نظام الحلقات الثلاث
خالص جلبي
الخوف ضروري كآلية حفاظ على العضوية، إذا جاء ضمن الوسط الذهبي بين قطبي اليأس والأمل، وهو ضار ثقافيا لأنه يمزق شبكة التعاون الاجتماعية وينتج النموذج المنافق، ويمكن التحرر منه بغرس شجرة اللاعنف؛ لأن شجرة العنف جذورها الكراهية وثمرتها الخوف والجريمة، وشجرة اللاعنف جذورها الحب وثمرتها الأمن والسلام الاجتماعي؛ فهذه مضامين فلسفية أولى يجب أن يضعها رجال الأمن العربي في اجتماعاتهم، التي لا تنتهي في كيفية مكافحة الإرهاب. وهذا يتطلب جراحة ثقافية، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
يتساءل عالم النفس السلوكي (سكينر) في كتابه (تكنولوجيا السلوك الإنساني) عن علاقة السلوك بالمشاعر، وتأثير كل طرف على حده المقابل. هل نحن نخاف فنهرب أو أننا نهرب فنخاف؟ الواقع أن كليهما سليم فعندما نخاف نبتعد، وبقدر حجم الخوف يكون الفرار، وهو بدوره يزيد من جرعة الخوف ويدعم تأثيره.
يعتبر الخوف عامل طرد، كما أن الأمل يعتبر قطب الجذب المقابل، وهكذا فأفضل (حقل) تتحرك به النفس هو السباحة بين قطبي الخوف والأمل، وهذا يفسر لماذا سلط الدين هذين التيارين على عقل المؤمن بين جنة عرضها السماوات والأرض ونار تتلظى!
لعل أفضل وضع للحركة عند مطاردة مجموعة لشخص تريد النيل منه، أن يركض مستخدما أفضل مهاراته الفيزيائية والروحية عندما يخاف أن يقع في قبضتها، مع كل أمله أنه يمكن أن يتخلص منها، وبين هذين القطبين يكون الركض على وضع مثالي، وتبدأ الحركة في التباطؤ طردا مع ازدياد شحنة أحد القطبين، عندما يبدأ شعور الخوف بالازدياد، والإحساس بالأمل بالتلاشي، وتتوقف الحركة تماما عند استيلاء أحد الشعورين الكامل على الإنسان؛ فبقدر ما كان الخوف ضارا كان الأمل سما قاتلا، من هنا نبه القرآن أن لا يستولي علينا هذا الشعور المخدر بالأمن (أفأمن أهل القرى أن يأتيه بأسنا ضحى وهم يلعبون؟)، وبالمقابل أن لا نطوق باليأس فهو صفة الكافرين.
نخلص من هذا إلى أن جمود الروح وتيبسها في حقل بعينه يقتلانها، وأن مخطط الحركة وتواترها بين قطبين هما اللذان يدفعان تيار الحياة إلى الوجود كما في التيار الكهربي، فهي ظاهرة موجودة في الحياة أينما تفقدها المرء؛ فالدماغ الميت يعطي مؤشر السواء بدون موجات، وخفقان القلب يعطي مخطط صعود وهبوط بدون توقف، والكهرباء تقوم بترددات لا تعرف الراحة، كذلك الحال في فعالية الروح وحركة المجتمع، وكذلك كان مخطط الحضارات في التاريخ بين يقظة وتألق فانهيار وتفسخ .. سنة الله في خلقه.
يفيدنا علم النفس في فهم ظاهرة الخوف على نحو آخر، ويمكن دمج العلوم العصبية بمفاهيم قرآنية باستخدام العلوم المساعدة؛ فلا يمكن اعتماد تفسير قديم لفهم القرآن مع روح العصر إلا بقدر استخدام أدوات فرعونية لفتح الجمجمة في الجراحة العصبية! وهذا ليس نيلا من مكانة المفسر، ولكن الرجل لو بعث في يومنا هذا بمعلومات عصره لزلزل وشرع في كتابة تفسير جديد، يتحول معه تفسيره القديم إلى قطعة متحفية.
