لم يكن الحصول على رخصة امتلاك مدرسة لتعليم السياقة أمرا معقدا، ولم يكن لدفتر التحملات ذكر في شروط الحصول على رخصة فتح المؤسسة، كما لم يكن لوزارة التجهيز دخل في الموضوع، إذ يكفي التقدم بطلب للإقامة العامة تتدارسه لجنة موسعة، لتحصل على الضوء الأخضر لإنشاء محل يتحول إلى مدرسة.
في الحقبة الاستعمارية لم تكن القدرات المالية والتقنية التي يجب أن تتوفر عليها مؤسسة تعليم السياقة شرط كفاية، وحده الحد الأدنى من كفاءة ومؤهل المعلمين والإقرار باعتماد منهج وضعه المستعمر الفرنسي، بل إن «البيرمي» كان يمكن صاحبه من السياقة في المنطقة الواقعة تحت الحماية الفرنسية والإسبانية، لذا حرص المستعمر على أن يكون مكتوبا باللغات الثلاث العربية والفرنسية، ثم الإسبانية.
كان تعليم السياقة نشاطا تجاريا يهدف إلى تلقين التكوينين النظري والتطبيقي من أجل تمكين الزبون من قيادة السيارات والشاحنات وكل المركبات، وفق «كود الروت» قبل أن تظهر مدونة السير.
في هذه الظرفية الصعبة، ظهرت مدارس في أحياء الدار البيضاء انطلاقا من المدينة القديمة لتشمل ربوع المدينة، في زمن اختلط فيه النضال بالعمل التجاري، وأصبحت مدارس التعليم تعلم أيضا المبادئ الأولى في النضال.
العربي سامي.. المقاوم صاحب سيارة التعليم الحريزي
ولد عمر سامي في الدار البيضاء سنة 1904، من أب له أصول تمتد إلى أولاد احريز فنال لقب الحريزي، كانت زوجته فاطنة لهراوية من أوائل المقاومات اللواتي تصدين للزحف الاستعماري على الدار البيضاء، بل إنها كانت تملك أراض شاسعة تم الاستحواذ عليها من طرف الإقامة الفرنسية بدعوى نزع الملكية للمنفعة العامة، وتمتد الأراضي المصادرة على طول شارع الجيش الملكي وبمحاذاة مع ضريح سيدي بليوط. عرف العربي وزوجته وأبناؤه بالانخراط المبكر في الحركة الوطنية ضد المستعمر، بل إن «فاطنة لهراوية» قادت أول حركة احتجاجية ضد المستعمر الفرنسي، بعد الزحف على ممتلكات المغاربة ومنحها لرموز الإقامة العامة ولأعوانهم.
أنشأ عمر محلا لتعليم سياقة السيارات في بداية الأربعينات، في حي كراج علال، خلال فترة زمنية كان فيها تعليم القيادة حكرا على الفرنسيين، وعرفت «سيارة التعليم الحريزي» باستقطاب كثير من الوطنيين، الذين التحقوا بها بإيعاز من زميلهم العربي، بل إن عددا من أبناء المدينة القديمة كانوا يضطرون إلى الالتحاق بمدرسة الحريزي في كراج علال، رغم وجود محلات للتعليم في المدينة العتيقة. ومن بين الأسماء التي حصلت على «البيرمي» من هذه المؤسسة نجد مجموعة من الأطباء الذين كانوا يأتون رفقة زوجاتهن لإجراء الاختبارات، نذكر منهم الدكاترة بلمختار وزنيبر والحراق والعلمي، وحسب رواية محمد وحيد في كتابه «شهداء وجلادون» فإن المقاوم المختار السامي، ابن عم العربي، قد اشتغل سائقا خاصا لوزير المالية عبد القادر بن جلون بعد حصول المغرب على الاستقلال، كما نال الميلودي السامي شهادة القيادة من المدرسة نفسها، ونظرا لعلاقته العائلية بالمقاوم الحداوي فقد تم اغتياله بعد إضرام النار في محله، حيث كان يصلح الدراجات النارية في الشارع المسمى حاليا مصطفى المعاني.
كانت سيارة التعليم لحريزي من أوائل المؤسسات التي مكنت المغاربة من الحصول على شهادات السياقة، على مستوى درب السلطان، وتردد عليها كثيرا رموز الوطنية، حتى بعد مقتل صاحبها العربي السامي الذي نفي خارج الدار البيضاء، قبل أن يستشهد في كمين وضع له هو وابن اخته عبد الله الحداوي بطريق الرباط قرب حديقة الحيوانات بعين السبع، على خلفية انضمامهما إلى منظمة الهلال الأسود.
