في عام 1859م، صدر كتاب «أصل الأنواع»، وفي عام 1871م نشر كتاب «أصل الإنسان»، فاهتزت الأوساط العلمية وهاجمه أكثر الناس وتبرأت منه الكنيسة، واعتبرت كاتبه شيطانا مريدا. مع أن الرجل لم يشكك في الخلق الإلهي، بل تحدث عن كيفية حدوثه هل كان دفعة واحدة، أم أطوارا؟ وهي النقطة التي تطرق إليها عبد الحميد الجسر، صاحب كتاب «قصة الإيمان»، الذي فرق بين الأمرين، أن يكون الخلق دفعة واحدة أو بالتدرج.
ومسألة الخلق الإلهي لا يناقشها أحد. وكما شاءت إرادة الله أن يخلق السماوات والأرض في ستة أيام، فهو ينطبق على خلق الإنسان، وفق صيرورة خاصة به. والقرآن ذكر الإنسان في أوصاف متباينة بين الحمأ المسنون والطين اللازب وصلصال كالفخار.
ولعل أهم الانقلابات في الفكر الإنساني التي حدثت حتى اليوم، هي ما قام به «كوبرنيكوس» و«فرويد» و«داروين» ففي (الكوسمولوجيا) نقض «كوبرنيكوس» بناء العالم. ولم تعد الأرض مركز الكون، ولم تعد الشموس والكواكب تدور حولها، بل تحولت إلى كوكب تافه في عالم لا يكف عن التوسع. وإمكانية وجود الحياة في كواكب أخرى واردة، وما يمنع الاتصال بعد المسافات، والله على جمعهم إذا يشاء قدير.
وفي (السيكولوجيا = علم النفس) اكتشف «فرويد» أن النفس طبقات، مثل طبقات الأرض، تضم (الوعي) و(اللاوعي) و(ما فوق الوعي). والأخير (ما فوق الوعي) يشبه المادة الرمادية في قشر المخ في غاية النحافة بمقدار مليمترات بست طبقات، ولكنه مركز وهج العبقرية ولحظات الوعي الفائقة ولمعات الأفكار الإبداعية.
و(الوعي) عندنا لا يزيد على 5 في المائة من مكونات الشعور، وما يقودنا في كثير من المواقف هو (اللاشعور). ومخزن (اللاشعور) هائل يضم الخبرات والعواطف والسلوك. وعندما يطل اللاشعور إلى الأعلى فهو يبرز بقرون جديدة من الأحلام أو حتى العقد النفسية. وسبر غور (اللاشعور) يحرر الإنسان من العقد.
وفي مجال (البيولوجيا) قام «داروين» برحلة علمية في سفينة «بيجل» عام 1831م. ومع دجنبر عام 2003م نقل المكوك الفضائي الأوروبي العربة بيجل «الثانية» إلى سطح المريخ، اعترافا بفضل داروين بعد 125 عاما.
ودامت رحلة داروين خمسة أعوام، ولكن أكثر فصولها إثارة هي تلك الأسابيع الأربعة التي قضاها في جزر «غالاباغوس»، التي أوحت له بنظريته في أن التطور يسوق الخلائق وأنه لا شيء ثابت في الطبيعة إلا التغير. وأعيته فكرة «الآلية»، فإذا كان التطور هو الذي يحكم البيولوجيا فبأي آلية يتم؟
وكان عام 1837م حاسما عند داروين، حينما اطلع على مقالة لقس بريطاني هو «توماس مالتوس»، ذكر فيها أن ما يحكم تكاثر الغذاء والسكان سلاسل حسابية مختلفة. فالناس يتكاثرون وفق سلسلة هندسية، في حين أن الغذاء يتكاثر وفق سلسلة حسابية. وهذه الفكرة أيقظت عند داروين الانتباه إلى أن آلية التطور تخضع لقانون الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح. ولكن الكارثة جاءت من نقل هذه الفكرة من البيولوجيا إلى علم الاجتماع، كما يقول مالك بن نبي، حيث يصبح الأصلح هنا هو الأفسد والأشر.
والمهم فقد تردد داروين في عرض نظريته على الجمهور العام، حتى أرسل إليه عالم بريطاني هو «ألفرد راسل والاس» بالأفكار نفسها.. فطرحت المقالتان في مجلة علمية، ولكن لم ينتبه إليهما أحد.
وعندما تقدم بكتابه «أصل الأنواع» عام 1859م، ثم «أصل الإنسان» عام 1871م، ارتجت الأرض وما زالت الضجة قائمة حتى اليوم حول أفكار داروين في التطور. ومن الغريب أن أفكار داروين في التطور لا علاقة لها بإيمان وكفر. والله يمكن أن يخلق الكون في لحظة، ولكنه جل جلاله خلقه في ستة أيام. وما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا. والقرآن يقول إنه يزيد في الخلق ما يشاء، وإنه يخلق ما لا تعلمون.
و«ابن خلدون» في المقدمة أشار إلى الفكرة بالطريقة نفسها من التحول العجيب بين عتبات الخلق، من المادة إلى النبات، ثم الحيوان ثم الإنسان. وعندما هاج الناس على داروين، كان الرجل مريضا من أثر لسعة سامة في رحلته «بيجل» ومات من أثرها عام 1882م، وتولى الدفاع عنه «توماس هكسلي»، وحاول نقل الفكرة البيولوجية إلى علم الاجتماع والفلسفة. وما زال الجدل حتى اليوم ثائرا حول ما جاء به داروين.
ولذا يعتبر كتابه ثورة من ثورات الفكر في التاريخ، كما كان الأمر مع «كوبرنيكوس» في الفلك. فكما نقض «كوبرنيكوس» (الأكوان) فقد هدم داروين عالم (الأبدان)، فاستبدل فكرة الخلق الثابت بالخلق أطوارا. وأنه ليس هناك من شيء (ثابت) في الوجود إلا (عدم الثبات). و(الصيرورة) و(التغير) هو القانون الذي يحكم الوجود خلقا من بعد خلق. وهي، أي (الصيرورة)، العمود الفقري في البوذية. ولا شيء ثابت إلا وجهه الكريم.
خالص جلبي