من الطبيعي الشعور بمزاج سيئ أو حتى الكسل والانعزال، لكن عندما يزيد الأمر على حده ويتطور في شكل أعراض حادة وجسدية مزمنة في بعض الأحيان، غالبا ما يكون ذلك له علاقة بمرض نفسي. وقد بات نصف سكان الأرض يعانون من أمراض نفسية، أهمها الاكتئاب والرهاب، بحسب دراسة جديدة.
سهيلة التاور
الاكتئاب.. عوامل جينية وبيولوجية وبيئية
يعرف الاكتئاب بحالة من التدني الحاد والمستمر في المزاج التي تصيب الإنسان، مما تفقده قدرته على الاستمتاع بالأشياء التي كان يحبها سابقا.
ولا توجد أسباب واضحة للإصابة بالاكتئاب، لكنه يشير إلى أن مناطق الحروب والكوارث تشهد زيادة في حالات الإصابة بالاكتئاب، بسبب الظروف المحيطة. إذا إن هناك مجموعة عوامل تعزز الشعور بالاكتئاب، منها «عوامل جينية وبيولوجية وبيئية وظروف اقتصادية، وهي كلها محفزات للاكتئاب، لكنها ليست بالضرورة أسبابا للإصابة به. ويعد الأشخاص الذين عاشوا تجارب سلبية كالبطالة، أو فقدان شخص عزيز، أو المرور بأحداث صادمة، هم الأكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب».
وهناك سؤالان يمكن من خلالهما معرفة ما إذا كان المريض يعاني من هذا الاضطراب النفسي، الذي يفقده البهجة، أم من مجرد حالة حزن عادية. وهما: خلال الشهر الأخير هل تغيرت حياتك عن قبل؟ السؤال الثاني: هل في حياتك الآن، أصبحت لا تستطيع العمل؟ لا تذهب إلى الجامعة أو المدرسة؟ لا تستطيع ممارسة الرياضة؟ لا تستطيع الاختلاط بالناس؟ إذا أجاب بنعم، يكون المريض في حالة اكتئاب شديد.
وعادة ما تظهر أعراض الاكتئاب في صورة تعب جسدي، إذ إن 60 في المائة من مرضى الاكتئاب يعانون من آلام في المعدة أو الدماغ أوالعظام. وفي هذه الحالة يسمى الاكتئاب بالاكتئاب المقنع، أو الاكتئاب الجسدي، ولهذا يتوجه هؤلاء المرضى إلى طبيب الأمراض الباطنية، و ليس إلى الطبيب النفسي، وغالبا ما يكون سبب المرض نفسيا وليس عضويا.
الشباب وكبار السن
توجد ثلاث فئات عمرية أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب، هي الشباب، والنساء الحوامل أو بعد الولادة، وكبار السن.
وقال الدكتور دان تشيشولم، من إدارة الصحة العقلية بمنظمة الصحة العالمية: «الضغوط على شباب اليوم ربما لم يسبق لها مثيل في جيل آخر»، وتابع: «مجموعة مستهدفة أخرى هي النساء الحوامل، أو اللائي وضعن حملهن حديثا. الاكتئاب قرب تلك الفترة شائع بدرجة كبيرة للغاية؛ فنحو 15 في المائة من النساء سيعانين ليس فقط من انخفاض الروح المعنوية، وإنما حالة يمكن تشخصيها على أنها اكتئاب».
والمتقاعدون معرضون للخطر أيضا، وقال تشيشولم: «عندما نتوقف عن العمل أو نفقد شريك الحياة، فإننا نصبح أكثر وهنا، ونصبح أكثر عرضة للأمراض الجسدية، كما تكون اضطرابات مثل الاكتئاب أكثر شيوعا».
وذكر أن التقديرات تشير إلى انتحار ثمانمائة ألف شخص سنويا، وهو «رقم مروع للغاية، إنه أكثر شيوعا بين الذكور في البلدان الأعلى دخلا، لكنه أكثر شيوعا بين الإناث في البلدان ذات الدخل المنخفض إلى المتوسط».
وتدير منظمة الصحة العالمية حملة للتغلب على المفاهيم الخاطئة المتعلقة بتلك الاضطرابات، تحت عنوان «دعونا نتحدث عن الاكتئاب».
وقال تشيشولم: «نشعر بأنه إذا كنا نريد إخراج الصحة العقلية والاكتئاب وغيرهما من الاضطرابات العقلية من الظلال، فينبغي كخطوة أولى لنا أن نكون قادرين على الحديث بشأنها».
وفي شأن متصل، أفادت مراجعة حديثة لبحوث قائمة عن علاج السلوك الإدراكي بأن البرامج المتاحة عبر الإنترنت، ربما تستطيع مساعدة المرضى في تقليل أعراض الاكتئاب، دون اللجوء إلى المعالجين النفسيين.
وصممت برامج العلاج السلوكي الإدراكي الأوتوماتيكية التي تهدف إلى تغيير الأفكار والمواقف والمعتقدات غير البناءة لدى المريض، لتتيح له الحصول على العلاج بتكلفة أقل، ودون الشعور بوصمة اجتماعية، بسبب مرضه.
الرهاب الاجتماعي
يعتبر الرهاب الاجتماعي من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعا، إذ يصل معدل انتشاره إلى 13 في المائة من الناس، وغالبا ما يعتقد الناس أن هذا خجل وليس له علاج، وعلى الإنسان التعايش معه، أو التغلب عليه بمفرده، وهو أكثر شيوعا بين الذكور من الإناث.
وكثيرا ما تبدأ مظاهر الرهاب الاجتماعي في سن المراهقة، وتستمر لسنوات طويلة قبل الوصول إلى العلاج، وهذا يعني أن التشخيص قد يتأخر لفترة طويلة.
ومن الأعراض التي يمر بها مريض الرهاب، الشعور بالارتباك والتعرق واحمرار الوجه وارتجاف الأيدي، وتشتت التركيز والخفقان، والشعور بعدم التوازن، وخوف الشخص من كونه محط الأنظار لمجموعة صغيرة أو كبيرة من الناس، واعتقاد المريض أن الحضور سوف يراقبونه، ويكتشفون عيوبه وأخطاءه وقد يسخرون منه، وذلك حتى من زملائه في المدرسة أو الجامعة أو العمل.
كما يبدأ المريض بالتهرب من المواقف، وكلما تهرب رسخ الرهاب في داخله وأصبح يشكل نقطة ضعف قد تمنعه من الإقدام على أشياء يريدها، مثل متابعة الدراسات العليا، أو العمل في مهنة فيها تعامل مع الجمهور، أو الكلام مع الجنس الآخر والخطوبة والزواج، وهذا يؤدي إلى هبوط الثقة بالنفس، واليأس والإحباط والحزن، الذي سريعا ما يتطور إلى الاكتئاب، وأحيانا التفكير في الانتحار.
دراسة جديدة وأرقام جديدة
أفادت دراسة جديدة نُشِرَت في المجلة العلمية The Lancet»
«Psychiatry، بأن نحو نصف سكان العالم «يمكن أن يتوقعوا إصابتهم» بنوع واحد على الأقل من الاضطرابات العقلية، عندما يبلغون 75 عاما من العمر، وذلك وفق تقرير نشره موقع
«Axios» الأمريكي، الاثنين 7 غشت الجاري.
حيث ارتفع عدد الأمريكيين الذين يعانون من تحديات الصحة العقلية في السنوات الأخيرة، سيما أثناء وباء كورونا. ووجدت الدراسة أدلة على أن بعض الاضطرابات – مثل الاكتئاب والإدمان- آخذة في الارتفاع أيضا على المستوى العالمي.
ومن بين 13 اضطرابا شملها الاستطلاع، كان أكثرها شيوعا بين النساء هو الاكتئاب، ونوع محدد من الرُهاب ويُعرَّف الرُهاب بأنه «قلق مُعطِّل يؤثر في الحياة اليومية» واضطراب ما بعد الصدمة. وبالنسبة إلى الرجال، كانت الاضطرابات الأكثر شيوعا هي تعاطي الكحول والاكتئاب والرهاب المحدد.
وبالنسبة إلى الدراسة، التي نُشِرَت في المجلة العلمية
«The Lancet Psychiatry»، حلل باحثون بجامعة كوينزلاند الأسترالية وكلية الطب بجامعة هارفارد الأمريكية، بيانات من استطلاعات منظمة الصحة العالمية للصحة العقلية العالمية.
وتمثل مجموعة البيانات هذه أكبر سلسلة منسقة من الاستطلاعات المباشرة التي تُجرى حول هذه المسألة، إذ شارك فيها أكثر من 150 ألف بالغ من 29 دولة على مدار عقدين.
وخضع المشاركون في الاستطلاع لمقابلات تشخيصية نفسية منظمة بالكامل لتحديد العمر الذي ظهرت فيه هذه الأمراض لأول مرة، ومدى انتشارها، وخطر الإصابة بالأمراض بحلول سن 75.
وتشير النتائج إلى أن الاضطرابات العقلية «تظهر عادة لأول مرة في مرحلة الطفولة أو المراهقة أو سن الرشد»، وبشكل أكثر تحديدا، كان متوسط العمر الذي ظهرت فيه الاضطرابات 19 عاما للرجال و20 عاما للنساء.
وفقا لتحليل الباحثين لبيانات منظمة الصحة العالمية -التي لم تُنشَر من قبل- فإن شخصا من كل شخصين يُصاب بمرض عقلي واحد على الأقل. وهي زيادة حادة مقارنة بنسبة 1 من كل 8 أشخاص بجميع أنحاء العالم في عام 2019.
وقال المؤلف الرئيسي للدراسة جون ماكغراث، الأستاذ في معهد
«Queensland Brain Institute» بجامعة كوينزلاند، في بيان: «الأمراض الأكثر شيوعا كانت اضطرابات المزاج، مثل الاكتئاب الشديد أو القلق. ووجدنا أيضاً أن مخاطر بعض الاضطرابات العقلية تختلف حسب الجنس».
في حين أوضح ماكغراث: «من خلال إدراك المرحلة العمرية التي يشيع فيها ظهور هذه الاضطرابات، يمكننا تصميم تدخلات الصحة العامة، وتخصيص الموارد على النحو الذي يضمن إتاحة الدعم المناسب، وفي الوقت الملائم للأفراد المعرضين للخطر».
الاكتئاب والرهاب أكثر لدى النساء
أشارت دراسة بريطانية جديدة إلى أن الاضطرابات النفسية أكثر شيوعا لدى النساء منها لدى الرجال، بنسبة تتراوح بين 20 و40 في المائة. وقد عزت ذلك للتوتر الذي يتعرضن له بسبب توليهن مهاما عديدة، والصعوبات التي يواجهنها في المنزل والعمل وتقييم المجتمع.
وأجرى الدراسة الباحثان من جامعة أكسفورد، الأستاذ الدكتور دانيال فريمان والأستاذ الدكتور جيسون فريمان من قسم العلوم النفسية، ونشرت بعنوان «الجنس المتوتر، الكشف عن الحقيقة حول الرجال والنساء والصحة النفسية».
وأشار دانيال فريمان إلى أن مراجعة استطلاعات صحية نفسية وطنية، أظهرت أن الاضطرابات النفسية أكثر شيوعا بنسبة 20 إلى 40 في المائة لدى النساء من الرجال، موضحا أن التوتر الناجم عن الضغط على النساء لأداء أدوار عديدة، هو عامل أساسي في ارتفاع معدلات الاكتئاب والرهاب لديهن.
وأشار إلى أن النساء يصبن بمعدلات أكثر ارتفاعا من التوتر جراء المتطلبات المرافقة لأدوارهن الاجتماعية، إذ يُتوقع من المرأة أن تكون الراعية والمربية بالمنزل والعاملة، كما يطلب منها في الوقت ذاته أن يكون جسمها رشيقا ومظهرها مثاليا.
وأضاف دانيال أن ذلك يترافق مع تقليل لأهمية العمل المنزلي الذي تقوم به النساء، وحصولهن على رواتب أقل مقارنة مع الرجال، وصعوبة أكبر في التقدم بالوظائف، بالإضافة إلى «إمطارهن» بتوجيهات حول صورة المرأة المثالية.
كما أكد أنه من الطبيعي أن يكون لهذه العوامل أثر نفسي عليهن، لأنها تشكل عناصر ضغط قد تجعل النساء يشعرن بالإخفاق وعدم امتلاك مكونات النجاح الضرورية، وبأنه تم التخلي عنهن. وتقود هذه المشاعر في النهاية إلى مشاكل نفسية، مثل القلق والاكتئاب.
وأشار الباحثان إلى أن النساء يعانين معدلات أكثر ارتفاعا من الاكتئاب، والرهاب، والأرق، وضغط ما بعد الصدمة، واضطرابات الأكل.
غير أنهما أكدا أن الرجال يعانون أكثر من مشكلات تعاطي الكحول والمخدرات والسيطرة على الغضب.
وقال جيسون فريمان، الباحث الثاني في الدراسة، إن المشاكل الأكثر شيوعا لدى النساء – مثل القلق والاكتئاب- تؤثر أيضا في عدد كبير من الرجال، مما يجعلها مشتركة بينهما وليست محصورة لدى النساء.