نظرية داروين (3 ـ 4)
بقلم: خالص جلبي
كتاب داروين عن «أصل الأنواع»، ثم كتابه اللاحق عام 1871 عن «أصل الإنسان» كانا تثويرين كاملين لإعادة النظر في فكرة الخلق المتدرج بموجب رحلة تطورية، ختمت حتى اليوم بظهور الإنسان كسيد للكائنات بدماغ يعتبر أفضل ما أنجبته الطبيعة… «هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه».
كانت النظرية تتعارض مع ما تبنته الكنيسة عن نشوء الإنسان، كما كانت نظرية (كوبرنيكوس) في الفلك سابقا ضربة مزلزلة لعقيدة الكنيسة في حركة الأجرام السماوية؛ فلا شيء أخطر على الدين من التورط في آراء علمية، خاضعة للحذف والإضافة.
وفي كلام (عابد الجابري) في كتابه «التراث الفلسفي» قدر من الحقيقة، عندما رأى في حركة (ابن رشد) أكثر من توفيق بين الدين والفلسفة؛ فكل منهما يسري في مجراه الخاص له طبيعة خاصة به، ويقصدان في النهاية الحقيقة المطلقة، وشعار (أسلمة العلوم) كما تطرحه بعض المعاهد يلقي ظلا إيديولوجيا على العلم؛ فليس هناك علم بوذي وآخر بروتستانتي.
أربعة اختراقات معرفية هزت الفكر الإنساني وما زالت في (الفلك) و(الجغرافيا) و(التشريح) و(الخلق):
نظرية كوبرنيكوس ومن بعده جاليلو عن النظام الشمسي، واختراق ماجلان بحر الظلمات ليقلب خرائط الجغرافيا ومحاور الأرض، ومبضع (فيزاليوس) لإرساء علم التشريح، وأخيرا داروين في نظرية (النشوء والترقي EVOLUTION).
واعتبر المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) عام 1453 سنة العجائب، ففيها تمت الاختراقات الثلاثة الأولى؛ فلم يعد الجسم البشري (طابو)، ولم تعد أعمدة هرقل نهاية العالم، وانهار النظام الكوني، لتصبح الأرض كوكبا بسيطا في مجرة عامرة قطرها مائة ألف سنة ضوئية (السنة الضوئية هي تسعة ملايين مليون كلم).
كانت محاضرات (فيزاليوس) بإيطاليا في التشريح عن الأعضاء التناسلية مثيرة للرهبان؛ فكانوا يحضرون متسللين نصف مختبئين يسترقون السمع، وعندما هرب فيزاليوس إلى إسبانيا واجهته مشكلة جراحية عندما سقط ابن الملك فيليب الثاني، فاقترح ثقب رأسه لاستخراج الدم المتجمع.
كان الأطباء ورجال الدين يومها يعزون الأمراض إلى تعكر مزاج المريخ أو اضطراب البروج أو كثرة الذنوب أو اليهود والساحرات والقطط، ويعالجون السعال الديكي بلبن الحمير والطاعون بجلد الذات؛ فطلبوا من الملك قتله، وكان فيزاليوس يرى أن (الواقع) هو الذي يبوح بالسر، وأن الرجوع إلى الظاهرة المرضية كفيل بإماطة اللثام عن معضلة حلها، ولا علاقة للذنب في حدوثها، وبذا قلب مفهوم الذنوب ليصبح مخالفة سنن الله في خلقه في إطار أكبر من المخالفات الجنسية.
وفي عام 1865 تقدم راهب دومينيكاني هو (غريغوري ماندل) ببحث مكون من 55 صفحة عن خلاصة تجاربه على نباتات البازلاء، توصل إليها بجهود سنوات مضنية من العمل الكثيف المتتابع، يزعم فيها اهتداءه إلى ثلاثة قوانين أساسية في توريث الصفات، تصلح قاعدة لفهم انتقال الصفات عند الإنسان.
وأرسل بحثه إلى 133 معهدا عالميا كان جوابهم عنه الإهمال؛ فالعلم لم يكن قد نضج الكفاية لينتبه إلى أهمية القوانين التي اهتدى إليها، مما جعله يكتب في مذكراته مغتاظا مستعجلا: «أيامي لم تأت بعد، وسيأتي الوقت الذي يعترف العالم بي».
وإذا كانت أعمال (غريغوري ماندل) قد أخذت 35 سنة حتى أعيد إحياؤها، فإن مقدمة (ابن خلدون) في علم الاجتماع نامت لفترة خمسة قرون، بأطول من نومة أهل الكهف التي دامت ثلاثمائة سنة وازدادت تسعا، ليعيد اكتشافها عالم بريطاني هو (توينبي TOYNBEE) فيصف عمله، أي عمل ابن خلدون، بأنه «أعظم عمل من نوعه أنتجه أي عقل في أي زمان أو مكان».
أما ماكس بلانك الذي توصل إلى الثابت الكوني في ميكانيكا الكم، فلم يعترف به إلا بعد موت جيل العلماء المعاصرين له.
غريغوري مندل اكتشف قوانين الوراثة متزامنا مع اكتشافات (داروين)، ولم يتفطن كل منهما إلى أهمية اكتشاف الآخر، واكتمل العمل بتجارب (باربارا مك كلينتوك BARBARA McCLINTock) باختراق مثير في فهم الجينات بطرح مفهوم (الطفرة MUTATION ( أنها مسؤولة عن نقل الصفات، موزعة بشكل عشوائي على أعمدة الكروموسومات، في ما لا يقل عن 50 إلى 140 ألف موضع، تشكل خارطة الخلق الكاملة؛ ليست كـ(حبات لؤلؤ في جيد حسناء) بل تغير أماكنها وطبيعتها، فأضافت بذلك فصلا جديدا في تعانق فكرة (مندل) في الصفات الوراثية و(التطور) عند داروين، وتبقى (الطفرة) هي التي تنقل إمكانية التغير والتكيف الأفضل لجيل بعد جيل. ولعنة فيروس كورونا في عام 2020 هي طرف من تغير طبيعة الفيروس وشراسته.
وهذه الفكرة تشرح ظهور أكثر من 11 نوعا إنسانيا انقرض، وكان آخرهم إنسان نياندرتال، قبل أن يظهر نوعنا العاقل، الهومو سابينز، فالطبيعة كانت تقوم بإجراء تجارب على إنتاج نسل إنساني يترقى مع الوقت، وحين نقول الطبيعة أقصد بها تلك القوانين الأزلية التي غرسها الله في الوجود ومنها الصيرورة والتغير.
بين كشف قوانين الوراثة على يد مندل عام 1865، والانطلاق بمشروع (الهوجو) عام 1989 في لوس آلاموس لفك الشيفرة الوراثية، رحلة مثيرة لتطور الأفكار وتراكمها وتفاعلها باتجاه (العالم الأصغر) في بعثة إلى نهاية التشريح؛ لدخول مكتبة في نواة كل خلية تضم عشرة آلاف كتاب، كل كتاب بـ300 صفحة، في كل صفحة ألف رمز بطلاسم من لغة سرية من ثلاثة مليارات حرف.