بقلم: خالص جلبي
في عام (1099 م) قبل أن يُخْتَمَ القرن الحادي عشر بعام واحد بالضبط، كانت مدينة القدس تعيش أزمة مروعة لسكانها المحاصرين الجياع، فالعصابات الصليبية المفلسة كانت تجتاح منطقة آسيا الصغرى والشرق الأوسط مثل الجراد المدمر، وتذبح سبعين ألفا من سكان القدس في الشوارع، وينشغل العالم الإسلامي في حرب (كماشة) تجتاحه من الشرق والغرب بوقت متقارب. ذراع الكماشة القادم من الشرق كان الإعصار المغولي، وذراع الكماشة الغربي كانت أوروبا الفقيرة القذرة؛ فأما الإعصار المغولي فتم امتصاص زخم اندفاعه، وتحويله إلى رصيد إسلامي، وأما ذراع الكماشة الغربي فقد قام بحرب لم يعرف لها الجنس البشري حتى الآن نظيرا، ولعله لن يعرف في المستقبل حربا تدوم 171 عاما (1099 ـ 1270) بسبع حملات عسكرية يقودها ملوك أوروبا الأميون.
وعندما كان الملك الفرنسي لويس العاشر يفدي نفسه من الأسر الذي سقط فيه في المنصورة، كان السلطان صلاح الدين الأيوبي يظن أنه أنهى الغارة الصليبية على العالم الإسلامي، ولم يعرف أنها قد بدأت فعلا في ذلك الوقت، ولكن من زاوية لا تخطر على بال أحد، ولا توحي مظاهرها بذلك.
سقوط مدينة طليطلة
إن انكسار الميزان التاريخي بين الشرق والغرب بدأ في الواقع قبل مذبحة القدس بأربعة عشر عاما (1085 للميلاد)، عندما سقطت العاصمة التقليدية لشبه الجزيرة الإيبيرية «طليطلة ـ توليدو حاليا ـ TOLIDO» بيد الفونسو السادس، بعد حصار دام سبع سنوات. وعندما ارتعب ملوك الطوائف وارتجفت مفاصلهم فرقا على عروشهم البئيسة أمام الزحف الإسباني القادم، هُرعوا باتجاه المغرب إلى الدولة القوية المرابطية جديدة الولادة، فاستنجدوا بملك المرابطين «يوسف بن تاشفين»، ليقول المعتمد بن عبَّاد، حاكم إشبيلية يومها، وهو يرى الخيار الصعب في زوال دولهم بين مطرقة الإسبان وسندان المرابطين: إن لم يكن بد من التحول إلى طبقة الخدم والعبيد وفقدان الملك، فأن أرعى جمال المرابطين أحبُّ إلي من رعي خنازير الإسبان.
كان المعتمد بن عباد شريفا على كل حال في اتخاذ مثل هذا القرار المصيري التاريخي. وبقي قبره في «أغمات» خارج مراكش، يروي حسرات الأسير وشعره الباكي. مات «المعتمد» قهرا وغما في الأصفاد بعد موت حبيبته وأم أولاده «اعتماد» التي شاركته المحنة، فبكاها بحرارة روَّى فيها تربتها بالشعر المبلل بالدموع، ودفن بجانبها، فقبرهما المشترك الذي نزلا فيه ضيفين على الأبدية يروي قصة الشعر والحب والحرب، وبينهما قبر ابنهما ثمرة الحب «الربيع» الذي لم ير الربيع.
معركة «الزلاقة» وأثرها في مصير الجزيرة
في عام (1085 م) سقطت «طليطلة» وفي عام (1086 م) كان سيف العجوز يوسف بن تاشفين ذي الثمانين عاما، ينزل كالصاعقة على رؤوس الإسبان فيحطم تجمعهم في معركة «الزلاقة على حدود البرتغال الحالية = تسمى بالبرتغالية ساجراخاس Sagrajas»، ولكن ابن تاشفين أدرك فورا بعد دخوله الجزيرة أنه لن يستطيع إيقاف مسلسل الأحداث، وأن المسلمين خسروا زمام المبادرة التاريخية، فالجسم الإسلامي مريض، وطليطلة لا أمل في استعادتها، وأبناء الجزيرة الأندلسيين تحولوا إلى أيتام في مأدبة اللئام، وكان المرض الأموي القديم قد فعل فعله وآتى أكله أيضا في الجزيرة، منذ أن نجح في إيقاف المسيرة الراشدية في العالم الإسلامي، وتحويل الدولة الإسلامية إلى إمبراطورية بيزنطية، فاستوى المرض وبدأ الجسم الإسلامي في الترنح والسقوط، بفعل انهيار جهاز المناعة الداخلي، قبل الهجوم الإسباني بفترة طويلة.
