نقاش هادئ «على» الفحم..
يونس جنوحي
يتحدثون عن الفحم هذه الأيام، في مؤتمر الأمم المتحدة بشأن المناخ، أو «كوب 26». بريطانيا تتهم الصين بإفشال مجهودات القمة، والصين تنفي أن تكون سياستها الطاقية مضرة بالكوكب.
القمة التي انعقدت أخيرا في مدينة «غلاسكو» الأسكتلندية، ركزت على إثراء نقاش التخلص التدريجي من الفحم، باعتباره طاقة ملوثة.
الصينيون أكثر بلد في العالم يستهلك الفحم، بالإضافة إلى الهند. وكلاهما بلدان يمثلان نسبة مهمة جدا من إجمالي سكان كوكب الأرض، بحكم أن كل دولة على حدة يتجاوز عدد سكانها المليار، بالإضافة إلى أن مساحتهما شاسعة مقارنة مع أغلب دول العالم، التي لا تتجاوز مساحتها حجم محافظة هندية أو إقليم صغير في الصين.
استهلاك الفحم في آسيا عموما يعود إلى فترة الاستعمار البريطاني. إذ تعرف العالم على مناجم الفحم خلال القرن الماضي، واشتغل الملايين عبر العالم في توسيع أنفاق مناجم الفحم لمئات الأمتار، للوصول إلى استخراج هذه المادة التي كانت تستعمل قبل البترول في الإنارة والنقل والتدفئة.
ولا تزال الصين من الدول التي تستغل الفحم في توفير الطاقة لملايين السكان، خصوصا في المناطق النائية والفقيرة. ولا يزال الملايين يعملون في مناجم الفحم، رغم كل ما يسببه العمل في عمق الأرض لاستخراج الفحم من مشاكل صحية خطيرة، تؤدي إلى الموت البطيء.
الفحم الوحيد الذي يعرفه المغاربة اليوم هو «الفاخر»، وهو الفحم المستخرج من خشب الأشجار، حيث يتم حرق الأشجار بطريقة خاصة وفي أفران تقليدية، تحفر في جوف الأرض، في عدد من مناطق المغرب. وهو ما جعل مناطق حرق الأشجار يتحول لونها من الأخضر إلى الأسود لإنتاج هذه المادة الحيوية، سيما في المناطق النائية التي لا تصل إليها شاحنات توزيع قنينات الغاز. أما في المدن فالإقبال على الفحم يكون في عيد الأضحى، حيث تقتني الأسر المغربية ما يكفي لإقامة «حفلات» شواء الغنمي.
لكن لا أحد عندنا ينتبه إلى تاريخ مناجم الفحم الحقيقية في المغرب، والتي تعود إلى الفترة الاستعمارية الفرنسية. فقد ضحى آلاف المغاربة بحياتهم لإنشاء مناجم الفحم، وسط المغرب وشرقا أيضا، في منطقة جرادة. وكلها مناطق استخرجت منها الأطنان من الفحم، الذي وُجه إلى فرنسا، وظل الذين اشتغلوا في استخراجه من عمق الأرض، يعانون من أمراض مزمنة، تتمثل في صعوبة التنفس وآلام المفاصل الناتجة عن النزول اليومي إلى عمق يتجاوز أحيانا 500 متر تحت الأرض، دون التوفر على المعدات الضرورية.
مناجم الفحم التي أقيمت في المغرب كان مصيرها الإغلاق، وصارت من الماضي. ففي جرادة لا يزال البعض يصرون على النزول إلى ما تبقى من آثار المناجم الفرنسية، لاستخراج كميات قليلة وبيعها في السوق. وهؤلاء يتعرضون بين الفينة والأخرى لحوادث مؤلمة، بسبب نزولهم إلى حفر مهجورة، منذ أزيد من ثلاثين سنة. أما المناجم الأخرى التي أقيمت نواحي منطقة سوس، والأخرى التي شرع في حفرها من منطقتي ميدلت وخنيفرة، فقد طمرت تحت الأنقاض ولا أحد يكترث اليوم لاحتمال انجراف التربة أسفلها، مع ما يمكن أن ينتج عن الأمر من كوارث. إذ إن المناجم التي استغلتها فرنسا في المغرب، لم يتم التخلص منها بشكل لائق وآمن. بل تُركت مهجورة كما وقع نواحي ورزازات وتنغير، التي عرفت بغزارة عمليات التنقيب الفرنسي، وإنشاء المناجم العشوائية. بل الأفظع أن فرنسا تركت كميات هائلة من المواد السامة والمتفجرة المستعملة في تمديد حفر مناجم الفحم والمعادن، ولولا الألطاف الإلهية لاستعملت تلك المتفجرات، التي تركتها فرنسا لنسف القرى والمداشر القريبة من أماكن المناجم.
عندما كان بعض القرويين البسطاء يتجولون في المدن الصغيرة مثل تارودانت، حاملين على ظهور البغال أكياسا من الفحم أو جذوع الأشجار لبيعها، كنا نلاحقهم ونحن أطفال، نردد بنزق عبارة «فوريستي»، أي حراس الغابات، لإفزاعهم. وقد كان بعضهم يفرون تاركين وراءهم الحمولة، بسبب ثقل الغرامة التي تفرضها الدولة على من يبيع الفحم دون ترخيص.
هذا بالضبط ما تفعله دول أوروبا. حفرت المناجم عبر العالم، وها هي اليوم تحاسب دول أخرى، بسبب استمرار استغلالها للفحم!