إعداد وتقديم: سعيد الباز
كانت المرحلة التاريخية الممتدة من نهاية القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين فترة ظهور نساء خارقات اكتسبن صفة الأيقونات الملهمة للكثير من رجال الفكر والأدب. دار حولهن لغط كبير وحامت حول شخصياتهن أساطير متعددة، وارتبطت بحياتهن الخاصة والعامة حوادث مهولة ومثيرة من خيانات وخصومات إلى الانتحار والجنون، فضلا عن المآسي العائلية والخيبات الشخصية. غير أنّ السمة المشتركة والغالبة عليهن أنّهن كنّ لامعات ومفرطات الذكاء يجمعن بين سعة الثقافة والجرأة في التفكير والتعبير عن الرأي، يمتلكن خصلة التمرّد على كلّ الأعراف والمواضعات الأخلاقية والاجتماعية. ولأنّ هالة من السحر والغموض أحاطت سيرتهن وتفاصيل حياة كل واحدة منهن، فقد ارتبطت أسماؤهن وتأثيرهن الواضح بشكل أساسي ونهائي بحركية الأدب والفن خلال هذه الفترة المهمة من تاريخ الفكر والإبداع الإنساني في العصر الحديث.
فريدا كاهلو: ما حاجتي إلى قدميّ ولديّ أجنحة تطير
أغرب شخصية فنية وأكثرها إثارة سواء في حياتها الخاصة أوعلاقاتها بكبار الفنانين والمفكرين ورجال السياسة في عصرها. كانت فريدا مثالا لفنانة شابة متحررة ذات صفات ثورية واضحة حيث انتسبت مبكرا إلى الحزب الشيوعي وارتبطت بالرسام المكسيكي الشهير دييغو ريفيرا الذي كان يكبرها بأكثر من عشرين عاما. كانت حياتهما الزوجية غير مستقرة خيّمت عليها الخيانات والخيانات المضادة انتهت إلى الطلاق والعودة ثانية إلى عش الزوجية. وفي ظلّ هذه الحياة الصاخبة، برزت هذه الفتاة الفنانة بسحر شخصيتها ولباسها المثير والتقليدي لنساء الهنود الحمر وبأعمالها الفنية. كانت فريدا كاهلو تخفي من خلال غرابة مظهرها وقوة شخصيتها طفولة تعيسة وشقية، فقد أصيبت بمرض شلل الأطفال، وتعرضت في مطلع شبابها إلى حادثة سير ظلت تعاني من آثارها طيلة حياتها القصيرة، حيث لم تكن مشيتها سوية ومرغمة على ارتداء تنورات طويلة لإخفاء إعاقتها. كان منزل فريدا ودييغو، الذي أطلقا عليه اسم «البيت الأزرق»، محجا للكثير من الفنانين والمفكرين والساسة، مثل الشاعر الفرنسي أندري بروتون وزوجته، والزعيم السياسي ليون تروتسكي الذي أقام فيه رفقة زوجته هربا من ملاحقة ستالين، قبل أن تتفجر علاقته بمضيفته فريدا كاهلو. الصور التي تناقلتها الصحف العالمية لاستقبال فريدا للزعيم الثوري تروتسكي وزوجته لاجئا من النرويج، كان لها صدى كبير في الانتباه إلى هذه الفنانة الغريبة الأطوار، ما عزز صورتها كأيقونة فنية مثيرة. أعمال فريدا ذات طابع شخصي رغم أن البعض يصنفها ضمن التيار السوريالي، لكنّ فريدا ظلت تشدد على أنّها تنتمي للتيار الواقعي وأنّها ابتكرت لنفسها أسلوبا خاصا ذا مسحة بدائية يرتكز في معظمه على البورتري الذاتي شبيه بأعمال فانسان فان كوغ، اتّخذته وسيلة للتعبير عن آلامها الجسدية والنفسية، أو كما قالت: «رسوماتي تحمل في ذاتها رسالة الألم»، إلى درجة أنّها كتبت في إحدى رسائلها الأخيرة: «أتمنى أن يكون خروجي من الدنيا ممتعا، وأتمنى أن لا أعود إليها ثانية». لقد كانت عذاباتها الجسدية والروحية أحد أهم دوافعها لإبداع لوحاتها الاستثنائية، حيث امتلكت شكلها الخاص في التحليق بعيدا عن آلامها تماما كما عبرت عن ذلك: «ما حاجتي إلى قدميّ ولديّ أجنحة تطير». في كتابها «الرسائل» ترسم لنا طبيعة علاقتها المضطربة بزوجها دييغو ريفيرا: «هل يجب أن أمتلك فعلا رأس بغل كي لا أفهم على الإطلاق كل ما يجري من حولي: الرسائل وقصص الفساتين ومعلمات اللغة الإنكليزية والغجريات اللواتي يعملن على الجلوس أمامك لرسمهن وكل النساء اللواتي يظهرن اهتماما «بفن الرسم» واللواتي يحضرن من الخارج. كل هذا تفاصيل مسلية وأنا أعرف أن ما بيني وبينك هو حب بالمعنى العميق للكلمة، وحتى لو عشنا كل هذه المغامرات وكل هذه الخناقات التي تليها دائماً أبواب تقفل وشتائم، فنحن نحب بعضنا على الرغم من كل شيء. وأظن أنني بالفعل غبية إلى حد ما لأنني طوال الأعوام السبعة التي عشناها سوية وبعد كل نوبات الغضب التي كنت أمر بها، أرى نفسي اليوم أنني ما توقفت عن حبك وأنني أحبك أكثر من جلدي، وحتى لو أنك لا تحبني بنفس القدر فإنك على الأقل تحبني قليلا، أليس كذلك؟ وإذا لا، فأنا أحتفظ دائماً بالأمل للوصول إلى ذلك، وهذا يكفيني. أحبني قليلا وأنا أعبدك».
