نكبة فرنسا
شيئا فشيئا بدأت تظهر الأسباب الحقيقية لمغادرة بريطانيا لسفينة الاتحاد الأوروبي التي بدأ الماء يتسرب إليها بعدما حدث شرخ في الحلف الأطلسي بين الأوروبيين بقيادة فرنسا في مواجهة التحالف الأنجلوساكسوني الذي يضم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا.
فقد اختارت بريطانيا أن تصطف إلى جانب توأمها التاريخي الولايات المتحدة الأمريكية لكي تشكل إلى جانب أستراليا ذراعا اقتصاديا وتجاريا ضاربا يمتد من المحيط الهندي والهادئ إلى العمق الإفريقي، والهدف طبعا هو محاصرة تمدد التنين الصيني، ولذلك أعلنت الصين عن قلقها من الصفقة الأمريكية الاسترالية. وهذا طبيعي بحكم أن الغواصات الأمريكية نووية بينما الغواصات التي كانت ستشتريها من فرنسا تعمل بالدييزل، مع كل ما يعنيه ذلك من اختلاف بين المحركين في السرعة والقدرة على إطلاق القذائف. ويمكنها الذهاب إلى حدود تايوان.
عندما تلغي أستراليا التي تقع تحت التاج البريطاني صفقة القرن مع فرنسا لتزويدها بالغواصات وقيمتها 56 مليار أورو وتقرر منحها لأمريكا وبريطانيا فإنها بذلك تسدد ضربة قاسية للاقتصاد الفرنسي ولصناعة الغواصات الفرنسية، خصوصا أن الغواصات التي ستصنعها أمريكا لصالح أستراليا ليست تقليدية بل نووية وأستراليا هي الدولة الثانية التي ستحصل على هذه الغواصات الأمريكية بعد بريطانيا.
ولم تكد استراليا تلغي صفقة الغواصات الفرنسية حتى تلقت الرئاسة الفرنسية ضربة جديدة هذه المرة من طرف سويسرا التي ألغت صفقة لشراء طائرات رافال وتعويضها بإيف 35 الأمريكية، مما دفع بالرئاسة الفرنسية لإلغاء زيارة رئيس الاتحاد السويسري. فقد كانت سويسرا قد طلبت سنة 2019 حوالي 50 طائرة رافال إلا أنها ألغت الأسبوع الماضي الصفقة لصالح إيف 35 الأمريكية.
ولأن المصائب لا تأتي منفردة فقد تلقت الصناعة الحربية الفرنسية ضربة جديدة عندما ألغت رومانيا صفقة اقتناء زوارق بحرية فرنسية الصنع، وتلقت انزعاجا مصريا من ارتفاع تكلفة صيانة طائرات الرافال التي سبق للجيش المصري أن اقتناها من فرنسا.
والواقع أن ما يحدث لفرنسا اليوم على يد أمريكا وحلفائها ليس سوى نتيجة للغرور الفرنسي الذي دفع بماكرون سنة 2019 ومن قلب برلمان الاتحاد الأوروبي إلى دعوة علنية لمنع دخول السلع الأمريكية للأسواق الأوروبية بنسبة مرتفعة، وقد فرحت فرنسا عندما أرضى البرلمان الأوربي غرورها وأصدر قرارا يقضي بخفض الواردات الأمريكية بنسبة كبيرة، وهو الفراغ الذي استغلته باريس من خلال مضاعفة صادراتها لدول الاتحاد الأوربي، مما اعتبرته واشنطن طعنة في الظهر.
وبما أنه في السياسة الخارجية “اللي رد دقتو فعام زرب”، فقد “كمدتها” واشنطن وسكتت، لكنها خلف صمتها الهادئ كانت تعد الضربة القاصمة التي ستعيد الصناعة الحربية الفرنسية سنوات إلى الوراء، فجاءت ضربة الغواصات التي كانت تعتبرها فرنسا صفقة القرن، فإذا بها تتحول بسبب الدهاء الأمريكي البريطاني إلى نكسة القرن.
الصناعة الحربية في فرنسا اليوم بصدد تلقي ضربات قاسية قد تأتي على سمعتها في السوق الدولية، وعندما نعرف أن رقم معاملات الصناعة الحربية الفرنسية يشكل قطب الرحى في الموازنة العامة نفهم أن الأمر جدي للغاية ويمكن أن يحطم أحلام ماكرون في ولاية ثانية لصالح مرشح يكون مقبولا من طرف الإدارة الأمريكية التي لم تعد تحتمل غطرسة هذا الأخير.
وبالنسبة للمغرب الذي طالما عانى من الغطرسة الفرنسية فإن ما يحدث مفيد للغاية، وقريبا عندما ستعترف بريطانيا ومعها أستراليا بسيادة المغرب على صحرائه سنرى كيف ستتحول دول جنوب إفريقيا المعادية لوحدة المغرب إلى دول حليفة.
أمريكا وإسرائيل وبريطانيا لديهم مشاريع كبرى في القارة الإفريقية لسد الطريق على الثنائي الروسي الصيني، والمغرب يوجد في قلب هذه المعادلة.