شوف تشوف

الرأي

نساء خالدات

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

يحكى أن رجلا من عقلاء العرب في موقع قيادي في قومه، عاصر النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما أراد الحج وكانت شعيرة يقوم بها مشركو العرب قبل الإسلام، جاءه قومه، فقالوا له: نريد أن نحذرك من رجل خطير اسمه محمد يبشر بدين جديد، فاحذر أن تسمع منه إن اجتمعت به، فلم يسمع له أحد إلا سحر.

أصغى الرجل باهتمام لما قالوه، وأخذ نصيحتهم على محمل الجد. واحتياطا لأي تحول في عقله، سد أذنيه بالقطن. ثم قام بشعائره في مكة، حتى انقضى الموسم. وقبل الانصراف سمع بحديث الناس عن هذا الرجل الكاريزمائي الساحر، ثم خاطب نفسه فقال: يا فلان والله إنك رجل عاقل ولا يمكن أن يضحك عليك أحد ببساطة، فاذهب واسمع منه، ولسوف تعرف إن كان صادقا أو محتالا.

تقول الرواية إن الرجل نزع القطن من أذنيه، ثم ذهب فاجتمع بهذا الصابئ المرتد عن دين قومه، والذي يبشر بتعاليم انقلابية، مثل أن تكون المرأة مثل الرجل. فلما سمعه خشع قلبه، وقال: يا محمد امدد يدك أبايعك. وعندما رجع إلى قومه قالوا: كنا في مصيبة، فأصبحت اثنتين، لأن الرجل بدأ يبشر بدين محمد. ولكنهم لم يأخذوه إلى محاكم طالبان، لأنه يبشر بدين جديد.

هذا الصحابي سمح لمنافذ الفهم بأن تستقبل موجات الفكر فتغير.

ويروى عن «حسن البنا»، أن الملك فاروق كان يتجنب الاجتماع به، لأن من حوله كان يحذره منه: إنك إن اجتمعت به سحرك، فآمنت بما يدعو إليه.

وعندما يصف «مالك بن نبي» الرجل في كتابه «وجهة العالم الإسلامي»، يروي طرفا من سحر الرجل فيقول: «ولتغيير الفرد لم يستخدم ذلك الزعيم سوى الآية القرآنية، ولكنه كان يستخدمها في الظروف النفسية نفسها، التي كان يستخدمها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده. وهذا هو السر كله أن تستخدم الآية كأنها فكرة موحاة، لا فكرة محررة مكتوبة. وإذا كان قد أتيح لذلك الزعيم أن يؤثر تأثيرا عميقا في سامعيه، فما ذلك إلا لأنه لم يكن يفسر القرآن، بل كان يوحيه إلى الضمائر التي يزلزل كيانها، فالقرآن لم يكن على شفتيه وثيقة باردة أو قانونا محررا، بل كان يتفجر كلاما حيا وضوءا آخذا يتنزل من السماء فيضيء ويهدي، ومنبعا للطاقة يكهرب إرادة الجموع. ولم يكن الرجل يتحدث عن ذات الله كما صورها علم الكلام، أي عن الله العقلي، بل كان يتحدث عن الله الفعال لما يريد. فالحقيقة القرآنية تتجلى بأثرها المباشر على الضمير وبتأثيرها في الناس والأشياء». ويروي «الوردي» عن امرأة مذهلة هي «قرة العين»، عاشت في النصف الأول من القرن التاسع عشر وأصلها من «قزوين»، جمعت بين أربع صفات: الجمال الفاتن والذكاء المفرط والشخصية القوية واللسان الفصيح، وهي صفات لا ينال المرء واحدة منها. ويصفها أخوها على النحو التالي: «إننا جميعا ما كنا نقدر أن نتكلم في حضرتها، لأن علمها كان يرعبنا، وإذا تصادف وتكلمنا في مسألة، فإنها كانت تتكلم بكل وضوح وإتقان على البداهة، حتى نعلم أننا أخطأنا السبيل ونتركها ونحن متحيرون». هذه المرأة النارية الساحرة أصبحت حديث أهل طهران، فاجتمع الرجال والنساء على حديثها الساحر، ولم يكن يسمعها أحد إلا زلزل وارتج وبكى من التأثر. وكان مصيرها أن قتلت بوضعها: «في فوهة مدفع وأطلقت عليها قنبلة مزقتها إربا إربا»، ويقال إنها: «خنقت بمنديل من الحرير قدمته بنفسها إلى جلادها، ثم أنزلت في بئر وهيل عليها التراب»، وليس لها قبر. ووصف «الكونت دي غوبينو»، في كتابه «الأديان والفلسفات في آسيا الوسطى»، بقوله: «كان الكثير من الذين عرفوها وسمعوها في أوقات مختلفة من حياتها، يذكرون لي دائما أنها فضلا عما اشتهرت به من العلم والغزارة في الخطب، فإن إلقاءها كان من السهل الممتنع، وكان الناس أثناء تكلمها يشعرون باهتزاز وتأثير إلى أعماق قلوبهم، مفعمين بالإعجاب وتنهمر دموعهم من المآقي».

ويعلق على هذه الشخصية النادرة عالم الاجتماع العراقي «الوردي» فيقول: «إنها عبقرية جاءت في غير زمانها، أو هي سبقت زمانها بمائة سنة على أقل تقدير، فهي لو كانت قد نشأت في عصرنا هذا وفي مجتمع متقدم حضاريا، لكان لها شأن آخر، وربما كانت أعظم امرأة في القرن العشرين».

وبغض النظر عن توجهاتها الفكرية، فهي كانت امرأة تجدد بدون توقف، ولو امتد بها العمر لربما غيرت أكثر في آرائها، فأناس من هذا الطراز من العبقرية لا يقفون عند خرافة وشخص، بل يحرقون في طريقهم كل الخرافات، ويتجاوزون الأشخاص والمدارس، ليقنصوا طرفا من الحقيقة بعد حين، ويشقوا الطريق إلى منهج جديد ومدرسة مستحدثة.

كانت الأميرة «صوفي شارلتنبرغ» تحاور الفيلسوف الألماني «ليبنتز»، وكانت تقول: لم يشرح لي الفيلسوف كل شيء، وسيكون الموت هو الذي سيجيبني عن آخر معضلات الفلسفة. ومع سكرة الموت تشتد الرؤية فبصرك في ذاك اليوم حديد.  

 

نافذة:

أناس من هذا الطراز من العبقرية لا يقفون عند خرافة وشخص بل يحرقون في طريقهم كل الخرافات ويتجاوزون الأشخاص والمدارس ليقنصوا طرفا من الحقيقة بعد حين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى