التاريخ والعراقة والحضارة تظهر لدى الدول والشعوب عندما تستقبل الضيوف، وقد شاهد الجميع مستوى الحضارة والعراقة والتاريخ عند جيراننا بمناسبة استقبالهم للفرق المشاركة في “الشان”.
كنبات “محشرة” ممزقة بالسكاكين، طاولة تشبه طاولات باعة السمك عندنا، وحلويات ومشروبات يستطيع أي تلميذ عندنا يحتفل بعيد ميلاده أن يعد أحسن منها.
هذه الصور المخجلة التي جاءتنا من الجارة الجزائر تؤكد أن النظام الجزائري يعيش اليوم ما يمكن توصيفه بآخر فصل من فصول رقصة الديك المذبوح، لأنه فعلا نظام تعدى كل حدود الخبل والجنون، والمؤسف هنا هو أنه جرَّ معه العديد من بسطاء الشعب الجزائري المغلوب على أمره. شعب يرى نظامَه يصرف مقدراته الوطنية على قادة البوليساريو في مختلف أنحاء العالم بسخاء، ليسكنوا القصور والقلاع، فيما هو يصطف لساعات لاقتناء نصف لتر حليب مغشوش ويقطن دور صفيح، وعندما يستقبل ضيفا لا يجد ما يقدمه له.
فإذا تركنا جانبا الخرجات الإعلامية غير المنضبطة التي تأتينا يوميا من “الجيران”، بدءا من رئيس البلاد الذي ينسب لسكان “مدينة بجاية” بناء القاهرة والأزهر المصريين، مرورا بـ”العلماء” الذين يدافعون عن “نظرية” سرقة المغرب لجبل توبقال، نزولا إلى المواطِنة البسيطة التي تنسب اللاعب “ميسي” لمنطقة “تيزي وزو”، فإن بداية العد العكسي لنظام ما بعد “الحراك” باتت معدودة. لأن الذي حدث هو أن الجنرالات سرقوا الحراك، وبدل تأسيس نظام مدني منتخب، يجسد إرادة الشعب الجزائري الغني على الورق والفقير على أرض الواقع، فإنهم حولوا دولتهم إلى مصرف مفتوح للعالم، فيكفي أن تبادر جمعية محلية مغمورة في غواتيمالا وهي من جمهوريات الموز بتنظيم أيام من أجل أطروحة الانفصال، حتى يجتهد نظام العسكر لمدها بدولارات تكفي لتجديد قنوات الصرف الصحي المختنقة في وهران والجزائر العاصمة منذ سنوات. ووصل “المرض” بنظام العسكر حد تخصيص ملايين الدولارات لمختبرات متخصصة في الجيولوجيا في جامعات غربية، فقط لتثبت بأن الجزائر هي مركز الكرة الأرضية قبل ملايين السنين، أي قبل أن تظهر القارات بالشكل الذي هي عليه الآن.
دخول نظام العسكر هذه المرحلة الحرجة من المرض، هو كلام تمكن مناقشته لو تمت نسبته إلى مغربي أو عربي يفهم حقيقة ما يجري، بل هو مضمون مقال صادر عن مسؤول ديبلوماسي رفيع شغل منصب سفير فرنسا في الجزائر لسنوات طويلة. هذا السفير كتب بلغة صدمت الفرنسيين قبل الجزائريين، مقالا تحت عنوان: “الجزائر تنهار.. هل ستجرّ فرنسا معها؟”، حيث قدّم السفير الفرنسي السابق في الجزائر غزافييه دريانكور، في مقال له بصحيفة “لوفيغارو”، تقييماً نقدياً للغاية للسنوات الثلاث من الفترة الرئاسية لعبد المجيد تبون، معبّراً عن خشيته من تداعيات الوضع السياسي الجزائري على فرنسا.
غزافييه دريانكور، الذي كان سفيراً لدى الجزائر مرتين، قال إن ثلاث سنوات مرّت منذ انتخاب عبد المجيد تبون رئيسا للجمهورية الجزائرية، تؤكد أن ما يعتبره النظام هناك “الجزائر الجديدة” بصدد الانهيار، وستجرّ فرنسا معها في طريقها إلى الانهيار، بشكل أقوى من تسبّب الأزمة الجزائرية في سقوط الجمهورية الفرنسية الرابعة عام 1958.
هذا المقال الصادر عن خبير ديبلوماسي صار موضوع الساعة في كل وسائل الإعلام الفرنسية. لأنه يقدم وجهة نظر تعكس نفاق إيمانويل ماكرون في التعاطي مع الجزائر. وفي الوقت نفسه تعكس نفاق العسكر في التعاطي مع المستعمر السابق.
فنجد ماكرون مرة ينتقد بعنف غير مسبوق نظام العسكر، بالقول مثلا إن “الجزائر أعادت كتابة تاريخ تم بناؤه على كراهية فرنسا”، وأيضا حديثه عن “ريع الذاكرة”، وعن “نظام سياسي عسكري مرهق”. لكنه في المقابل يرسل إلى العسكر رئيسة وزرائه مع خمسة عشر وزيراً.
وفي المقابل لا يفوت “تبون” فرصة الحديث عن الشهداء والثورة ولكنه عندما استقبل ماكرون تحدث عن “بناء المستقبل” وعن “شراكة طموحة وملموسة”.
فإن كانت من حسنة لنظام العسكر مستقبلا فستكون حتما إجبار فرنسا على أن تعالج تناقضاتها، خارجيا وداخليا، وبالتالي تدخل قسريا في طور جديد باسم الجمهورية السادسة.
والحقيقة أن ريع الذاكرة لا يقتصر على فرنسا فقط، بل امتد إلى المغرب وأصبح أكثر ميوعة. ومن يتتبع بعض الجزائريين وهم يشجعون المنتخب الفرنسي ضد المغربي في مونديال قطر سيعرف أننا أصبحنا عُقدة العُقَد بالنسبة للنظام الجزائري، حيث شاهد العالم كله لأول مرة في تاريخ كرة القدم جماهير حاضرة بقوة في الملاعب رغم أن فريقها غير متأهل، ولكن حجت من كل فج عميق لتشجع ضد المغرب.
هذا السلوك، وإن كان يبدو معزولا لأنه يتعلق بكرة القدم، فإنه يعكس توجها رسميا لتبخيس كل ما هو مغربي، ولو بتزوير الحقائق والوقائع، من قبيل أن “أسد الأطلس” جزائري، وأن الجزائر يمكنها مساعدة المغرب لتحرير سبتة ومليلية في 24 ساعة !
وبالعودة إلى السفير الفرنسي، فقد خلص إلى القول إن فرنسا تواجه مفارقة مزدوجة، من ناحية، التحالف بين جيش مناهض لفرنسا والإسلاميين الذين يكرهونها، حيث يشترك الاثنان في كراهية فرنسا، والإرادة القوية للقضاء على بقايا الاستعمار لغويا وثقافيا، مع جعل فرنسا تدفع ثمن ماضيها الاستعماري، من خلال الهجرة والاعتذار.
بمعنى آخر أن جمهورية العسكر ستنهار حتما قريبا وستجر معها الجمهورية الخامسة، وسيضطر ماكرون للاعتذار للشعب الفرنسي، وبالتالي سيتوجب عليه التنحي، لأنه وثق في حكام جزائريين لا إيمان ولا خلاق لهم. حكام يعتقلون كل من يحتج على قنينة غاز ولكن يبذرون بسخاء كل قطرة غاز على من يصدر بيانا أو بلاغا في كل دول العالم يقول بالأطروحة الانفصالية.