معركة «الزلاقة = ساجراخاس Sagrajas» في عام 479 هـ الموافق 1086م التي دارت رحاها على حدود دولة البرتغال الحالية، حَجَّمت الامتداد الإسباني ومسحت دول الطوائف الهزيلة التي عاشت لجيلين لمدة ثمانين عاما (399هـ ـ 479 هـ) في ضربة واحدة، وفرملت السقوط النهائي للأندلس لمدة أربعة قرون لاحقة، حتى جاء موعد كسوفها مع كريستوف كولومبوس عام 1492 م.
بعد سقوط طليطلة صمدت الجزيرة حتى مرحلة وفاة الفيلسوف «ابن رشد» الذي مات عام 1198م للميلاد، بعد أن كافأه أهل مدينته بالطرد مرتين، مرةً من المسجد هو وابنه وكانت من أحزن ما لاقاه، ومرة ثانية بنفيه الأبدي إلى قرية «الليسانة» اليهودية، ليقضي فيها بقية عمره وهو في السبعين من العمر. وعندما نضب العقل الإسلامي الجماعي إلى هذا القدر الحزين، جاءهم الطوفان الإسباني هذه المرة، ليمسح بعد أربعين عاما وبعد موت الفيلسوف بجيل واحد فقط (1238م) مدينة قرطبة بالكامل، وليطرد أهل قرطبة كلهم من المسجد، ويُدخل في مسجدها الجامع بشكل محشور عجيب، مثل الشوكة في اللحم، كنيسة مصطنعة لا يصلي فيها أحد.
كل من يمر اليوم في قرطبة يبكي عند المحراب الذي لا يصلي فيه أحد، والكنيسة الخرساء التي يحدق فيها السياح الأوروبيون بنظرة بلهاء بدون معنى، ويتأمل العربي المسلم وجوه أهل قرطبة فيتذكر أهل دمشق. هذه المرة لا يسمع اللغة العربية ولا الأذان، ويتعجب من اختفاء أمة كاملة من خريطة الوجود.
نقطة التحول التاريخية
إن منتصف القرن الثالث عشر للميلاد يسجل كارثتين غير معقولتين للعالم الإسلامي ودفعة واحدة وبفاصل عشر سنوات، ففي عام 1248 م يسقط الجناح الغربي للعالم الإسلامي «إشبيلية»، وفي عام 1258م يسقط الجناح الشرقي، بسقوط لؤلؤة الشرق بغداد بيد جحافل المغول الهمج القادمة من الشرق. ويخرج خليفة أعزل سمين حاسر الرأس لمقابلة جزار دموي من طراز «هولاكو»، يناشده الحفاظ على 700 من الجواري اللواتي لا يعرفن ضوء الشمس.
وكما جلس العباسيون على جثث الأمويين النازفة المغطاة بالسجاد، يأكلون عشاء فاخرا، ويشنفون آذانهم بسماع ألحان حشرجة أنات الموتى الأخيرة، فإن حياة آخر خليفة عباسي كانت في كيس (خيش) يقضي نحبه على نغم طبل مختلف، بالخنق والرفس بالأقدام، ويساق الوزراء وأعضاء الأسرة الحاكمة والأعيان والفقهاء إلى مقبرة المنظرة فيذبحون كالشياه، وتنعي بغداد يومها حوالي ثمانمائة ألف قتيل، وتتحول أكوام الكتب إلى جسر يصلح لمرور الجندي المغولي على نهر دجلة. إن التدمير المغولي خاصة لشبكة الري في جنوب العراق، والذي قامت عليه حضارة سومر، لم يصلح حتى يومنا الحالي.
نافذة:
في عام 1248 م يسقط الجناح الغربي للعالم الإسلامي إشبيلية وفي عام 1258م يسقط الجناح الشرقي بسقوط لؤلؤة الشرق بغداد بيد جحافل المغول