المحافظ المتطرف أنقذه أجانب. وفي المستشفى الذي عولج فيه هناك 13 في المائة من المعالجين الأجانب.
وفي الوقت الذي تعجز فيه اقتصاديات أوروبا على توفير معدات طبية كافية، وجد السياسيون أنفسهم يديرون ظهورهم للشعبوية التي أوصلتهم لسد الحكم، وها هي إسبانيا تستورد المعدات من تركيا التي يصنفها الإسبان بالدموية، وها هي فرنسا تناشد المغرب لتزويدها بالخضر والفواكه لأن الفرنسيين لم يعودوا يجدون في المحلات التجارية ما يأكلونه. وعندما زار ماكرون مستشفى مارسيليا للقاء الطبيب ديديي راؤولت فوجئ الفرنسيون بأن خط الدفاع الأول في مواجهة كورونا يتشكل من أطباء شباب أغلبيتهم المطلقة من العرب والأفارقة. فالمهاجر ليس هو ذلك الغريب الذي يسرق فرص شغل المواطن الأوروبي عموما والفرنسي خصوصا، بل هو من ينقذ أرواحهم أساسا.
اعترافات بوريس جونسون، أحرجت العديد من العنصريين الأوروبيين الذين يعتبرون البرتغال جزءا من إفريقيا ولا يعترفون بانتمائها للحضارة الغربية، لتنكشف أرقام مهولة عن كون عدد الأطباء البرتغاليين الذين يصارعون في مختلف مستشفيات أوروبا يصل إلى 18 ألف طبيب. أما أطباء كوبا، فلا يوجد مستشفى رئيسي في مدينة أوروبية ليس به طبيب أو معالج أو ممرض من أصل كوبي. ومن هؤلاء من توفي مؤخرا وهو يعالج المرضى. كما أن للعرب نصيبا كبيرا في نسبة الأطباء الذين يصارعون الوباء اليوم في مختلف دول أوروبا وأمريكا، ومنهم ثلاثة أطباء مشهورين من أصل عربي تم الإعلان مؤخرا عن وفاتهم نتيجة إصابتهم بالفيروس داخل المستشفيات التي يعملون بها. وفي أمريكا ربع الأطباء من أصل أجنبي. حيث يشتغل مليون ونصف معالج في مستشفيات بلاد العم سام.
إذن فالأطروحة الشعبوية العنصرية التي تدعي أن الأجانب واللاجئين يستنزفون الخدمات، وأنهم لا يقدمون شيئا ويأخذون كل شيء، هذه الأطروحة كانت دوما كذبة، لكنها لم تكن أكثر وضوحًا مما هي عليه اليوم.