عرفت عائلة السامي بالمقاومة المسلحة، وتبنت الخيار المسلح، بل إن العربي عرف في الوسط البيضاوي بـ«السائق» وكان ضمن الأوائل الذين أنشؤوا مؤسسات لتعليم سياقة السيارات في المغرب، «كانت وسيلة لتلقين الوطنية للمترددين على مدرسته واستقطاب وطنيين وفدائيين أكثر منها وسيلة للكسب»، حسب المصدر نفسه.
زكي.. أمين أرباب الطاكسيات ومعلم الأجيال
اشتغل مبارك زكي في المدرسة ذاتها التي كان يشرف عليها العربي السامي، لكنه قرر تحقيق الاستقلال الذاتي وإنشاء محل لتعليم قيادة السيارات والشاحنات ابتداء من سنة 1946 في عرصة الزرقطوني بالمدينة القديمة.
يقول ابنه صلاح الدين الذي ما زال يشرف على واحدة من أقدم مدارس تعليم قيادة السيارات في الدار البيضاء، في حديثه إلى «الأخبار»، كان يجاوز بين قيادة سيارة أجرة في الدار البيضاء وبين تعليم السياقة، ناهيك عن عمله النقابي: «والدي زكي كان مناضلا استقلاليا ورئيسا لنقابة سيارات الأجرة ضمن الاتحاد المغربي للشغل، وهو من أول الأسماء التي دعت إلى تنظيم الحرف في إطارات نقابية وجمعوية، ضدا على إرادة المستعمر الذي كان يرى في دخول المغاربة وتعاطيهم العمل النقابي خطرا على الوجود الاستعماري، حيث بدأ عمله كصاحب سيارة أجرة سنة 1934، وكانت تحمل رقم 7، أي أنها من بين عشرة «طاكسيات» التي جابت شوارع الدار البيضاء في عهد الحماية، كان يشتغل نهارا في تعليم فن قيادة السيارات والشاحنات، ويخصص جزءا من الليل لقيادة «الطاكسي»، وهو عمل جبار يصعب على رجل مثله القيام به».
مع حصول المغرب على الاستقلال استقبل مبارك زكي من طرف محمد الخامس، بصفته قياديا في الاتحاد المغربي للشغل، لكنه عاد إلى جبهة المعارضة خلال سنوات الرصاص، فاعتقل بدرب مولاي الشريف سنة 1970، وبعد الإفراج عنه عمل على تنظيم مهنة أرباب مدارس تعليم القيادة، ونقل محل التعليم إلى ساحة مارشال، قبل أن يستقر في زنقة أكادير بعد أن سلم إلى ابنه صلاح الدين المشعل.
وعلى غرار عائلة السامي، فإن زكي ترك بعد رحيله ذرية مناضلة شربت من معينه النضال، فإلى جانب صلاح الدين، عرف أحمد الصيدلي بفكره اليساري وكان ولا يزال من أبرز القيادات السياسية في حزب التقدم والاشتراكية، وفي القطاع الإعلامي من خلال إشرافه على الخط التحريري لـ«البيان»، ناهيك عن اشتغاله في الحقل الرياضي كرئيس للمكتب المديري للوداد الرياضي ورئيس لفرع السباحة.
سيارة التعليم «الوداد» التي تخرج منها رجاويون
ما زال الحاج العيدي يعد الأب الروحي لأرباب محلات تعليم القيادة في الدار البيضاء، فعلى الرغم من مرضه إلا أنه يصر على تحدي عوامل التعرية، ليتفقد بشكل أسبوعي محله في شارع الفداء غير بعيد عن ساحة السراغنة، والذي يعود إلى بداية الخمسينات، حيث شكل إلى جانب الحريزي والمراكشي والمديوني وغيرهم من الأسماء التي ساعدت أبناء درب السلطان في الحصول على شهادة السياقة. أطلق العيدي اسم الوداد على محله الذي يوجد بمعقل الرجاويين في درب السلطان، وذلك لعشقه للفريق الأحمر الذي كانت تجمعه به علاقة تتجاوز حضور مبارياته في الملعب، بل إن سيارة التعليم العيدي عرفت تردد عددا من اللاعبين السابقين للوداد والرجاء على حد سواء، من أجل تعلم مبادئ السياقة في جو من الألفة والانسجام، لاسيما وأن «با العيدي» يعرف عن كثب تفاصيل حياة اللاعبين، وكان يقول لبعض العناصر التي لا تجيد على أرضية الملعب سوى الركل والرفس: «بحال لعبك بحال سوكانك».
«منذ سنة 1954 إلى اليوم ما زال المحل حاضرا في مكانه بشارع الفداء، الذي كان يسمى شارع السويس، هنا كثير من لاعبي الوداد حصلوا على «البيرمي»، خاصة اللاعبين الأجانب كموسى نضاو، أيضا اللاعب متولي، نجم الرجاء الرياضي، حصل على الرخصة هنا في سيارة تعليم الوداد، لقد كنا نجد صعوبة في تعليمهم لأن الأنصار يتجمهرون هنا»، يقول المشرف على المدرسة.
