شوف تشوف

الرأي

نحن والغرب: في النقد الموضوعي

عبد الإله بلقزيز
كل نقد لمجتمع أو ثقافة أو مدنية مدعو، لكي يكون نقدا موضوعيا وبناء، إلى أن يلحظ جملة من القواعد الأساس التي عليها مبنى النقد الموضوعي، وأن يتحاشى السقوط في مطبات كثيرا ما ينزلق إليها الناقدون. ونحن نشير، هنا، إلى خمس منها:
القاعدة الأولى تشدد على وجوب التمييز بين الأبنية والمستويات في المسألة موضوع النقد؛ فلا يُنظر إلى الموضوع المتناول بالنقد بوصف كلية مغلقة لا اختلاف فيها ولا تباين ولا تنوع. لا مناص، إذن، من عزل البناء المنقود والتصريح بالأسباب التي تدعو إلى نقده، ومن تحاشي تعميم الحكم عليه بما يوحي وكأنه حكم على سائر أبنيته ومستوياته. وهكذا، حين يكون موضوع النقد هو الغرب، علينا أن نحدد أي غرب يراد نقده: الغرب السياسي أو الغرب الثقافي، غربُ الحكومات والسياسات الرسمية أو غرب الشعوب؟ فلكل مقام في الموضوع مقال يناسبه، والخلط بينهما تغليط وتعمية وطِلْبَةٌ إيديولوجية مغرضة.
والقاعدة الثانية تشدد على التعيين الدقيق للموقع الذي يقف فيه الناقد في نقده، وللحاجات الموضوعية والذاتية التي تحمله على توسل فعل النقد في علاقته بالموضوع الذي يدرسه، فضلا عن تبين مدى مشروعية استقاء مادة نقده، أو استعارتها، من نقد آخر جرى من موقع مختلف عن موقع الناقد ولحاجات أخرى غير حاجاته هو. ولذلك، حين ينتقد مفكرون ومثقفون غربيون غربهم وحداثتهم نقدا عميقا، فهم يفعلون ذلك من موقعهم الخاص: موقع من عاشوا تلك الحداثة وتشبعوا بمكتسباتها واستفادوا من ثمراتها قبل أن تتبين لهم، في ما بعد، مواطن العَوَار فيها أو القصور أو المفارقة. وغني عن البيان أن هذا غير موقع من ينتقد الغرب من خارجه؛ أي من موقع مجتمع وثقافة مختلفين، ومن موقع تجربة تاريخية خاصة لم يقيض لها، بعد، أن تعيش الحداثةَ واقعا ونظاما اجتماعيا، وأن تصطدم في الوجود الاجتماعي بالمشكلات التي تطرحها.
والقاعدة الثالثة تقضي بوجوب احترام النقد لمبدأين فيه: الموضوعية، ووضع الظاهرة موضوع النقد في سياقاتها. ما أغنانا عن القول إن نقدا يجانب الموضوعية لا يكون نقدا؛ هو إلى المهاترة والمضاربة الإيديولوجية أقرب، وغالبا ما يُفْحِش مثل هذا «النقد» في القذع فيأتي من الألفاظ الأبذأَ والأرذل، ليتحول إلى ما يشبه جلسةَ نقم وشفاء غليل؛ وليس يساوي ذلك مثقال ذرة في ميزان المعرفة. وبالمثل، لا يفيد قضيةَ النقد في شيء تَسَقُّطُ المنقود وعزْلُه عن سياقه، الذي تَكَونَ فيه، ثم الإنحاء عليه بالتشنيع من غير بيان «أسباب النزول». وهكذا لا ينتمي إلى النقد «نقد» يستسهل تحويل التحقيق إلى محض قائمة اتهامات، وتدبيج أحكامٍ في صورة شتائم لا وظيفة لها سوى تجييش النفوس، بدلا من بيان مباني الانحراف أو الشطط أو الكيدية في الموضوع المنقود؛ وما أكثر مثل هذا الضرب من النقد غير الموضوعي الذي مدارُة على الغرب: سياسة أو مدنية وثقافة. ثم ما من فائدة ترجى من نقد مادية الغرب أو فردانيته أو دعاويه المركزية الذاتية… من دون قراءة الظاهرة في سياقاتها التاريخية، وربطها بالأسباب التي أفضت إليها، والتي قد لا تكون خاصة به، ودائما، بل ذات مفعول مشابه في غيره من المدنيات والثقافات.
والقاعدة الرابعة تتحرى أن يكون النقد جدليا، وأن يكون تاريخيا حتى يستقيم ويتوازن. وبيان ذلك أن نقدا لا يرى إلا إلى السلبيات فيما يطمس الوجه الآخر الإيجابي، نقد أحادي خال من الجدلية التي هي عينها جدلية الظاهرة موضوع النقد. وإلى ذلك لكل ظاهرة تاريخ خاص بها، فتراها إما تَصْعَد فيه من الأدنى إلى الأعلى، أو تنحدر فيه – وتتدهور- هابطة من الأعلى إلى الأدنى. إن تاريخية الظاهرة لا تعني، ابتداء، إلا أن هذه لم تولد ناجزة، بل تطورت وتحولت. وهكذا لا يجوز اختزال الغرب في نقائصه ومساوئه وتقديمه في صورة نمطية سلبية، وإسقاط وجوه العطاء الإنساني فيه لمجرد الرغبة في اغتيال معناه؛ مثلما ليس يجوز الحكم على ظواهره السلبية من غير تكلف عناء قراءة التاريخ الذي تطورت فيه تلك إلى أن صارت إلى ما صارت إليه.
أما القاعدة الخامسة فتقول إنه من غير المشروع أن تُرْكَبَ صَهْوةُ نقدِ الآخر لغرض – يشبه دواعي النقد – هو تلميع الأنا وتبجيلها وتوسل المشروعية لها. وهكذا لا معنى لنقد عيوب الغرب وتمركزه الذاتي ومواطن العطب والخلل فيه، على نحو يضمر فيه الناقد رغبة في التسويغ لمركزية ذاتية نقيض تُوضَع مقابل مركزية المُنْتَقَد؛ وذلك، بالذات، ما يسقط فيه الأصاليون كلما تحدثوا عن الغرب.
هذه قواعد تضع المائز بين ضربين من النقد: نقد موضوعي بناء يتغيا تصحيح سيرة الغرب: مع نفسه ومع العالم، انطلاقا من مبادئه التي انطلق منها وحاد عنها في مسيرته التاريخية؛ ونقد إيديولوجي يغترض غرضا سيئا: التشنيع على الغرب، كل الغرب بِعُجَرِهِ وبُجَرِهِ، بحسناته وسيئاته، بمكتسباته العظيمة وسقطاته، والانتقال من ذلك إلى تمجيد الذات والتراث والهوية، والسكوت عن مشكلاتها مع الإيحاء بأن أسبابها ليست منها، بل خارجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى