شوف تشوف

الرأيمجتمع

نقدان للغرب متمايزان

 

عبد الإله بلقزيز

 

 

من البين أن الغرب كان، ولم يفتأ، موضوع نظرات نقدية متباينة المنابت، تجاورت مع تقليد مديد من تبجيله وتلميعه لم يكن كله مما كاله الغرب لنفسه، بل كان منه ما خُلِعَ عليه من خارجه وخُصَّ به.

ولا يُدْرَكُ تعدد روافد نقد الغرب إلا متى أُدْرِكَ الحَامِلُ عليه عند هذا الفريق وذاك؛ أي متى عُرِفتِ المواقع الفكرية التي ينطلق منها هؤلاء والذهنيات التي تشتبك مع هذه أو تلك من الظواهر أو السياسات التي تغري بنقده. وبالجملة، يمكن التمييز بين نقد للغرب من الداخل؛ من قِبَل غربيين متنوعين: نخب فكرية، نخب دينية، حركات اجتماعية، ونقد له من خارجه.

بدأ نقد الغرب من الداخل زمنا مديدا قبل أن تنطلق موجاته في أصقاع أخرى من العالم أغلبها مستعمرات. ويمكن التمييز في ذاك النقد الداخلي بين أنواع ثلاثة من الخطاب النقدي حملتها فئات اجتماعية وأفصحت عنها أشكالا متفاوتة النبرة من الإفصاح: خطاب ديني، وخطاب فلسفي، فخطاب سياسي. تختلف الأنماط الثلاثة هذه في الأدوات والمفردات، ولكنها تجتمع على جامع احتجاجي واحد هو تعبير عن جدلية موضوعية تؤسس كيانيةَ الغرب نفسه.

لم يكن فك الارتباط بين الكنيسة والدولة، خاصة في البيئات الكاثوليكية، ليمر من دون أوجاع فكرية. صحيح أنه أراح الاثنتين معا من تدخلات واحدتهما في شؤون الأخرى، وما نجم من ذلك من كبير أهوال. غير أن الكنيسة ورجالاتها وأقلامَها لم يبلعوا، هنيئا، أن يُفارِق الشأن الدنيوي الشأن الديني فيتخذ، لنفسه، مجراه الخاص ذاهبا إلى اجتراح شرائع في الحياة مجافية لما تَكْرِزُ به الكنائس. ولقد كان هذا الشعور بالمسافة التي تفصل الحياة عن النص الديني في خلفية كثير من النقد الذي مداره على مادية الغرب وغرائزيته؛ على نحو ما ترددت معطياته في خطب رجال الدين، وفي كتابات كتاب مسيحيين من السلك الكهنوتي ومن خارجه. أكثر وجهة الخطاب النقدي الديني إلى هذا المقصد: الطعن على النموذج الحياتي المادي الغرائزي وتسفيهه. والنقد هذا إذا كان يتخذ، أحيانا، شكلا صاخبا تتحدث فيه الكنيسة، رسميا، فتحتج وتُجَيش الأتباع، كما في نوازل الإجهاض و»القتل الرحيم» والزواج المثلي، فهو يتردد، يوميا، بين جدران الكنائس والأديرة وعلى صفحات الجرائد اليومية…

من موقع آخر يفكر الفلاسفة والمفكرون في معضلات الغرب وينتجون حولها رؤى نقدية عميقة. لا تعنيهم مادية الغرب وغرائزيته، إلا بما هما جزء يسير من عمران متداع أقيم بفائض من العنف المادي والرمزي. إذا كانت أزمة الروحي في الغرب ما يشغل الخطاب الديني، فإن أزمة الإنساني ما شغل الخطاب الفلسفي. والإنساني هذا، المنزوعُ والمصادَرُ، تَلقى الأذى من نظام كامل من الحداثة المادية والاجتماعية سُلط عليه بعنف القانون، أو بقوة الأمر الواقع. لهذا ازدهر، في التأليف الفلسفي، نقد مختلف للغرب هو نقد الحداثة. هكذا وُضِع عمران فكري واجتماعي بكامله تحت مبضع النقد: نقد العقل؛ نقد المسيحية؛ نقد الرأسمال؛ نقد الكبت السيكولوجي؛ نقد التقنية؛ نقد الدولة الوطنية؛ نقد السلطة؛ نقد الإيديولوجيا؛ نقد الأحزاب؛ نقد المجتمع الذكوري؛ نقد المجتمع المدني؛ نقد العلم؛ ونقد المُطْلَقَات. وليس من شك في أن هذا التراث الفكري النقدي يجد له صدى في بيئات اجتماعية عدة داخل مجتمعات الغرب.

إلى هذين النقدين، الديني والفلسفي، يزدهر نقد سياسي جماعي في المجتمعين المدني والسياسي في الغرب. والغالب عليه أن تكون الحركات الاجتماعية حاضنته وحَمَلَتَهُ والقوى المعبرة عنه خارج الفضاءات المؤسسية الرسمية. إن الحركات الاحتجاجية، التي لم تتوقف منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حول مسائل مثل: ساعات العمل، ودعم مواد الاستهلاك، وضد الحرب والسلاح النووي، ثم ضد الحروب في بلدان الجنوب (فيتنام مثلا)، وضد العنصرية، ومن أجل حقوق الإنسان، مرورا بالانتفاضات الطلابية وانتفاضات السود، وصولا إلى الحركات المناهضة للعولمة… لَهِيَ، جميعها، تبديات مادية لذلك الخطاب السياسي النقدي الذي لم تتوقف المجتمعات الغربية عن التعبير عنه في مواجهة السياسات الرسمية، الداخلية والخارجية، كما في مواجهة المِنوال الاجتماعي- الاقتصادي السائد.

أما نقدُ الغرب من خارجه فتولَّتْه النخب الثقافية في مجتمعات الجنوب، على ما بين تياراتها المختلفة من تباين في المَنَابت الفكرية ومن تَمايُزٍ في الأهداف المتوخاة منه. أفصح النقد هذا عن نفسه في حقبة الاستعمار الغربي المباشر تلك البلدان، لكنه ما توقف بعد جلاء الجيوش الغازية، بل استمر متصاعدا. وقد تناول، في جملة ما تناول، مسائل عديدة: التبعية التي أنتجها الاحتلال وربْطُه بنيات المجتمعات المستعمَرة (سابقا) ببنياته الميتروبولية؛ الهيمنة ومصادَرة قرار دول الجنوب؛ اهتضامُ حقوق بلدان الجنوب والعدوان والحرب على بعضها؛ مسائل الهوية والخصوصية الثقافية؛ سياسات المعايير المزدوجة؛ الفجوة بين قيم الغرب وسياساته إلخ. ولقد وجد هذا النقد الفكري، بدوره، تجسدات له في حركات اجتماعية وسياسية عدة توسلته أنحاء مختلفة من التوسل.

من الواضح، إذن، أن الغرب ظل يطرح نفسه كإشكالية مستمرة: سواء بالنسبة إلى شعوبه ونخبه، أو بالنسبة إلى شعوب ونخب أخرى من خارجه.

نافذة:

لقد كان هذا الشعور بالمسافة التي تفصل الحياة عن النص الديني في خلفية كثير من النقد الذي مداره على مادية الغرب وغرائزيته على نحو ما ترددت معطياته في خطب رجال الدين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى