في عالم العروبة يسود النفاق والشقاق وسوء الأخلاق، فوق الفقر والمسغبة. والنفاق هو تضارب السر والعلن، والشقاق هو روح الغدر وانعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم، و«النفاق» غير «ازدواج الشخصية»، كما يقول عالم الاجتماع العراقي «علي الوردي»، فالأول يدفع الناس إليه رجال الأمن ويشعر به صاحبه، والثاني انشقاق في الشخصية العربية وطل يحس به من يمارسه.
فمن خاف أطاع، ومن أُكره كَرِه، ومن أكره نافق، ومن نافق أبطن الخديعة وعبد القوة، ومن ملك القوة أعاد الكرة. وهكذا فشمس العالم العربي هي القوة، وما يتفرع عنها من أخلاق الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق. والقوة هي تعطيل للدماغ وثقة بالعضلات والسلاح وساء قرينا؛ فهذه قوانين نفسية من أجل إعادة الاعتبار للذات بعد سحقها. وهي سمة ليست خاصة بأهل العراق كما أطلقها الحجاج عليهم يوما، بل هي تحصيل حاصل من انشقاق الشخصية العربية وازدواجها. وهو مرض قديم منذ أيام الحجاج، بعد أن تحول المجتمع إلى قبيلة من صيادي الفرص.
وعندما تكون نتيجة الانتخابات في بلد عربي لمرشح واحد 97 في المائة، فهذا يعني أن الحاكم تحول إلى ديناصور لاحم، وأن الأمة انكمشت إلى حجم 3 في المائة في حجم قملة ونملة في عالم الديناصورات. والحاكم والأمة مساحتان في حقل واحد، يفضي امتداد أحدهما إلى التهام الآخر. وعندما دفع صدام الرقم إلى النهاية العظمى 100 في المائة، انكمشت الأمة إلى الصفر فلم يبق شعب، وإذا لم تكن هناك أمة سهل دخول الأمريكان بأشد من السكين في الزبدة.
والدساتير المعلنة غير الدساتير الحقيقية، وفي لحظة (الحقيقة) يظهر الدستور المخفي و(الحقيقي) فيعلن عن نفسه أنه لا يوجد دستور، وأن الدستور خدعة، وأنه لا يزيد على قماش يخاط عند خياطي الأمن حسب الحاجة والمقاس.
والذي حدث في سوريا يوما بتغيير الدستور، حسب مقاس رجال الأمن، أمر عادي، بعد أن تحول العالم العربي إلى سفاري تسرح فيها الضواري. وهو أمر حدث في غير سوريا، فقد تم اللعب بالدستور في بلد عربي فضغط إلى الأسفل في دقائق، بما يناسب عمر الطاغية. في حين أنه مطط إلى الأعلى في بلد ثان، بما يناسب عمر شمس الواعظين وقرة المتقين. وفي العراق كان قصي يستعد للخلافة وتحت مظلة (الدستور)، لولا الصاعقة الأمريكية. وفي بلاد قراقوش استعد ابن الخليفة لخلافة أبيه المعز لأمر الله. ويبدو أن التاريخ في العالم العربي يرجع إلى الخلف، فيتم إحياء ملكيات دفنت منذ أيام المماليك، أيام سعيد جقمق وخوش قدم والسلطان قلاوون الألفي، وتستنبت ديناصورات من بيض السحالي كما جاء في فيلم «جودسيلا».
وفي مؤتمر «مستقبل الكلمة المكتوبة»، الذي عقد في الإمارات عام 2002م، استنكر أحد الحضور حكم العائلات في الخليج. فكان جواب رئيس تحرير جريدة خليجي، أنها الموضة المتبعة حاليا في جمهوريات الخوف والبطالة، فتتحول إلى ملكيات وراثية.
ويبدو أن هذا الانقلاب مشعر على رحلة تطور المجتمع. والمجتمع العربي ما زال يراوح مكانه على أنغام الطائفية والقبيلة، فكانت الملكية مرحلة تقدمية. ويبدو أن حكم العائلات المالكة هو الذي سيسود عالم العروبة، في القرن الحادي والعشرين.
وهناك من اقترح وعلى نحو جدي أن تغير أسماء الجمهوريات إلى (جملوكيات)، فتصبح أسماء الممالك الجديدة باسم العائلات الجديدة، بشرط أن تكون ملكية دستورية. ولكن المشكلة هي أن شتاء العولمة زاحف، والعرب ما زالوا في جلابيات الصيف يرعشون.
وهذا التطور يجب النظر إليه في ضوء علم الاجتماع لماذا يحدث؟ وما يجب ألا يحدث؟ ولماذا ابتكرت أمريكا هذا النظام العبقري أن لا يدفأ الكرسي تحت أحدهم أكثر من أربع سنوات. ولماذا يسخن الكرسي تحت الحاكم العربي إلى درجة سلق البيض تحته؟
إنها مشكلة سيكولوجية في تضخم الذات وموت الأمة.
علينا إذن استيعاب أن الحكومات ملابس جاهزة عند أحسن خياط على مقياس الشعوب. والطفل حينما يشب عن الطوق، سوف يغير ثيابه على نحو أكيد. وعندما ينمو الجنين لحين الكمال، يجب أن يخرج من الرحم، وإلا ماتت الأم والجنين معا.
وفوضى العالم الإسلامي الراهنة تذكر بقصة الغلام والوصي ونعال الجمال، فقد مات رجل وترك صبيا قاصرا أشرف عليه عمه، فكان يعرض على الغلام كل سنة رصيد أمواله وأين صرفت، وكان في نهاية كل عام يقول: وصرفنا من أموالك كذا من المال ثمن نعالٍ للجمال. واستمر الحال سنوات والطفل يهز رأسه موافقا، حتى إذا كبر الصبي وجاء وقت الحساب في سنة، قال: يا عماه، ولكن ما أعرفه أن الجمال لا يوضع لها نعال. التفت العم إليه وقال: قد رشدت يا بني ويمكن أن تتصرف في مالك. وسوف يدفع العرب ثمن نعال الجمال حتى يرشدون.
خالص جلبي