«ولد الرايس»..أول مدرس سياقة
في أوائل الأربعينات عرف مصطفى الرايس بإجادته قيادة السيارات، وكان مقصد كثير من شباب تلك الحقبة الزمنية لتعلم مبادئ السياقة، في مدرسته التي اختار لها زنقة التناكر غير بعيد عن عرصة الزرقطوني، كان الجميع يلقبه بـ«ولد الرايس»، ولقد بدأ مشواره المهني في مرسى الدار البيضاء، وقيل إن والده كان يقود باخرة، لكن الابن اختار مسارا آخر، حيث عرف بطريقته المثلى في تعليم الأشخاص الراغبين في الحصول على «البيرمي» والذي كان وسيلة تمكن كثيرا من البيضاويين من فرص الحصول على شغل، في زمن كان «البيرمي» وثيقة لا تتوفر لكل المغاربة.
يقول المعطي الغوتي، وهو مناضل يساري سابق، وأحد الأشخاص الذين تتلمذوا على يد ولد الرايس: «كان صديق الجميع يعلم القيادة بطريقة سهلة وممتعة، وكنا نقضي معه ساعات ونحن نركب معه السيارة الوحيدة التي كان يتوفر عليها، ويقول لنا راقبوا جيدا كيف أقود السيارة وينصحنا بالتريث وعدم التهور، كان التعلم سهلا في مدينة كانت شوارعها خالية من السكان لم يكن هناك اكتظاظ، لكن ولد الرايس يحترم قانون السير، بل كان يمهلنا لشهور حتى نتدبر واجب التكوين الذي كان زهيدا».
«الوفاق» تعلم العساكر السياقة مجانا
أكد العربي يونس، صاحب مدرسة تعليم السياقة «الوفاق» في شارع النيل، وهو صاحب أول محل في الدار البيضاء وفي ابن أحمد، أن منطقة سباتة وسيدي عثمان وابن امسيك، عرفت «البيرمي» مع وجود مدرسة «الوفاق» في سنة بداية الخمسينات، وأضاف أنها المؤسسة الأولى التي فتحت أبوابها في مدينة صغيرة كابن احمد بمنطقة امزاب، في زمن كان فيه على الراغبين في الحصول على «البيرمي» من الوسط القروي السفر إلى المدن.
يحكي العربي عن تاريخ «البيرمي» في الدار البيضاء، ويتحدث عن الحريزي وزكي والمراكشي والمديوني والعيدي والخياري وحسبان والرايس، ويعتبرهم من أوائل معلمي قيادة السيارات والشاحنات والحافلات في الدار البيضاء والمغرب، «المراكشي كان من الأوائل في كراج علال، والخياري التحق بالمهنة سنة 1956، وحسبان في بداية الستينات وهو القادم من مدينة خريبكة، حيث كان يشتغل في هذا القطاع رفقة عمه».
وعن تكلفة رخصة القيادة، يضيف العربي الذي سلم لابنه مشعل المهنة: «الفحص الذي يخص عيني السائق كان سعره في حدود 20 درهما، والرخصة لم تكن في بداية العمل بها تكلف الكثير حيث إن الملف يكلف 100 درهم، وكنت أعلم 25 جنديا مغربيا بالمجان في بداية تأسيس المؤسسة العسكرية، وأنا من دخل الثكنات لتكوين أفراد الجيش بروح تطوعية».
سوسان وسويسا.. يهوديان بقبعتين
اختارت «سيارة التعليم سوسان»، مقرها قرب سينما «فيردان»، في حي كان يقطنه اليهود المغاربة، وعرف عنه استقطابه ليهود الملاح، ومساعدته لليهود في حملاتهم التضامنية، بل كان يتطوع لتعليم الطلبة اليهود لتمكينهم من «بيرمي» قبل سفره إلى الخارج لمتابعة تعليمهم. إلا أن أشهر يهودي فتح مدرسة لتعليم السياقة هو شارل سويسا الذي انتهى به الأمر جثة متفحمة، في حادث سقوط طائرة الخطوط الفرنسية سنة 1961، وكان صاحب مدرسة «سيارة التعليم» في زنقة الساعة، أو ما يعرف اليوم بـ«البرانس».
الغريب في مسار هذا الرجل الذي حل بالدار البيضاء قادما من الصويرة، في نهاية الخمسينات، أنه كان يعيش بمعية عشرة إخوة يكسبون عيشهم بصعوبة من عرق جبينهم كجميع المغاربة، في بلد خرج للتو من قبضة الاستعمار، قبل أن يصبح واحدا من أغنياء المدينة.