ليلي بريك.. ملهمة شاعر الثورة الروسية
ليلي بريك (1891-1978) كاتبة وممثلة ومخرجة سينمائية روسية من عائلة مثقفة وذات ميول أدبية وفنية، أختها الكبرى الكاتبة إلزا تريولي، التي ستقترن بالشاعر الفرنسي لويس أراغون الذي سيخلد اسمها في العديد من أعماله الشعرية، من أشهرها «مجنون إلزا». كانت ليلي متزوجة بالمحامي أوسيب بريك الناشر وعاشق الشعر، عندما التقت فلاديمير ماياكوفسكي الذي كان يعتبر شاعر الثورة الروسية، وأنصتت إليه ينشد قصيدته الشهيرة «غيمة في سروال» في صالون بيتها، فأصيبت بالذهول أمام قوة إلقائه غير المعتادة التي تميّز بها عن بقية الشعراء، فهو كما قال: «أقرأ كما لو أنّي في حالة سكر». منذ تلك اللحظة بدأت العلاقة بينهما، خاصة بعد صدور ديوانه «غيمة في سروال» الذي مثل تحولا كبيرا في مسيرته الشعرية حاملا الإهداء إلى ليلي بريك. ورغم أنّها ظلت متزوجة وأنّ ماياكوفسكي لم يغيّر من عادته في استبدال عشيقاته المتعددة، فإنّ الرابط بينهما بقي مستمرا ومتواصلا بين مد وجزر، تتخلله أحيانا فترات هدوء وسلم، وأحيانا أخرى فترات عواصف وحروب.
ففي رسائله لم يتوقف فلاديمير ماياكوفسكي عن تذكير ليلي بريك بأهميتها القصوى في حياته: «لا تنسي، بصرف النظر عنك، لست بحاجة إلى أيّ شيء، ولا شيء يهمني». بعد فترة قصيرة من الود بين الثورة وشاعرها، تأزمت علاقته بالسلطة الثورية وبدأ بالمجاهرة بانتقاد البيروقراطية وآرائه في حرية واستقلالية الإبداع، ما أخضع كتاباته إلى الرقابة وحذف مقاطع منها. دخل ماياكوفسكي في حالة اكتئاب حادة وشعر كما لو أنّ الثورة قد سرقت منه، وقد كانت بالنسبة إليه المبرر الوحيد لحياته، فقرر أن يضع حدا لحياته مثل صديقه الشاعر سيرغي يسنين، الذي كان قد عاب عليه الإقدام على هذه الخطوة بقوله: «في هذه الحياة/ الموت ليس صعبا/ بناء الحياة/ هو الأصعب بكثير». لكن من سخرية القدر، وبعد خمس سنوات سينتحر ماياكوفسكي تاركا وصيته الشهيرة:
إلى الجميع!
أنا أموت، لا تتّهموا أحدا، الميت يكره ذلك كثيرا.
أماه، أختي، رفاقي، سامحوني، ليست هذه بالطريقة الصحيحة (لا أنصح بها أحدا)
لكن لم يكن لديّ حلّ آخر.
«ليلي» أحبيني.
يا رفيقتي الحكومة: عائلتي ليلي بريك، وأمّي، وأختاي، وفيرونيكا فيتولدوفنا بولونسكايا.
شكرا إذا جعلت حياتهن ممكنة.
أعطوا القصائد التي بدأتها إلى آل بريك، فهم سيفهمون.
