شوف تشوف

الرأيالرئيسية

نظارات طبية للسيد الرئيس

حكمة قديمة ومنقرضة مفادها أن المفكرين والكُتاب الفرنسيين لا ينزعون نظاراتهم الطبية إلا في الحمّام، لكي يغسلوا وجوههم.

وهذه كناية قديمة عن اهتمامهم بالكتابة والاطلاع والتأليف وتأمل الوثائق والكتب. لكن يبدو أن بعضهم اليوم لا يضعون نظاراتهم الطبية إلا في الحمام، حتى لا يجرحوا ذقونهم أثناء الحلاقة الصباحية. وهكذا، فإن بعضهم عندما يكتبون أو ينزلون إلى الشارع لمطالعة الواقع، قبل الكتابة عنه، لا يرون الأمور بوضوح، ولا يتحققون من معلوماتهم، قبل إصدار الأحكام والإدلاء بمداخلات في برامج التلفزيون الفرنسي.

بعض المثقفين الفرنسيين يُجمعون هذه الأيام على أن العلاقات المغربية الفرنسية وصلت إلى أسوأ حالاتها، في عهد الرئيس الفرنسي الحالي «إيمانويل ماكرون»، الذي وصل إلى الحكم سنة 2017. إذ إن زيارته إلى الجزائر أيام بوتفليقة، بالإضافة إلى سلسلة من الزيارات الأخرى إلى بعض الدول الإفريقية التي تربطها علاقات وطيدة مع المغرب، سجل فيها الرئيس على نفسه أنه منزعج بشكل ما من «الرباط».

وبدا الأمر واضحا عندما تحدث عن اعتذار فرنسا لبعض الدول عن الأحداث التي ارتُكبت على يد المسؤولين الفرنسيين وممثلي الجمهورية الفرنسية، خلال فترات الاستعمار. لكن لم يسبق أبدا للرئيس الفرنسي أن تناول الملفات العالقة مع المغرب، والتي تعود إلى فترة الحماية.

وما زاد من تأكيد وتقوية هذه الفرضية، اعتذار الرئيس ماكرون سنة 2018 للجزائر عن فظاعات الاستعمار. كما أنه اعتذر للسيدة «أودان»، زوجة المناضل الشيوعي الفرنسي الشهير «موريس أودان»، الذي اختفى سنة 1957، وعمره وقتها لم يكن يتجاوز 25 سنة.

هذا الشيوعي الفرنسي اختُطف في الجزائر عندما كان ينشط سياسيا ويدعو حكومة بلاده إلى منح الجزائر استقلالها. ورغم الشعبية الكبيرة التي كان يحظى بها في أوساط الجزائريين، إلا أن هذا لم يمنع البوليس الفرنسي في الجزائر من اختطافه في وضح النهار، والتحقيق معه وتعذيبه والتخلص منه في الأخير.

اعتراف فرنسا بمسؤولية موظفيها وأمنييها في الجزائر وعلاقتهم بملفات تعذيب واعتقال وإعدام مقاومين، يفترض أن يرافقه اعتراف بكل ما مارسه مسؤولوها في المنطقة، وليس في الجزائر فقط.

فالاختطافات التي طالت اليساريين الفرنسيين، والمقاومين المغاربة، على يد منظمة اليد الحمراء التي نشطت في الدار البيضاء خلال خمسينيات القرن الماضي، واغتالت مواطنين مغاربة شاركوا في مظاهرات ضد فرنسا، تبقى ملفا مسكوتا عنه، ولم يسبق لأي سياسي فرنسي أبدا أن اعتذر عنه، رغم أن ضحايا التنظيم الإرهابي الأشهر في تاريخ الجمهورية الفرنسية يعدون بالآلاف.

ولفهم التقارب بين الرئيس «ماكرون» والجزائر، في سياق زخم إزاحة بوتفليقة من السلطة، يكفي الرجوع إلى تصريحاته أثناء حملته الانتخابية، حيث حاول من أعلى المنصة الخطابية أن يدغدغ عواطف الجزائريين، وقال إن استعمار الجزائر كان «جريمة ضد الإنسانية». وكأن فرنسا لم تستعمر أي بلد آخر في شمال إفريقيا وجنوب الصحراء، وإفريقيا الوسطى، ولم تمارس فيه سياسة استعمارية.

المؤرخ الفرنسي الشهير «جون باتيست» خرج أخيرا في حوار تلفزيوني، وقال إنه لا يفهم لماذا تقرّب «ماكرون» من الجزائر بهذه الطريقة، رغم أنه لا يتحدر من عائلة لديها روابط أو جذور تاريخية مع الجزائر، ولم يسبق لوالده ولا لجده أن عاشا في الجزائر. بل إن العائدات الاقتصادية لهذا التقارب تبقى منعدمة، في ظل ازدياد السخط الشعبي وتفاقم الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأصوات المطالبة بالإصلاحات الاجتماعية والنقابية في فرنسا، خصوصا بعد الجائحة. في حين أن تدهور العلاقات المغربية الفرنسية كلف فرنسا الكثير، سيما وأن «ماكرون» لم يعجبه انفتاح المغرب على السوق الدولية في مجال الطاقة النظيفة، وإبرام صفقات بملايين الدولارات مع اقتصاد منافس لفرنسا.

على «ماكرون»، في النهاية، أن يفكر في وضع النظارات الطبية عند مراجعة خطاباته الرسمية، قبل إلقائها أمام العموم.

يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى