شوف تشوف

الرئيسية

نشوة بعد طول انكسار

انقطعت عن الدراسة وأنا في مستوى الأول ثانوي، حسب نظام التربية الوطنية يومذاك.. لم أستطع أن أتأقلم مع الحياة الجديدة في الكاريان.. قلة ذات اليد والإحساس بالظلم والضياع.. كل ذلك جعل مخي يصاب بانسداد تام. حاولت أن أتعلم الخياطة، لكن معلمي كان زير نساء.. كانت حسنته الوحيدة أنه أطلعني على عالم النساء ومكرهن..
من حسنات «الإخوان» أنهم دفعوني إلى قراءة الكتب الإسلامية والمجلات والجرائد ذات النفحة الدينية.. شجعني «أبو أيمن» في ذلك كثيرا.. تفتقت عندي قريحة التعلم من جديد..

اقترح «الإخوان» علي الالتحاق مرة أخرى بأسلاك التعليم.. ذلك ما حصل بالفعل.. سجلت نفسي مباشرة في قسم الباكلوريا (حرة).. أي أني قفزت على المستويين الخامس والسادس ثانوي.. سهل علي التهام الكتب متابعة الدراسة بشكل مريح، خصوصا في المواد الأدبية والتاريخ والفلسفة.. اجتهدت كثيرا في تعلم اللغة الفرنسية والإنجليزية والرياضيات..
كان هدفي هو ألا أحصل على نقطة الصفر التي تحرمني من النجاح.. كافحت كفاحا مستميتا لكني رسبت في المحاولة الأولى.. أعدت الكرة في السنة الموالية.. تحسن مستواي الدراسي بشكل ملحوظ.. وحدثت المفاجأة أن اجتزت الباكلوريا.. أقول إن الفضل في هذا النجاح يرجع إلى التحاقي بالإخوان..

كنت ألتقي في الجموع العامة التي تقيمها «الحركة» ـ في بعض المناسبات ـ مع الطلبة والأساتذة والجامعيين والحاصلين على الدكتوراه والعلماء والمهندسين.. كنت أشعر بالخجل لضحالة مستواي العلمي أمامهم.. أتحاشى الكلام حتى لا يكتشفوا ضعفي وقلة باعي في علوم الإسلام.. كان همي في البداية هو التضلع في الفكر الإسلامي والفقه والحديث وأصول الفقه.. كنت أريد أن أتعلم كل شيء.. وأن أحفظ كل شيء.. وأن أقرأ كل جديد..

تحملت «زينب» قهر ماكينات الخياطة من أجل شراء الكتب والجرائد والمجلات.. لم تسع الفرحة والدتي عندما نجحت في الباكلوريا.. أطلقت زغرودة دوت في أركان الكاريان حتى علم الجميع أني نجحت في «الباك».. شعرت بنوع من الانتشاء أو الإحساس المفرط بالذات.. أرجع النجاح إلى نفسي بريقها وشعلتها.. كم هو جميل أن يشعر المرء ولو مرة واحدة في حياته بالتفوق..
كانت مسيرتي كلها انتكاسات.. وانكسارات.. وهواجس متتالية.. أفقدني ذلك معنى الحياة والإحساس بالنفس.. لأول مرة أشعر بالزهو والانشراح.. كأني أريد أن يعلم كل الناس منذ اليوم أني إنسان ناجح في دراسته وسينجح أيضا في حياته.. العلم والتعلم أعادا الثقة إلى نفسي..
فرح «الإخوان» أيضا بنجاحي وكفاحي من أجل تحسين وضعيتي الدراسية.. على الأقل أصبحت عطالتي عن العمل مبررة.. تخلصت من انتقادات والدتي.. عشت الهوان وأنا أرى «زينب» تذهب في الصباح إلى العمل بينما أنزوي إلى ركن البيت لقراءة الكتب والجرائد.. الآن على الأقل حققت شيئا مفيدا.. نسيت الوالدة كل شيء وأخذتني في حضنها.. شعرت بعد سنوات في الكاريان بدفء صدرها وحنانها الفياض.. أصبحت إذن رجلا هاما في البيت..

قلت لها معترفا ومازحا:
ـ هل تعلمين أمي.. أنا الذي أكلت بيض الدجاج.. وقتلت الفراخ.. وأفسدت أدوات التجميل الخاصة بك.. (ضحكت كثيرا وقبلتني)
طار أخي «محمد» من الفرحة عندما سمع بنبأ نجاحي.. هنأني كثيرا.. انتابني شعور أني تجاوزته.. هو بدوره تخرج من المعهد الأصيل.. أكمل حفظه للمتون والفقه والنحو… لكن ذهابي للجامعة جعله يشعر دائما بنقص تجاهي.. لكن ذلك زاده احتراما وقبولا عند والدي ووالدتي وأيضا عند فقهاء الكاريان.. احتفوا به كثيرا.. الآن أصبح في «براكتنا» متعلمان.. أحد تخرج من المدرسة العصرية.. والآخر تخرج من التعليم العتيق..

الحصول على «الباك» كان حدثا هاما في حياتي.. رد الاعتبار لنفسي أمام أسرتي وزادني حظوة عند الإخوان.. اقترح علي «أبو أيمن» أن ألتحق بالجامعة.. يا الله !!.. الجامعة؟؟؟ لم أصدق أني سأتابع دراستي بالجامعة المغربية بعدما انقطعت سنوات عن استكمال دراستي الثانوية.. يا لها من فرحة عارمة!!! في بعض الأحيان أشعر كأن رأسي يزداد طولا نحو السماء.. يتعالى.. يتعالى فوق براريك الكاريان.. كأني أنظر من فوق إلى الناس مثل أطفال يلعبون..

أريد أن أنسى أني من أصل بدوي.. أبذل جهدا جهيدا في قمع الدونية التي أحس بها وأنا في وحل الكاريان.. لم أستطع أن أتخلص من اللكنة البدوية في كلامي إلا بعد سنوات عديدة.. كل شيء ما زال على حاله.. الغبار والنفايات والبؤس يعشش في كل الجنبات.. الدعارة والحشيش والسكر.. وأيضا مكر «الفقهاء».. وتسلط «شقيفة» وسيده «القائد».. الدراسة الجامعية وحدها جعلتني أعلو نفسيا عن بؤس الحال إلا أني لم أستطع أن أنسلخ عنه نهائيا..

التحقت بكلية الآداب قسم الدراسات الإسلامية بإيعاز من الأخ «أبو أيمن».. سرت على منوال باقي الطلبة الإسلاميين الذين تستهويهم مثل تلك الدراسات.. من كان فيه شيء من «التدين» ارتمى بدون شعور وسط مدرجات كليات الآداب.. شعورنا القوي بالانتماء إلى «الجماعة» قوَّى عندنا الرغبة في إثبات ذلك من خلال دراسات وصفت تجاوزا بالإسلامية.. فتهَافَتْنَا جميعا على «لَحْسِ» العلوم التقليدية مثل الحديث وأصول الفقه والتفسير والبلاغة والسيرة.. كنا نبلع دون مضغ آراء الأقدمين وفهوماتهم واجتهاداتهم.. دخلنا إلى التراث باسم الدراسة الإسلامية ومكثنا هناك أربع سنوات دون أن نجد منفذا نخرج منه.. مرت أربع سنوات في الجامعة مثل سنا البرق الخاطف.. لم أستفد شيئا من التعليم الجامعي.. ربما ما قرأته من فكر عند بعض الكتاب كان أفيد من دروس بعض الأساتذة الذين يجترون التراث اجترارا وينهلون منه كالعميان.. ندمت كثيرا أني لم أختر شعبة أخرى أو أتجه إلى العلوم الاقتصادية أو القانونية أو حتى الرياضية والفيزيائية.. ربما سيكون ذلك أحسن حالا من التسكع في أركان الكليات وإضاعة الوقت في الكلام الفارغ.. لكن يمكن تصحيح ذلك في المستقبل.. كل شيء قابل للاستدراك.. كرهت «حلقات» الطلاب.. مقت شيئا اسمه «أوطم» (الاتحاد الوطني لطلبة المغرب).. في «حركتنا» الإسلامية كان لدينا قطاع طلابي بالجامعة.. كان ضعيفا جدا أمام طلبة فصيل إسلامي آخر (العدل والإحسان).. خيرني «الإخوان» بين أن ألتحق بهذا القطاع أو أن أبقى ملتزما بالجلسات التربوية الخاصة بالأساتذة والمهندسين والموظفين وعوام الناس.. لم أنشط أبدا مع الطلبة في أعمالهم «الحركية» داخل الجامعة.. بل لم أذهب إلى الكلية إلا مرات معدودة.. أستنسخ تلك الدروس البئيسة من عند الطلبة وألتهمها مثل الطعام الذي يأكله المريض مكرها.. اجتزت السنوات الأربع بالدراسات الإسلامية بتفوق.. ثم رميت بتلك الشهادة في سلة المهملات لأنها لا تصلح لشيء (…)