وجد شارل شغلا له كمساعد لحلاق شهير وسط الدار البيضاء، يدعى مردوشي الصباغ، وكان المحل محجا للمشاهير والشخصيات السياسية المدنية والأمنية، كان سعيدا بعمله، وذلك لقربه من بيت والديه أولا، ولتقاضيه أجرا أسبوعيا كان يصل أحيانا إلى خمسين درهما.
حلت نهاية الخمسينات، بعيش المغرب اضطرابات سياسية، يفاجأ شارل ومعه سكان الملاح بإشاعة تأكدت سريعا، سيحل الزعيم جمال عبد الناصر ضيفا على المغرب بمناسبة انعقاد قمة إفريقية، وسيتم نتيجة لذلك إبرام اتفاق سيتم بموجبه طرد اليهود المغاربة، وهو ما جعل إحدى الحركات الصهيونية تستقطبه للمساهمة في ترحيل اليهود، حيث أنشأ مدرسة لتعليم السياقة حولها إلى فضاء لرسم خطة الرحيل في غفلة من الجميع.
البرادلي.. أول مغربي يحصل على شهادة سياقة
ولد البشير برادلي سنة 1905 بمنطقة الشياظمة التابعة لإقليم الصويرة، حل بالدار البيضاء رفقة والده وعمره 30 سنة، حيث اشتغل مساعدا لميكانيكي في ورشة لإصلاح «الشاكمات». عاش الفتى متنقلا بين الحرف وكان من أوائل المغاربة الحاصلين على رخصة السياقة، مما مكنه من الانضمام إلى المقاومة، إذ ساهم في ترحيل بعض آلياتها، قبل أن يشتغل في نقل العساكر والمغاربة العاملين في ثكنات الأمريكيين بالنواصر ضواحي الدار البيضاء.
انتقل البشير من سائق سيارات العساكر إلى سائق حافلات للنقل العمومي، قبل أن يتزوج وعمره يقارب الأربعين سنة، بمولدة فرنسية من أصول إسبانية تدعى إيرين برادلي بيليسير، ابنة أحد كبار تجار الخضر والفراكه، وكانت تقطن رفقة أفراد أسرتها بحي عين السبع، اعتنقت الزوجة المسيحية الديانة الإسلامية فور زواجها، وعاشت معه في بيت مكترى بحي المعاريف، قبل أن ترافقه في رحلة لا تخلو من المحن.
أسس الزوج برادلي شركة للنقل مقرها في طريق مديونة، رفقة شريكيه عبد الرحمن رزق ومحمد لعروسي، الذي تزوج من أنطوانيت، شقيقة إيرين زوجة برادلي، وبدأت الأسرة تجني ثمار جهدها، حيث ظهرت عليها ملامح الثراء من خلال العيش الرغيد في فيلا بشارع أنفا.
لكن البشير توفي في إسبانيا سنة 1966 بإسبانيا، وظلت وفاته لغزا محيرا، قررت زوجته إيرين دفنه في مدينة طنجة، وعادت إلى الدار البيضاء رفقة ابنتيها نادية وغيثة، ثم عبد الرزاق.
مدارس تعليم السياقة للأجانب في الدار البيضاء
كانت «سيارة التعليم بيلي» من أوائل المؤسسات التي أقبل عليها الأجانب خاصة الفرنسيين، وكان فرنسي الجنسية خصص للنساء الفترة الصباحية وللرجال الفترة المسائية، وظل محله في شارع الألزاس بمرس السلطان مقصدا لكثير من الموظفين العاملين في «بيرو عرب»، وهو مقر سلطة الحماية المخصص حينها للشؤون الإدارية للمسلمين. أما الجالية الإسبانية والبرتغالية المقيمة في الدار البيضاء، فكانت تتردد على شخص يدير مؤسسة قبالة سينما «الحرية» في شارع رحال المسكيني خلال فترة الاستعمار ومطلع الاستقلال، ويدعى دومينغو، وكانت زوجته تملك بدورها مدرسة في شارع أنفا وهي أول امرأة تخصصت في تعليم النساء رغم أن غالبية زبنائها من الأجنبيات، وتسمى «مدرسة القيادة نورمال» التي باعها دومينغو ليهودي مغربي.
عرف دومينغو بممارسة سباق السيارات، حيث كان يشارك في ملتقيات بالمغرب وخارجه، وعمل على استقطاب كثير من الشباب من مدرسته حين يكتشف فيهم مهارة القيادة، في ما كانت مدرسة «نورمال» تشكل إلى جانب مدرسة «بيلي» أكثر المحلات استقطابا لغير المسلمين.