علم النفس يرى الروح تسبح في ثلاث حلقات بين النفس (العادية NORMAL) وحالتي (العصاب NEUROSIS) و(الذهان PSYCHOSIS)، في توتر يصعد وينخفض من المؤشرات المختلفة في مخطط لا يعرف الراحة والتوقف حتى في النوم؛ فهناك الوجود الثاني لنا عندما ينفلت اللاوعي من قبضة الوعي، فيتحرر لينشد أنغامه الخاصة في فسحة سجن بدون حراسة.
نحن نسبح في عوالم مختلفة من الانفعالات تجللنا سحب الحزن، ويغشانا ضباب الشهوة، وننهار مع انكسارات الحزن، ونعمى مع انفجارات الغضب، ولكن سرعان ما نتغير فتختفي غيوم الإحباط، وتشرق شمس السعادة، وتضيء الروح بنور ربها بكل الانفعالات الإيجابية. وهذا النشاط من التردد طبيعي يشهد للنفس أنها تعيش مخططها اليومي العادي، ولكن هل تبقى الروح هكذا، أم يمكن أن تنزلق إلى الأسفل أو تصعد إلى الأعلى؟
إن الدين يسعفنا بمدخل رائع للنهوض بالروح في رحلة الاكتمال نحو بناء النفس المطمئنة، كما فعل الإمام الغزالي في تحليله لمعارج القدس في مدارج معرفة النفس. إذا بقي الإنسان في تردد عادي مع مخططات هبوط وصعود بين الخوف والرجاء كان ضمن الحلقة العادية؛ فإذا زادت جرعة الخوف تحولت إلى رهاب (فوبيا PHOBIA) تدفع الروح إلى الانزلاق إلى عتبة دنيا لتدخل دائرة خطيرة من القلق المدمر؛ فإذا تكثف شعور الخوف وازدادت جرعته تحول إلى سم، ونحن نعرف هذا من الطبيعة والدواء؛ فالطعام لا نأكله بدون ملح، ولكننا لا نأكله إذا امتلأ بالملح وفاض، والدواء إذا أعطي بجرعته فوق العادية ينقلب الى سم بدل أن يكون ترياقا، وبقدر ما كان الحديد أساسيا في بناء الدم فإن تراكمه يقود إلى تشمع الكبد القاتل، وكذلك المشاعر فممارسة الجنس الحلال تعطي بهجة للروح، ولكن الولوغ فيه يدفع الروح نحو التفسخ والإباحية، وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
إن رفع جرعة الخوف في المجتمع يقوده إلى الشلل على مقداره ونسبته، ولكن هناك قدرا أفظع بالانحدار إلى عتبة دنيا تطوق الإنسان حزمة من المشاعر السلبية؛ كأن يشعر أن كل الناس يتآمرون عليه وكل اثنين يتكلمان فهما حوله لأذيته. وهو المعروف في علم النفس بالزوَّر (البارانويا PARANOIA)، فيدخل المريض حالة من تكزز الروح وسيطرة مخطط ذي ذرى جنونية حادة عالية متقاربة، جعل الناس يتعارفون عليها أنها الجنون. مقابل هذه الحلقات الثلاث يتقدم إلينا القرآن برؤية تكاملية تصعد إلى الأعلى بين النفس الأمارة بالسوء، وتلك التي تمارس النقد الذاتي (اللوامة) وتلك التي نضجت (المطمئنة).
أصيب رجل بخوف شديد فخيل إليه أنه دجاجة يتربص بها الثعالب ريب المنون فانحسر في منزله لا يفارقه؛ فأخذه أهله إلى طبيب نفساني بارع استطاع أن يصل إلى إقناعه أنه بشر سوي وليس دجاجة مطلوبة من الثعالب المحومة حول البيت. خرج الرجل من العيادة أخيرا يبدو معافى، ولكنه بمجرد أن وضع قدمه في الشارع انقلب مذعورا ترج مفاصله، وتدور عيناه كالذي يغشى عليه من الموت، حتى ارتمى في أحضان أهله. صرخ به الطبيب قائلا: ولكنك اقتنعت أنك لست دجاجة أليس كذلك؟ أجاب باستسلام: نعم يا سيدي ولكن هل اقتنعت الثعالب في الخارج أنني لست دجاجة؟