نهاية احتكار إعلام الرداءة
تتجلى حيوية المجتمعات، من خلال قدرة الإعلام على تقديم صورة حقيقية، بما يتفاعل فيها من قضايا وما يطرحه من تساؤلات وما يقدمه من خلاصات. ومنذ كان الإعلام وهو المدخل المفتوح أمام تكوين أفكار وتصورات حول انشغالات ورهانات الدول، أكان ذلك على صعيد ما تواجهه من تحديات خارجية، أو ما تتوق إليه من مكاسب داخلية.
انتهى فعلا عصر الإعلام الذي كان يقوم على التدجين والدعاية والترويج لخطاب ذي بعد رسمي ضيق. ولم ينته دور الإعلام المنفتح والمتحرر في مواكبة تطورات الأحداث، عبر تكريس الحق في المعرفة والمعلومة وإشاعة روح التعددية، بل زادت أهميته في غضون الثورة التكنولوجية الهائلة التي قربت المسافات. بيد أنه بالقدر الذي عرف فيها المشهد السياسي وتنامي الوعي الثقافي والاجتماعي تطورا ملحوظا، يأبى الإعلام الرسمي في شقه السمعي – البصري في المغرب، إلا أن يعيش خارج عصره. لا يربطه بالواقع سوى أنه يبث من فضاء مغربي.
يتعين الاعتراف صراحة بأنه إذا كان هناك من فشل لا يبرره منطق، فهو إفلاس المشهد الإعلامي الرسمي عن أن يقوم بواجبه في تقديم خدمات ضرورية تواكب التحولات التي تعرفها البلاد. وعلى رغم الإمكانات الهائلة التي توفرت لديه، والإجراءات القانونية التي حررته من الوقوع تحت أسر الروتين والتعقيدات الإدارية، ونوعية البيئة التي يتحرك ضمنها، خارج الضغوط والإكراهات ومظاهر الوصاية التعسفية، فإن أداءه ينحو في اتجاه مغاير تماما لما كان يجب أن يضطلع به من أدوار. فهو أبعد ما يكون عن خطاب الثوابت التي لا يجادل فيها أحد. وأقرب أكثر إلى العجز والدوران في فلك السلبية والابتذال والسطحية، ولا أحد في إمكانه الاطمئنان إلى خطاب إعلامي مشوب بكل أنواع النواقص، في وقت تواجه فيه البلاد تحديات ورهانات مصيرية.
ليس هذا فحسب، فقد لعب الإعلام الرسمي دورا بئيسا في تقديم صورة غير حقيقية عن المغرب. فالبلد الذي قطع المزيد من الأشواط على طريق دمقرطة المؤسسات والانفتاح على كافة المكونات، يبدو من خلال ما يقدمه الإعلام الرسمي أكثر انغلاقا واستلابا، إلى درجة أنه يقدم رسائل مغلوطة ومشوشة عن الواقع السياسي. بينما الأوراش الكبرى التي انفتحت على طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتي أسهمت إلى حد كبير في تغيير وجه البلاد، لا تكاد تحظى بما يليق بها من متابعة إعلامية رصينة.
حين يعجز الإعلام الرسمي عن الدفاع عن قضايا تطال واجهة الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي وإنصاف الفئات المتضررة، فإن ذلك يعني تبخيس الجهود المبذولة، لأن من يتابع الصورة التلفزيونية لابد أن يصاب بالدهشة إزاء تغييب الوجه المشرق، فالأمر هنا لا يتعلق باستنساخ صورة الدعاية الشمولية التي دأبت عليها أنظمة غير ديمقراطية، وإنما بممارسة دور طبيعي، يساعد على تجلية الحقائق، من دون بهرجة أو اصطناع أو مغالاة. وطالما أن العجز أصبح ملازما لتسويق صورة الأوراش الكبرى، فكيف يمكن للإعلام الرسمي أن يواجه تحديات أكبر، بخاصة على صعيد الدفاع عن القضايا الكبرى.
إن إعلاما فاشلا على المستوى الداخلي، لا يمكنه أن ينجح في تسويق الصورة خارجيا، سيما في غضون الثورة التواصلية الهائلة التي أزالت الحواجز وقلصت المسافات. ولئن زادت نسبة الشكوى من التقصير الإعلامي على الصعيد الخارجي، فمرد ذلك أن الأزمة قائمة في الداخل أولا، حيث يجري الترويج لمغرب آخر، كل ما فيه حفلات الرقص والعري وإحباط الهمم والترويج لنماذج مفلسة ثقافيا وأخلاقيا. قد يفهم أحيانا أن بلادا تنعم بالاستقرار لا حاجة لها بغير الترفيه، ولو أن هذا الصنف أيضا يدمي القلوب حسرة، حيث الترفيه على حساب القيم والأخلاق وثوابت الهوية. لكن هل هذا هو كل ما يوجد في المغرب، أين المثقفون وأين السياسيون وأين نخب المجتمع؟ لقد طلقوا الشاشة الصغيرة، احتراما لأنفسهم وعقولهم والتزامهم، وتركوا الباب مفتوحا في وجه آخرين، يكتفون في خلاصة الموقف بالغنائم التي تجود بها خزائن التلفزيون من أموال دافعي الضرائب.
إنها أزمة انفصام. مصدرها أن المسؤولين الذين عهد إليهم برعاية مشروع الإقلاع الإعلامي، كانوا أقل وفاء للثقة التي وضعت فيهم. وربما أنهم لا يعرفون فعل غير ما تعودوا عليه، أي ترك كل ما هو جدي ومفيد، والانصراف عن القضايا الجوهرية إلى تفاهات الأمور. لكن المسألة تطرح على مستوى آخر غياب الرقابة والمساءلة، وأي مسؤول يشعر بأنه فوق الرقابة لا يفعل غير ما يريد، وإن كان ذلك على حساب انحدار مستوى المشاهدة وتردي الإنتاج وإغراق المشهد في ركام من العبث.
تخلص المشهد الإعلامي الرسمي من وصاية مفروضة، وشكل ذلك منعطفا إيجابيا. كان يفترض أن يحرر العقول. إلا أن النتيجة الملموسة التي لا يخطئها التقدير، هي تسويق الفشل. وقد حان الوقت للقيام بمراجعة شاملة. ليس لأن الإعلام الرسمي أصبح يطرح المزيد من المشاكل والعراقيل، ولكن لأنه أصبح عبئا بلا مردودية. وفي هذه الأيام بالذات يحتفل الذين تربعوا على عرش الإعلام الرسمي بالذكرى السادسة عشرة لتوليهم المسؤولية.
أما الحصيلة فاسألوا الهاربين إلى فضاءات أخرى. وليس أفضل من الدخول إلى فترة استحقاقات انتخابية جديدة بوجوه جديدة تبعث الأمل والثقة.