وكما يقولون: «الحادثة باتت منتهية»
تحطم زورق الحبّ في لجّة الحياة المتلاطمة.
أنا في حل من الحياة
لا جدوى من استعراض الآلام والمصائب
والإساءات المتبادلة.
كونوا سعداء.
منذ وفاة فلاديمير ماياكوفسكي تولت ليلي بريك مهمة نشر أعماله وتحقيقها والاشتغال على المسودات والإشراف عليها باعتبارها وريثته الرئيسية، حتى انتحارها هي الأخرى بعد مضي ما يقارب نصف قرن على موته وهي في السابعة والثمانين من عمرها.
مي زيادة.. أيقونة الأدب العربي الحديث
يمكن اعتبار مي زيادة (1886-1941) أيقونة الأدب العربي الحديث، فهي كاتبة ومترجمة فلسطينية ولبنانية أتقنت عدة لغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وكانت من أوائل الكاتبات العربيات وصاحبة أوّل صالون أدبي في العالم العربي. تحلّق حولها الكثير من الكتاب والمفكرين والشعراء والأدباء الذين فتنوا بجمالها وثقافتها الواسعة وسعوا إلى التقرّب منها ونيل الحظوة لديها. لذلك عاشت مي زيادة العديد من العلاقات المتوترة جراء هذا الافتتان، فقد هام بها الكاتب اللبناني أنطون الجميل، وخصّها شعراء كبار مثل أحمد شوقي بإشارات غزلية لماحة، وحتى الكاتب مصطفى محمود العقاد بشخصيته الطاغية قد ردت على رسائله: «حسبي أن أقول لك: إن ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرتُ به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان. بل إنني خشيتُ أن أفاتحك بشعوري نحوك منذ زمن بعيد، منذ أول مرة رأيتك فيها بدار جريدة المحروسة. إن الحياء منعني، وقد ظننتُ أن اختلاطي بالزملاء يثير حمية الغضب عندك. والآن عرفتُ شعورك، وعرفتُ لماذا لا تميل إلى جبران خليل جبران، ولا تحسب أنني أتهمك بالغيرة من جبران، فإنه في نيويورك لم يرني، ولعله لن يراني، كما أني لم أره إلَّا في تلك الصور التي تنشرها الصحف. ولكن طبيعة الأنثى يلذ لها أن يتغاير فيها الرجال وتشعر بالازدهاء حين تراهم يتنافسون عليها! أليس كذلك؟! معذرة، فقد أردت أن أحتفي بهذه الغيرة، لا لأضايقك، ولكن لأزداد شعورًا بأن لي مكانة في نفسك، أهنئ بها نفسي، وأمتّع بها وجداني». غير أنّ علاقة مي العاطفية بالشاعر اللبناني جبران خليل جبران عن طريق المراسلة التي دامت عشرين عاما، والتي كانت على ما يبدو معروفة في الوسط الأدبي، كانت محور حياتها. بموت والدها ووفاة جبران، فقدت توازنها النفسي وبدأت تتردد على عيادات الطبّ النفسي لتتلقى العلاج. الأسوأ هو ما كان بانتظار مي زيادة حيث تكالبت عليها أطماع بني عمومتها فاستدرجوها إلى بيروت بدعوى الزيارة وألقوا بها في مستشفى المجانين وجرّدوها من ممتلكاتها وكتبها ومخطوطاتها. فهبّ كتاب لبنان لإنقاذها من سجن المستشفى، لتعود إلى مصر، لكن خائرة القوى ولتعتزل الناس حتى استسلامها أخيرا للموت…
من رسائلها إلى الشاعر اللبناني جبران خليل جبران الذي كان مقيما في أمريكا حيث توفي ولم يتم اللقاء بينهما: لقد توزّع في المساء بريد أوروبا وأمريكا، وهو الثاني من نوعه في هذا الأسبوع، وقد فشل أملي بأن تصل فيه كلمة منك. نعم، إنّي تلقيت منك في الأسبوع الماضي بطاقة عليها وجه القدّيسة حنّة الجميل، ولكن هل تكفي الكلمة الواحدة على صورة تقوم مقام سكوت شهر كامل… لا أريد أن تكتب إليّ إلّا عندما تشعر بحاجة إلى ذلك أو عندما تنيلك الكتابة سرورا، ولكن أليس من الطبيعي أن أشرئب إلى أخبارك كلّما دار موزّع البريد على الصناديق يفرغ فيها جعبته!… أيمكن أن أرى الطوابع البريدية من مختلف البلدان على الرسائل، حتّى طوابع الولايات المتحدة وعلى بعضها اسم نيويورك واضح، فلا أذكر صديقي ولا أصبو إلى مشاهدة خطّ يده ولمس قرطاسه.
… ولتحمل إليك رقعتي هذه عواطفي فتخفّف من كآبتك إن كنت كئيبا، وتواسيك إن كنت في حاجة إلى المواساة، ولتقويك إذا كنت عاكفا على عمل، ولتزد في رغدك وانشراحك إذا كنت منشرحا سعيدا.
مي زيادة
لو أندرياس سالومي.. امرأة قاهرة للعباقرة
لو أندرياس سالومي شاعرة وروائية وناقدة ومحللة نفسية من أصول روسية وألمانية، ذات ثقافة واسعة وشخصية طاغية إضافة إلى حياتها المتحررة. أغرم بها رجالات عصرها خصوصا مشاهير العباقرة، من الفيلسوف فريدريك نيتشه إلى الشاعر راينر ماريا ريلكه ورائد مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد. كان لسحر شخصيتها وعمق تفكيرها الأثر الكبير لكلّ من دنا منها أو جاورها في اللقاءات الفكرية والأدبية والفنية التي كانت ألمانيا مسرحا لها في حقبة كان الفكر الألماني في أكثر لحظاته توهّجا. التقى نيتشه بسالومي أوّل مرّة عن طريق صديقه الفيلسوف الألماني بول ريه Paul Ree فكان لقاء صاعقا عبّر عنه بقوله مرتبكا: «من أيّ نجوم أتينا لنلتقي أخيرا؟». كان عمره يقارب الثامنة والثلاثين وقد كتب تقريبا جلّ أعماله الأساسية التي جعلت منه واحدا من أهمّ الفلاسفة الألمان والتاريخ الحديث برمّته، بينما سالومي لم تكن تتجاوز الواحد والعشرين عاما. سارع نيتشه إلى طلب الزواج منها لكنّها رفضته بشكل قاطع ممّا أدخله في حالة من الاكتئاب الشديد ثم سلسلة من الهذيانات أفضت إلى كتابة أوسع كتبه انتشارا «هكذا تكلّم زرادشت»، نفث فيه كلّ روحه الفلسفية، وفيه نعثر على الجملة الشهيرة: «هل أنت ذاهب إلى المرأة؟ لا تنس السوط!». من ثمرة هذا اللقاء العاصف الذي كان ينذر بالنهاية المأساوية لنيتشه، كأحد أكبر القمم الفكرية التي شهدتها الإنسانية، نحو هاوية الجنون، قصائده في لو سالومي التي أدارت ظهرها له وسلمته إلى مصيره المحتوم:
اجعلي شعلتك، يا روحي، تتقد
دعيني في لهيب الصراع أجد جواباً لجوهرك اللغزي
دعيني أفكر وأحيا ألفاً من السنوات
وأرمي فيها كل ما لديك… كلّه.
وإن لم يكن لديك من سعادة باقية تقدمينها لي
فلن يكون في وسعك أن تزيدي من آلامي.
أمّا الشاعر ريلكه فقد التقى بسالومي وهو في سنّ الثانية والعشرين، وهي في السادسة والثلاثين من عمرها ورغم زواجهما التهبت مشاعر الحبّ بينهما، خلفت هذه العلاقة الكثير من أشعار ريلكه الشهيرة:
أطفئي عينيّ، سأظلّ أراك.
صمّي أذني، سأظلّ أسمعك،
حتّى بلا قدمين سأشقّ دربي إليك،
وبلا فم سأذكر اسمك.
اكسري ذراعيّ وسأضمّك
بقلبي مثل يد.
أوقفي قلبي وسيخفق دماغي،
وإن أضرمت في دماغي النّار
سأشعر بك تحترقين في كلّ نقطة من دمي.
كان لشخصية سالومي حضور طاغ مع تمركز حول ذاتها بلغ درجة النرجسية، وصفها نيتشه بأنانية القط، إضافة إلى سعة ثقافتها وحدة ذكائها، ما جعل الكثير من كبار عصرها يقعون في حبائل حبها الذي دفع البعض منهم إلى الإقدام على الانتحار أو قادته إلى الجنون مثل نيتشه، حتى أنّ العجوز سيجموند فرويد عبّر عن إعجابه فكان الوحيد من ظفر بتقديرها واحترامها.
من قصيدة لها بعنوان «صلاة للحياة» وردت في سيرتها، يبرز هذا المنحى المعقد في شخصيتها:
يقينا، كما نحب صديقا
أحبك أيتها الحياة الغامضة.
إمّا جعلتني أبتهج أو أبكي
إمّا حملت لي سعادة أو بؤسا
أحبك بكل فظاظتك،
إذا ما تعيّن عليك محوي،
فإنّي أتملص من ذراعيك
كما يتملّص المرء من حضن صديق.