الجديد في هذه المرحلة أني بدأت أعتني بالكتب التي تنتقد الحركة الإسلامية من خارج التنظيم.. سواء من قبل اليساريين أو من الداخل من قبل بعض الإسلاميين الذين يريدون أن يُقَوِّموا العمل الإسلامي ويُرشِّدوا مساره.. لم أستفد كثيرا من المرحلة الجامعية.. ازداد ندمي عندما علمت أن شعبة الدراسات الإسلامية كانت فكرة ابتدعتها الدولة في إطار مرحلة سياسية معينة.. كما حكى لي ذلك «أبو أيمن».. ساهم النظام المغربي في تخريج أفواج كثيرة من «المعطلين» الإسلاميين اللهم بعض الاستثناءات التي كانت هنا أو هناك.. أدركت في ما بعد أني ضيعت وقتا ثمينا في دراسات غير مجدية من الناحية الفكرية وعلى مستوى الشغل.. الدراسة لم تغير شيئا من وضعيتي المادية.. ظلت أختي تمتهن خياطة الملابس.. وبقينا أنا وأخي نأكل الأوراق.. كنت رقما مضافا إلى زمرة خريجي هذه الدراسات.. على كل حال، أصبحت أتوفر على مستوى جامعي أتاح لي مكانة معينة عند الإخوان.. طيلة مدة دراستي كنت أحضر جلساتهم «التربوية» بانتظام.. أحضر جموعهم العامة.. أبحث عن كل محاضرة أو خطبة جمعة في كل مكان.. جالست بعض الخطباء والعلماء.. بمعنى آخر، أصبح الكاريان في نظري نقطة صغيرة وسط محيط عريض هائج..

كلما ازددت علما بدا لي المكان أضيق مما أشعر.. والدنيا أوسع مما أظن.. فما الذي يجعل الإنسان يسمو عن المحيط ويكبر في أعين الناس أكثر من المعتاد؟ إنه بكل بساطة العلم.. إنه يكسر حاجزي الزمان والمكان.. أما الجاهل، فيبقى طول حياته حبيسهما.. يظن أن الحياة كلها هي المكان الذي استقر فيه والزمان الذي يعيشه.. مع العلم تتمدد الآفاق وتتعدد الأبعاد.. ذلك ما حصل معي بالفعل.. تخطيت كل تلك الحواجز لأكتشف عوالم كثيرة ومجالات شاسعة..

شاء الله أن أطلع على عالم أشمل وأوسع من عالم الإخوان.. لكن هذا لا ينقص من قيمتهم وفضلهم شيئا.. لقد شكَّلوا بالفعل مرحلة عابرة في حياتي لها ما لها وعليها ما عليها.. ليس هناك أخطر من أن يبقى الإنسان حبيس مرحلة لا يتعداها أبدا.. من الواجب أن يبحث عما هو أفضل.. الخلاصة هي أن حياتي الجامعية لم تعرف أحداثا هامة تذكر، لأني كما قلت لم أنخرط في العمل الطلابي، كما أني لم أكن من المغرمين بالتسكع في أرجاء الكليات.. حياتي كانت من الكاريان وإليه.. أعتبره نسخة مصغرة لمجال أكبر.. كان هو مدرستي الحقيقية.. لأنه قريب من الناس.. ومن همومهم.. فيه كل المتناقضات وفيه أيضا أشياء جميلة لا تنسى.

تجاهله المسؤولون سنين طويلة، فلم يكن غير «الدم» ليثير إليه الاهتمام.. ويجذب إليه همة رجال الدولة.. هو المفتاح لفهم واقعنا الحالي وما نعاني منه من تشرذم فكري وهيجان اجتماعي..
على دعائم الكاريان والمناطق المنكوبة بنى «الوصوليون» مجدهم السياسي..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى